إن كان التاريخ لا يعيد نفسه، فإن سننه مطردة في الاجتماع الإنساني. وإن كانت أدبيات علم الاجتماع الثقافي في مصر ملغومة بالمركزية حول الذات الوطنية وملامحها الجغرافية المتحيزة، فإن تشابهات التاريخ السياسي لأنظمة الحكم في «هِبة النيل» تؤكد وجود خصوصية مصرية في استمرار زحف مركز الحكم نحو الشمال الشرقي منذ بداية العصر العربي الإسلامي حتى العصر الحالي. وعلى الرغم من استساغة التشابهات القديمة خلال تاريخ «القرون الوسطى» ـ من دون تحميل المصطلح بالدلالة الغربية المنحازة ـ إلا أن المفارقة الآن هي اتصال الحاضر المصري بماضٍ سحيق ظن كثيرون، على سبيل الخطأ والعجلة، أن القطيعة معه بدأت في عصر محمد علي وترسخت في الفترة الناصرية.
لا يخفَى على أي متابع للشأن السياسي المصري القدر الهائل من التدين الشعبوي في خطاب الرئيس السيسي ذي الخلفية العسكرية الممتدة لأربعة عقود. قدّم بعض المحللين تفسيراً لهذه الشعبوية بنشأة السيسي في حي «الجمّالية» الموغل في القدم، حيث نمذجة شخصيات «الحرافيش» من بسطاء العاصمة وحرفييها وتجارها، وأضاف بعضهم تجربته في المخابرات العسكرية التي تشمل أنشطتها دراسة الخطاب، والرأي العام، وآليات التأثير فيه، ضمن مهام «الحرب النفسية». لم تنل الرابطة بين نشأة السيسي وبين خطابه اهتماماً كافياً من الباحثين، ربما لجاذبية المداخل الحديثة في العلوم السياسية والإستراتيجية، من حيث دراسة العلاقات المدنية العسكرية ورواجها الأكاديمي...
هذه قراءة أخرى لنظام حكم جديد يرسي قواعده عبد الفتاح السيسي بقدر كبير من الجدية، وبنمطٍ متكررٍ مُغرقٍ في مصريّته وضاربٍ في عمق أربعة عشر قرناً من التاريخ. وهو ما قد يضفي على دراسة تأثير نشأة السيسي في القاهرة الفاطمية في وعيه السياسي/الأمني بعداً جديداً قد يكون مفيداً في فهم التراكم الجيولوجي لطبقات إدراك أحد أبناء حرافيش الجمّالية بعد انخراطه في الجيش وتلقيه تعليمه العسكري وتكوينه الأمني. وهو القادم للرئاسة من رأس الجيش الذي وضع محمد علي بذرته الأولى، ثم مرّ بعدة محطات منذ الثورة العرابية إلى انقلاب يوليو 1952، ثم هزيمة 1967 وانتصار 1973، ومرحلة كامب ديفيد الساداتية، ليتحوّل أخيراً إلى مؤسسة تحمي الشرعية الدستورية في عهد مبارك، حيث قضى السيسي أغلب حياته المهنية وترقى لأعلى المناصب.
ليس الداعي لاستشراف مستقبل نظام الحكم الوليد من منظور عمراني تاريخي هو البحث في تأريخ انتقال مركز الحكم لزعم صيرورة تاريخية تحتّم اختيار المكان الجديد له، ولا إجراء المقارنة التحليلية بهدف إبراز الفروق الكبيرة بين الماضي والحاضر، بل الحقيقة أن العكس تماماً هو المقصود. فالتساؤل الرئيسي المطروح هو عما إذا كان التشابه بين ما يقوم به السيسي اليوم وبين ما فعله مؤسسو نظم الحكم الجديدة، أو الجادّون منهم على الأقل، عبر التاريخ المصري، سيؤدي إلى ترسيخ نظامه الجديد لعدة عقود مقبلة، بما يؤخر احتمالات تجدد موجة جديدة من الصراع بين ثورة يناير وثورتها المضادة بقيادة السيسي.
مركز حكم دائم التنقل
في البداية كانت الإسكندرية هي عاصمة مصر الرومانية، لكن سياسة الخليفة عمر بن الخطاب كانت تقضي بعدم الحؤول بينه وبين ولاته بحاجز نهري، سواءً في العراق أم في مصر. استجاب عمرو بن العاص لتوجيه قائده وأنشأ «الفسطاط» (25 هجرياً / 645 ميلادياً)، أو ما سمّيت لاحقاً بــ «مدينة مصر» أو «مصر الفسطاط»، مرتكِزاً حول جامعه الكبير. أقيمت مدينة الفسطاط على الضفة الشرقية للنيل قريباً من مأخذ قناة «سيزوستريس» القديمة، التي أعيد حفرها وتغيير اسمها لتربط النيل ببحر القلزم (خليج السويس)، كأول صلة بين البحر الأحمر والبحر المتوسط عن طريق مصبَّيْ دلتا النيل في دمياط ورشيد، قبل أن يتم ردمها لاحقاً. عاد عمرو بن العاص للولاية في العهد الأموي، وراجت في الفسطاط التجارة وارتفعت العمارة، إلا أن ازدحامها وسوء إدارة المخلفات فيها وانخفاضها النسبي قد جعل منها مركزاً للمشكلات الصحية والبيئية.
بعد قرن واحد، ومع التوسع العمراني للفسطاط، انتقل الولاة العباسيون بمركز الحكم إلى الشمال الشرقي من الفسطاط فأسسوا مدينة «العسكر» (123 هجرياً / 742 ميلادياً)، التي اندرست آثارها إهمالاً أو عمداً في العصر الفاطمي، فاختفت بين منطقتي «تلال زينهم» (زينهم حالياً) و«البغالة». وكانت هذه بداية رحلة طويلة من انتقال مركز الحكم في مصر العربية كلما تغير نظام الحكم. فحينما استقل أحمد بن طولون بحكم مصر عن الدولة العباسية، انتقل أيضاً إلى الشمال الشرقي مؤسساً مدينة «القطائع» (قلعة الكبش حالياً) في أقل من خمس سنوات، مرتكزاً حول جامعه الكبير. امتد العمران فوصل بين الفسطاط والعسكر والقطائع، حتى أن جيش محمد الإخشيد المرسل من قبل الخليفة العباسي لم يعلن انتصاره على بقايا الطولونيين إلا بدخول الفسطاط واتخاذها مقراً للحكم الإخشيدي، الذي لم يُتم أربعة عقود حتى دخل الفاطميون بقيادة جوهر الصقلي قادمين من تونس، فطويت الصفحة العباسية تماماً، وأُنشئت القاهرة الفاطمية عاصمةً جديدةً للبلاد (358 هجرياً / 969 ميلادياً).
أقيمت «القاهرة» إلى الشمال الشرقي من القطائع على امتداد الخط الواصل بين جامعي عمرو بن العاص وأحمد بن طولون. وعلى الرغم من ارتكازها حول قصر المعز لدين الله الفاطمي، بديلاً عن الارتكاز حول الجامع كما في الفسطاط والقطائع، إلا أن بناء الجامع الأزهر كان محورياً لترسيخ المذهب الشيعي الفاطمي كمذهب للحكام الجدد المعزولين في العاصمة الجديدة وراء سور لا يجتازه عامة الناس. وبعد قرن من الزمان، آلت الأمور إلى نائب الخليفة المستنصر في عكا وقائد جيوشه، بدر الدين الجمالي، الذي استدعاه من الشام لحسم الصراعات على السلطة بين الترك والسودان ونسل العرب القادمين مع الفاطميين من شمال أفريقيا، فاستتب له الأمر، وأعاد بناء سور حجري يضم توسعات القاهرة التي خرجت عن السور القديم المبني بالطوب اللبِن. وإليه نسب حي «الجمالية»، حيث بدأت الفسطاط تنهار تماماً وتتحول القاهرة إلى عاصمة سكنية وليس فقط مركز حكم وإدارة، وحيث نشأ عبد الفتاح السيسي وترعرع بعد ما يقرب من ألف عام.كالعادة، نقل الأيوبيون مركز الحكم إلى الشرق، إلا أنهم على سبيل الاستثناء اتجهوا إلى الجنوب الشرقي حيث الموقع الفريد المرتفع لقلعة صلاح الدين الأيوبي الحصينة، على الناحية الغربية من جبل المقطم.
أعيد تسوير العاصمة بعد ضم القاهرة الفاطمية إلى التوسعات العمرانية التي امتدت في محيط الفسطاط شمالاً وغرباً تحت اسم «مصر عتيقة» (مصر القديمة حالياً)، وصارت العاصمة الجديدة هي «مصر القاهرة»، وكانت بداية اختزال مصر الواسعة في اسم عاصمتها، حتى إن سكان الصعيد والدلتا وسيناء الآن حين يسافرون إلى العاصمة يقولون إنهم «نازلون إلى مصر». امتازت قلعة الجبل بقدر كبير من التحصين والجلال جعل نقل مركز الحكم منها قراراً صعباً، فتداول عليها المماليك البحرية والشراكسة بعد انتهاء الحكم الأيوبي، ثم دخلها السلطان العثماني سليم الأول غازياً (1517) وضامّاً مصر إلى الآستانة كولاية عثمانية يعيّن واليها بمرسوم من الباب العالي. وفي القلعة دبّر محمد علي باشا مذبحة المماليك (1811) ليؤسس حكماً جديداً بلا منازع يناوش به الدولة العثمانية من دون الاستقلال التام عنها، حتى نال مباركة السلطان بألا يخرج حكم مصر عن نسله.
انتقلت الولاية من محمد علي باشا إلى عدد من أفراد عائلته حتى حصل حفيده إسماعيل على درجة الخديوية من الباب العالي (1866) ونقل الحكم إلى قصر عابدين (1872) حصرياً في نسله من دون بقية فروع الأسرة العلوية. وحين انقلب الضباط الأحرار في يوليو 1952 وألغوا الحكم الملكي في 1953، فقد استمر مركز الحكم داخل القصور (الملكية سابقاً، الرئاسية لاحقاً) في التنقل: إلى الشمال الشرقي من قصر عابدين، أي إلى قصر القبة في عهد عبد الناصر، ثم إلى الشرق منه، إلى قصر الاتحادية في عهد السادات. وأخيراً، انتقل مركز الحكم الفعلي بشكل غير رسمي إلى شرم الشيخ في النصف الأخير من عهد مبارك، إلى الشرق أيضاً.
نيوليبرالية عسكرية من صميم التاريخ المصري
من الطبيعي أن يكون مقر وزارة الدفاع مركزاً لحكم المجلس العسكري في المرحلة الانتقالية عقب ثورة 25 يناير. وحين تسلّم محمد مرسي مقاليد الحكم، حرص على التجوال بين القصور الرئاسية والتقاط الصور فيها جميعاً: على كرسي الملك فاروق في قصر عابدين، وفي مؤتمر صحافي مع الرئيس التركي في قصر القبة حيث استقبل مبارك أوباما عام 2009، وعلى كرسي مبارك في الاتحادية، حيث كان مقر عمل مرسي.
لم يدْر بخلد الإخوان نقل مركز الحكم، بل كان خيالهم السياسي مسكوناً بإثبات جدارتهم بوراثة حكم مبارك. أما السيسي، الذي لم يكن أحد ليعرف اسمه لولا رضاء مبارك عنه وتعيينه مديراً للمخابرات الحربية وعضواً بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، فإن علاقته بالدولة القديمة ونظام حكم مبارك هي أشبه ما تكون بعلاقة الخديوي إسماعيل بالولاية العلوية.
كان إسماعيل حفيداً لمحمد علي باشا، ورث حكم مصر كولاية عثمانية لا تحيد سياستها الخارجية عن هذا الإطار مهما تمتعت باستقلال نسبي، وكذلك عبد الفتاح السيسي هو ابن شرعي لنظام مبارك الذي هو امتداد لجمهورية الضباط التي أعيد رسم علاقاتها الدولية في كامب ديفيد (1978) ومعاهدة السلام مع إسرائيل الموقعة في واشنطن(1979).
أما طموح إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي فقد دفعه للترقي عن درجة الباشا الوالي إلى درجة الخديوية الأرقى والأقرب للسلطنة. وبراديكالية عمرانية وسياسية هجر قلعة جده ونقل مركز الحكم لأول مرة منذ صلاح الدين الأيوبي إلى قصر عابدين الذي شيّده في حي ضخم جديد سمي بالقاهرة الإسماعيلية أو القاهرة الخديوية (حي وسط البلد حالياً). أراد الخديوي محاكاة باريس الحديثة فاستجلب مصممها، جورج هوسمان، ليجعل مركز الحكم الجديد قطعة من أوروبا.وكما انتقل إسماعيل من القلعة إلى قصر عابدين شمالاً، فإن السيسي يتجه في الطريق الشمالي الشرقي ذاته المسلوك منذ مئات السنين، ويعتزم نقل مركز الحكم إلى عاصمة إدارية جديدة في طريق السويس. وعلى نهج إسماعيل، مع الفارق، فإن العمران الجديد ذو طابع نيوليبرالي خليجي صحراوي يتلاءم مع تحالفات السيسي الإقليمية وشركاء جيشه في الاستثمار العقاري.
أما أسباب نقل مركز الحكم الآن فهي تلك الأسباب الديموغرافية والأمنية ذاتها، بل ربما العوامل الجيولوجية والبيئية نفسها، منذ الفسطاط إلى العسكر والقطائع ثم القاهرة ثم قلعة الجبل. نمطٌ عمراني تاريخي يصل بين عسكر العباسيين وعسكر ما بعد 1979، بعمق أربعة عشر قرناً يُهوِّن على المراقبين فاجعة تشابه اعتماد السيسي في مشروع تنمية قناة السويس على العمالة المجانية المجندة إجبارياً في شركات الجيش مع اعتماد الخديوي إسماعيل في حفر القناة نفسها على «السخرة» قبل قرن ونصف قرن فقط!