ما وراء "المتابعة": الهلع الدائم للمعتقل

حين يخرج من السجن، يبقى المعتقل السياسي تحت عين "جهاز الأمن الوطني"، يستدعيه لقضاء ليلة أو ليلتين كل شهر في مركز الشرطة، أو في مقر الأمن الوطني. هذا الاستدعاء يسمى "المتابعة"، وهو خارج إطار اللوائح القانونية، وظيفته هي المراقبة، ووضع المعتقل السابق تحت وظأة الخوف الدائم والاخضاع. هو عقاب تكميلي، أو قيد ثابت للحرية وللروح.
2020-12-02

أحمد عبد الحليم

صحافي من مصر


شارك
رفيق مجذوب - لبنان

بعد أن يقضي المعتقل السياسي فترة سجنه ويخرج، سواء خرج إثر حكم صدر بحقّه ونُفّذ، أو أُخلي سبيله من النيابة، فهو يبقى تحت عين جهاز الأمن الوطني، يتصل به، ويستدعيه لقضاء ليلة أو ليلتين كل شهر، في مركز الشرطة الذي يتبع له، أو حتى في مقر الأمن الوطني القريب منه. هذا الاستدعاء يسمى "المتابعة" وهو خارج إطار اللوائح القانونية.

جهاز الأمن الوطني يتابع المعتقلين السابقين بعد خروجهم، فإما يقوم بالقبض عليهم مرّةً ثانية، وإعادة تدويرهم على ذمّة قضايا أخرى، أو يتواصل معهم لإعطائهم تعليمات بالذهاب إلى قسم الشرطة بين حين وآخر.

ما هي قصة المتابعة؟

وفقاً للشهادات، فالمتابعة تتم عبر عدة خطوات، أولها التواصل مع المُعتقل السابق، الذي يرد إليه اتصال هاتفي من رقمٍ غريب، يُعرّف المتصل نفسه أنّه أمين الشرطة التابع لجهاز الأمن الوطني في المحافظة، ويطلب منه الحضور في يومٍ وساعةٍ مُعينين، ويجيب على سؤال المعتقل السابق بشأن سبب الاستدعاء بأنّه لأخذ واستكمال بيانات. ليس الهاتف هو الوسيلة الوحيدة للاتصال، فأحياناً يتجه الشرطي إلى محل الإقامة أو العمل، ويطلب من المعتقل السابق الحضور، أو يجري اقتياده عنوةً إلى القسم أو إلى مقر الأمن الوطني.

وعندها، وغالباً ما يكون الوقت في المساء، يُجلَس في غرفة، وتأخذ منه البطاقة الشخصية والهاتف المحمول، لمنع اتصاله بالخارج، ويجلس لساعات أو لمدة يومٍ كامل، وأحياناً تعاد له ويُطلق سراحه.

وفي الغالب، لا يخضع المتابَعون للتحقيق إلا إذا جرى اقتيادهم من القسم إلى مقرّ الأمن الوطني. وقتئذٍ تُغمّى الأعين، ويحدث تحقيق هو عبارةٌ عن أسئلة عن نشاط المتابع التنظيمي، وعلاقته بالإخوان في السياق التاريخي والفكري والحركي.

ويمكن في أحيان كثيرة أن يحدث التواصل بين أمين الشرطة والمُتابَع باللين، سواء هاتفياً أو عند زيارة البيت أو مقر العمل، وأحياناً أخرى يستخدم التهديد حين يرفض المُتابَع الذهاب دافعاً ببعض الحجج، كأن يقول أنه مريض أو مسافر. يهدد بأنّهم سوف يأتون للقبض عليه وتدويره في قضية، ليسجن مرةً أُخرى لشهور أو سنوات.

يحاول المُتابَع أيضاً مقاومة هذا الاستدعاء بتغيير رقم هاتفه، أو تغيير محل إقامته في المحافظة بأكملها، وذلك لأنّه في مرات كثيرة يتم استدعاء المُتابَع للمبيت يوماً واحداً، ومن ثمّ تلفّق له قضية ويعرض على النيابة ويسجن لمدة شهور أو سنوات .(1)

قانونية وسياق الاستدعاء

يُرجّح أن جهاز الأمن الوطني بدء بانتهاج أسلوب "المتابعة" منذ العام 2017، وهي كانت محصورةً ببعض المحافظات وتخص الرجال فقط. ولكن ومنذ عام 2019 عُممّ هذا الإجراء على كافة أنحاء الجمهورية. ولا تقتصر المتابعة على أصحاب السوابق السياسية فقط، بل شملت في بعض الأحيان المتدينين بشكلٍ عام، ومن كانت له صلة تنظيمية بجماعة الإخوان المسلمين، حتى وإن لم يتم اعتقاله من قبل.

تخرج المُتابعة عن القانون، فهي تتم بشكل تعسفي، بناءً على ملفات المعتقلين السابقين لدى جهاز الأمن الوطني، فضلاً عن التحريات المستمرة بحق مَن يشتبه به من عموم الناس. ولذلك هي تختلف عن أحكام المراقبة بعد خروج السجين، سواء كان سياسياً أو جنائياً. فالسجين السياسي يقضي مدة مراقبته في القسم التابع له حسب الحكم الصادر بحقه، وتكون لمدة 12 ساعة يومياً، من 6 مساءً حتى 6 صباحاً، كما في الحالات المعروفة ومثلما حدث لعلاء عبد الفتاح قبل اعتقاله مرّةً أُخرى .(2)

يحاول المُتابَع أحياناً "مقاومة" الاستدعاء بتغيير رقم هاتفه، أو تغيير محل إقامته في المحافظة بأكملها، وذلك لأنّه في مرات كثيرة يتم استدعاء المُتابَع للمبيت يوماً واحداً، ومن ثمّ تلفّق له قضية ويعرض على النيابة ويسجن لمدة شهور أو سنوات.

ولكن المتابعة كانت تتم دون سندٍ قانونيّ في أزمانٍ ومناطقَ بعينها بحق أصحاب السوابق الجنائية، بغاية سيطرة إدارة مباحث القسم على أجسادٍ وذوات بعينهم، من بلطجية الحارات والمناطق الشعبية. وكانت معاملتهم أثناء المتابعة، أو حتى المراقبة تتميز بالفجاجة والسخرة والإذلال، حيث كانوا يكلفون بمسح وكنس وتنظيف سلالم وطرقات القسم خلال وجودهم فيه، فضلاً عن السبّ والإهانة العلنية والتهديدات المستمرة لهم. وهذا ما لا يخضع له أصحاب السوابق السياسية. بل إن مخبري وأمناء الشرطة وضباط المباحث لا يتحدثون إليهم، أو يعاملونهم بطريقة سيئة، بل يقولون دائماً لهم إنّهم موجودون "أمانة عندهم" من قِبل الأمن الوطني، ولا دخل لهم في اعتقالهم أو إطلاق سراحهم.

ما وراء المتابعة: المراقبة الدائمة، الخوف والتَتويب

بعد الخروج من السجن، يصبح ذهاب المواطن إلى مبنًى شُرطيّ، وقضاء ساعات أو أيام داخله عقاباً تكميلياً، أو قيداً ثابتاً للحرية وللروح. وحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو فإن المراقبة تتحكم في الروح، ومن يخضع لمجال الرؤية الدائمة والمستمرة، ويسمح بذلك، يقع في فخ الخضوع للسلطة .(3) أي أن عدد الساعات التي يقضيها المُتابَع أسبوعياً أو شهرياً وكأنها "بانوبْتيكون" (4) ، ويشعر المتابع من خلاله بخضوعه للسلطة القائمة.

مقالات ذات صلة

تعلم جيداً إدارة الأمن الوطني مدى صلابة هيكلية تنظيم الإخوان المسلمين، ومدى قدرته على تجميع أشلائه مرّةً أُخرى. وبعد العام 2018، خرج الكثير من المعتقلين، سواء عن طريق إخلاءات السبيل من النيابة العامة، أو بعدما قضوا أحكاماً تتراوح من سنة إلى 5 سنوات، فضلاً عن خروج قيادات وسيطة ودنيا، ممّا يسمح بتنظيم حلقات (لقاءات) مرّةً أُخرى، حتى وإن كانت تشاورية فقط، تنظمها الشُعب والمناطق من أجل استعادة تماسك التنظيم لا من أجل تنظيم حركي يناهض استقرار النظام مرّةً أُخرى. لذلك نلاحظ أيضاً قوة القبضة الأمنية من حيث زيادة الاعتقالات والمُتابعات التي تشمل جميع الحلقات المعارضة، وليس الإخوان فقط ومريدوهم.

بدأ "جهاز الأمن الوطني" بانتهاج "المتابعة" منذ العام 2017، وكانت محصورةً ببعض المحافظات وتخص الرجال فقط. ولكن، ومنذ عام 2019 عُممّ هذا الإجراء على الجمهورية. ولا تقتصر المتابعة على أصحاب السوابق السياسية فقط، بل شملت في بعض الأحيان المتدينين بشكلٍ عام، ومن كانت له صلة تنظيمية بجماعة الإخوان المسلمين، حتى وإن لم يتم اعتقاله من قبل.

لم يكن في بال المعتقلين السابقين، ولا سيّما الشباب منهم، الذين لم يعايشوا الاعتقالات السابقة، أن الأمر سيصبح بعد ذلك كارثياً. ينصح الأقارب أو الأصدقاء المعتقلَ السابق بالابتعاد عن السياسة، والسير "في ظل الحيطة" لعدم التعرض بعد ذلك لمضايقات من قبل الأمن. لكن الشاب المعتقل السابق عرف أن الأمر ليس بيده.

لم يكن في بال المعتقلين السابقين، ولا سيّما الشباب منهم، الذين لم يعايشوا الاعتقالات السابقة، أن الأمر سيصبح بعد ذلك كارثياً. ينصح الأقارب أو الأصدقاء المعتقلَ السابق بالابتعاد عن السياسة، والسير "في ظل الحيطة" لعدم التعرض بعد ذلك لمضايقات من قبل الأمن. لكن الشاب المعتقل السابق عرف أن الأمر ليس بيده، وبتعبير عالم الاجتماع الراحل زيغمونت باومان، أنّ الأمر سيكون هلعاً على النفس في واقع مستبد وغير أخلاقي، ولا يمكن إدارته بالفعل. وفي الحالة التي تعيشها السلطة، فلا يمكن إدارة الأمر إلّا من قِبل القائمين عليها. وهؤلاء دائماً حريصونَ على إدارة من يحكمونهم، خصوصاً أصحاب السوابق السياسية، بتلك الدائرة المغلقة التي يدور فيها المعتقل السابق في فلك السلطة، بين المراقبة على روحه وحياته، ووضعه في فضاء زمكاني من فترة لفترةٍ لإخضاعه، وبين خوفه وهلعه الدائم من عودة اعتقاله والتي تكررت بحق الكثير من أصحاب السوابق السياسية. هكذا يصبح خاضعاً خائفاً من بطش السلطة بشكل دائم. وهذا الخوف قد يؤدي بصاحبه إلى الانتحار، وهو ما حدث مع أحد المعتقلين السابقين، بسبب استدعائه للمتابعة، خوفاً من اعتقاله مرّةً أُخرى .(5)

مقالات ذات صلة

إذاً ما العمل؟ كيف الخلاص مِن المُراقبة والهلع الدائمين للروح والجسد؟ وبأي صلاة يُغفر هذا الذنب السياسي السابق؟ سؤال يراود المتابَعين من السلطة. السبلُ قليلة وفي أحيانٍ كثيرة صعبة المنال، فمنهم من يبحث عن فرصة سفر خارج مصر، والاستقرار في بلدٍ آمن للعمل وبدء حياة مستقرة، ومنهم من يعطّل وسيلة تواصله مع الأمن، سواء بتغيير محل إقامته ومغادرة محافظته وتغيير رقم هاتفه. وهي أساليب بسيطةٌ، وهشة، ولا توفر حماية مطمئنة..

______________

1-أجرى الكاتب مقابلات مع 6 معتقلين سابقين من محافظات مختلفة، رووا له تجاربهم
2-أصدرت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، مطالعتها حول "الوضع تحت مراقبة الشرطة- قواعده وضوابطه ومدى توافقه مع معايير حقوق الإنسان".
3-ميشيل فوكو "المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن" ترجمة د. علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت 1990، ص 202-203
4-بانوبتيكون ‏ Panopticon وتعني "مراقبة الكل"، وهو نوع من السجون قام بتصميمه الفيلسوف الإنكليزي والمنظر الاجتماعي جيريمي بنثام في عام 1785 ، ويقوم على السماح لمراقب واحد بمراقبة جميع السجناء، دون أن يكون المسجونون قادرين على معرفة ما إذا كانوا مراقبين أم لا.
5-زيغمونـت باومان، "الخـوف السـائل"، ترجمـة حجّـاج أبو جبـر وتقديـم هبة رؤوف عزت، ، نشـرة الشـبكة العربيّـة للأبحاث والنشـر، بيروت، لبنـان 2017.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه