الخديوي السيسي بين عاصمتين

لا يمكن فهم حكم السيسي بمدخل علوم النظم السياسية، حيث توزيع الصلاحيات الدستورية، وتنظيم العلاقات بين أجنحة السلطة، كما بين السلطة والمعارضة، وآليات تداول السلطة، وغير ذلك. يبدو أن حكم السيسي ينتمي في كثير من جوانبه للقرون الوسطى بامتياز، حيث الاستيلاء على السلطة بالقوة/ العنف. وعلى ضوء ذلك، يمكن التعرّف على العقلية الأمنية العسكرية التي لا تتورّع عن استخدام كلمة «الحرب» في سياق الصراع السياسي.
2014-09-17

إسماعيل الإسكندراني

باحث في علم الاجتماع السياسي ــ من مصر


شارك
(تصوير وائل سعد)

افتُتن الخديوي إسماعيل بالعاصمة باريس. سار بين معالمها مشدوهاً إلى عمرانها الحديث أثناء تلقيه جانباً من تعليمه فيها. وحين أراد بناء عاصمته الجديدة، «القاهرة الإسماعيلية» أو «القاهرة الخديوية»، استقدم مصمّمها جورج هوسمان ليجعل مركز الحكم الجديد في مصر «قطعة من أوروبا» أو «باريس الشرق». أما عمران الخديوي السيسي فيتّجه إلى الشرق، لا إلى الشمال، فقد قضى الرجل فترة مهمة من حياته الوظيفية ملحقاً عسكرياً بالبعثة الديبلوماسية المصرية في المملكة السعودية. وفي الشرق الخليجي يقبع حلفاؤه وداعموه السياسيون والاقتصاديون. ومن وحي العمران النيوليبرالي الخليجي الصحراوي في الجزيرة العربية، يتّجه السيسي إلى تأسيس مركز حكم جديد يعكس كثيراً من الدلالات السوسيولوجية والسياسية والأمنية. أما علاقته بالعاصمة الحالية فستدخل في طور جديد.

لا يمكن فهم حكم السيسي بمدخل علوم النظم السياسية، حيث توزيع الصلاحيات الدستورية بين السلطات، وتنظيم العلاقات بين أجنحة السلطة، كما بين السلطة والمعارضة، وآليات تداول السلطة، وغير ذلك من ديناميات سياسية حداثية. يبدو أن حكم السيسي ينتمي في كثير من جوانبه للقرون الوسطى بامتياز، حيث الاستيلاء على السلطة بالقوة / العنف وترسيخ الوجود فيها بمذبحة سياسية/ جنائية ضد الغريم الرئيسي. وعلى ضوء ذلك، يمكن التعرّف على العقلية الأمنية العسكرية التي لا تتورّع عن استخدام كلمة «الحرب» في سياق الصراع السياسي. وهي كلمة لا تعبّر فقط عن المعالجة الأمنية الضيقة للتحديات الاجتماعية والسياسية واللجوء إلى البروباغاندا التعبوية، بل إنها تشير أيضاً إلى ما هو أخطر من ذلك، إلى ولع قائلها باختيار «أرض المعركة» التي يكون موقعه فيها أقرب للانتصار.

عاصمة خليجية مضادة لزحف الجماهير

اختير موقع العاصمة الجديدة إلى الشرق من القاهرة في طريق السويس، ويقع بعد حي «القاهرة الجديدة» (التجمّع الخامس) وحي «مدينتي». وفي حين أنشئ الأخير قبل سنوات عدة كمشروع استثماري ضخم بعقد بالغ الفساد بين الحكومة وبين أحد كبار رجال الأعمال المرتبطين بأسرة مبارك، فإن حي «القاهرة الجديدة» وتجمّعاته السكنية قد تمّ التخطيط له حكومياً منذ عقود عدة، إلا أنه لم يعمّر فعلياً إلا خلال العقد الأخير، حيث مُهّدت الطرق، ورُصفت الشوارع، وأدخلت المرافق، وبُنيت المدارس والجامعات الأجنبية، وشُيّدت الفنادق الفاخرة. أما «مدينتي» فهو «الكومباوند» الأشهر والأغلى والأكثر عزلة وتأميناً. وبتأمل علاقة التجمع الخامس و«مدينتي» بحركة الناس في الشوارع والمواصلات، يمكننا التنبؤ بالنمط العمراني الذي ستكون عليه العاصمة الجديدة... هي عاصمة صحراوية مرتفعة عن سطح البحر، ذات هواء أنقى وأصحّ من العاصمة الحالية، واسعة الشوارع، يقتصر الانتقال فيها على الإطارات الهوائية حصراً، فلا سكك حديدية ولا مجال فيها للمشي. يريد السيسي مركز حكم يسهّل إغلاق الطرق المؤدية إليه وقت الحاجة، إما بقطع الطريق الأسفلتي أو بتعطيل أول سيارتين لتتراكم وراءهما حشود الزاحفين المحتملين. أما حراك الجماهير المرتجِلين فهو مستبعَد وغير عملي بعيداً بهذه المسافة عن الكثافة السكانية. فأيّ مسيرة تلك التي ستترك طرف المدينة الشرقي لتقطع عشرين كيلومتراً في الصحراء حتى تصل إلى مركز الحكم الجديد؟

قديماً، استغرقت القاهرة الفاطمية قرناً من الزمان، حتى تحوّلت من مركز حكم وإدارة إلى عاصمة سكنية بعد تدهور أحوال مدينتَيْ «الفسطاط» و«القطائع». أما عاصمة السيسي، الذي ترعرع في القاهرة الفاطمية، فيكفيه منها أن تظل مركز حكم نخبوي لعقد أو عقدين من الزمان. من المستبعَد أن تُنقل الدواوين الحكومية بالكامل إلى العاصمة الجديدة، ففي ذلك عبء اقتصادي غير مرغوب، وخلل في البنية الاجتماعية النخبوية المرجوة. لذلك، يغلب الظن أن الصفوف القيادية العليا فقط من الساسة ومتخذي القرار هي التي ستنتقل إلى «كومباوند» الحكم الجديد، مع ضرورة دستورية بنقل بعض المحاكم العليا، وهامش من العمالة المعاونة ومقدّمي الخدمات. أما الإدارة الأمنية للعاصمة الجديدة فهي تتحدّث عن نفسها بلا حاجة لشرح طويل. فالموقع في مأمن من زحف الجماهير السلمي، والأسوار المحتمَلة ستكون مرتكزات للتحصين ضد العدوان المسلح. والشوارع الفسيحة هي الساحة المثالية لآلة البطش، فلن نسمع عن اعتصام أمام مقر رئاسة الوزراء، ولا احتجاج أمام بوابات الوزارات. وحين تنشأ عاصمة جديدة في أرض خلاء بدءاً من 2015، فإن الخيال لا يحتاج كثيراً من الإبداع لاستشراف وسائل المراقبة التي ستغطي كل شبر فيها.

في البحرين، أبدع الاستبداد العربي التفافاً عمرانياً على مناطق الاحتجاج، فتم إلغاء ميدان اللؤلؤة وتحويله إلى تقاطع مروري، كما أقيمت الجسور فوق المناطق الشيعية. وفي العاصمة المصرية الجديدة، ينطلق العمران الاستبدادي واصلاً ما بدأه جوهر الصقلي، قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمي، بما انتهى إليه «درع الجزيرة»، ليصنع مزيجاً من العزلة والتحصين والتخطيط المضاد لحراك الجماهير.

لا تخلو خطة السيسي من منافع ضرورية. فالعاصمة الحالية تئن تحت وطأة الزحام والفوضى المستعصية على الحلول الجزئية أو العاجلة. ربما تسهم العاصمة الجديدة في خلخلة التكاثف السكاني في بعض المناطق، وربما ستولد فرص عمل جديدة تُحدث حراكاً اقتصادياً محموداً، ولعلها ستكون فرصة لإحياء التراث المعماري المغمور تحت ركام الاستهلاك الكثيف المزعج. لكن يمكن تشبيه الفارق بين عاصمة الخديوي إسماعيل وعاصمة الخديوي السيسي بالفارق بين باريس ودبي. لم يقترف إسماعيل خطيئة بونابرت الثالث، الذي أسس باريس الحديثة على أنقاض باريس القديمة، بل أنشأ قاهرته الخديوية في مكان جديد، محل مستنقعات الأزبكية التي كان النيل يفيض فيها موسمياً قبل التحكم النهائي في مساره الحالي. على الرغم من ذلك، لم تنفصل قاهرة إسماعيل عن قاهرة القرون الوسطى، فلم يكن هناك سور عازل، ولا فاصل من الخلاء بين أحياء السيدة زينب والخليفة والقلعة وبين حي عابدين حيث أقام الخديوي قصره ومركز حكمه الجديد، كذلك لم يكن بين ميدان العتبة وبين الجامع الأزهر وحي الحسين سوى رمية حجر. بل إن أبرز ما أمر إسماعيل ببنائه كان وصلاً بين القديم والحديث بشوارع مستقيمة تحفّها العمارات على الطراز الأوروبي. أما عاصمة السيسي فلن تكون ـ غالباً ـ سوى فقاعة خليجية معزولة مكيفة الهواء، شديدة صفار الرمال، شديدة سواد الأسفلت، مركباتها فاخرة، وألوانها فاقعة، كثيرة السلالم الكهربية، جدرانها من الزجاج العاكس، وأرضياتها من الرخام الأملس، حيرانة بين وادي النيل وبين ساحل خليج السويس، فلا هي نهرية ولا بحرية.

.. وعاصمةٌ «أنتيكا» للعجائز الأثرياء

بالتوازي مع نقل مركز الحكم، فإن القاهرة الإسماعيلية والتوفيقية هما الكنز الذي ينتظر النيوليبرالية المصرية والعالمية. منطقة واسعة تتقاطع فيها ثلاثة أقسام إدارية، تضم المئات من الشوارع والأبنية التراثية، وتحكي بين جنبات جدرانها تاريخاً حافلاً متنوعاً ممتداً لأكثر من قرن وثلث في نواحٍ شتى من السياسة والثقافة والعمارة والفنون والتنوع الكوزموبوليتي، نخبوياً وشعبياً، والأنشطة الاقتصادية وأنماط الحياة والأزياء وسير المشاهير. وهو مشروع مثالي لمداعبة جيوب عاشقي التراث و«الأصالة» وذوي الحنين لذكريات الماضي.

تدهورت أحوال منطقة وسط البلد بسبب الزحام وسوء التخطيط والحراك الطبقي النازل وتدني مستويات الدخل عموماً. هجرها أغلب سكانها الأصليين لأسباب متنوعة، فتحوّلت مساكنها الفسيحة إلى مقار إدارية ومكاتب، بل إلى مخازن أحياناً، وقُضي على بهاء المنطقة تماماً بتشغيل مترو الأنفاق الذي نقل عشرات الآلاف يومياً من الهامش الريفي المتحضر في أطراف المدينة إلى مركزها سعياً وراء الرزق. عمّت الفوضى شوارع وسط المدينة عقب الثورة، ليس فقط بسبب التراخي الأمني، وإنما أيضاً بسبب تجاهل الحكومات المتعاقبة مطالب الباعة الجائلين بتنظيم أوضاعهم وتقنينها. أهملت حكومات ما بعد الثورة هذه القضية، فتمادى الباعة الجائلون حتى زحفوا من الأرصفة إلى الشوارع الحيوية وعطلوا المرور فيها، وكثرت مشكلاتهم البينية ومع أصحاب المحلات، ولم يتورعوا عن استخدام «الكلاشينكوف» و«الغرينوف» في نزاعاتهم.

يعلم الباعة الجائلون جيداً هشاشة موقفهم القانوني. لذلك، لم يترددوا في إبداء التعاون الطوعي مع آلة القمع الأمنية ضد المحتجين السلميين بعد الانقلاب. ليس للأمر علاقة بالإخوان أو عموم الإسلاميين، أولئك الذين يعجز حراكهم عن الوصول لوسط المدينة، بل وجّه الباعة تعاونهم الأمني ضد المحتجين من التيارات المدنية الذين انصب احتجاجهم بالأساس على مناهضة قانون التظاهر الجديد. رفع الباعة صور السيسي فريقاً أول ومشيراً، وزيراً للدفاع ومرشحاً رئاسياً ورئيساً، كما ضجت موسيقاهم بالأغاني الدعائية السيساوية: «تسلم الأيادي» و«بشرة خير». لكن ذلك كله لم يشفع لهم حين أتى وقت استكمال مخطط «القاهرة 2050».

ظهر على الساحة اسم «مصطفى المدبولي» لأول مرة عام 2009 حين تم الإعلان عن مخطط «القاهرة 2050» الذي يرفع شعار التطوير والتنمية ويضمر التجريف البشري لأغراض «الصيانة» والاستثمار الرأسمالي. ترقى المدبولي في المناصب حتى انتهى به المطاف حالياً في مكانه المرتقب وزيراً للإسكان والمجتمعات العمرانية خلفاً لكبير «المقاولين العرب»، إبراهيم محلب، الذي يعتمد عليه السيسي كرئيس لحكومة المقاولات الحالية. يمكن تلخيص مصير مركز الحكم الحالي في رؤية مشروع «القاهرة 2050» بأنها العودة بالجدران والشوارع إلى القاهرة كما كانت في النصف الأول من القرن العشرين، مع إحلال البشر و«تجديدهم» بمن لديه القدرة على الدفع من المتقاعدين وعجائز أوروبا والتائهين في دروب النوستالجيا. تضطلع شركة تدعى «الإسماعيلية» بهذا الدور المهم في شراء عقارات وسط البلد بأموال طائلة، كثرت الأقاويل حول مصدرها، ولن يكون مستغرباً إذا لجأت بعد «تنظيف» الشوارع وبعض المربعات السكنية من غير المرغوب بهم، بالتعاون مع السلطة التنفيذية ـ إلى إعادة هندسة نشاط المحلات وواجهاتها لتتلاءم مع القاهرة الإسماعيلية القديمة/الحديثة، حيث ملتقيات النخب نهاراً والحياة الليلية اللاهية ذات الأجواء الطبقية. ولن يكون شطحاً من الخيال إذا توقعنا إسناد تأمين وسط المدينة بالكامل إلى شركة خاصة عوضاً عن الشرطة المترهلة غير المدربة، التي لا يليق بها وهي «في خدمة الشعب»، ولو على سبيل الشعار الأجوف، أن تكون في خدمة ذوي «الجيوب الزرقاء».

هكذا تتضح الملامح النيوليبرالية والأمنية لعمران الخديوي السيسي. عمران يرى الجدران والمساحات بينها كما ترسمها برامج الحاسوب المتقدمة، فتضع مكونات الصورة وتحذفها بضغطة زر أو حركة «فأرة»، لا فرق في ذلك بين بشر أو شجر أو حجر. عمران يكسح الناس ويكنسهم كنساً (كما تقول هبة رؤوف عزت)، وهو بالأدق عمران مُعادٍ للناس، فيهرب من احتشادهم إلى عاصمة صحراوية جديدة إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً، من دون أن ينسى ثأره مع الجماهير في أماكن احتشادهم المعهودة، فلا يألو جهداً في سبيل طردهم منها طوعاً أو كرهاً، سلماً أو عنفاً. ينسحب السيسي من العاصمة الحالية هارباً إلى الأمام، لكنه لا ينسى «حربه» ضد المجال العام. وكما بدأ سلطته بأكبر مذبحة سياسية في تاريخ مصر الحديث في قلب المجال العام، فإنه لن يتوانى عن مصادرة حق الناس في مساحاتهم وحقهم في المدينة وفي ميادين وسط المدينة.

مقالات من القاهرة

للكاتب نفسه