مطلع العام الجاري، قرر «مؤتمر الحوار الوطني» توزيع اليمن على ستة أقاليم، اثنان منها في الجنوب واربعة في الشمال. كان القرار سياسياً بامتياز، يرسم مصير اليمن و25 مليون إنسان من دون كثير مراعاة للعوامل الجغرافية والاقتصادية والثقافية والسكانية والتاريخية. نشر «السفير العربي» ملامح آزال وعدن وحضرموت، ويقدم اليوم اقليم تهامة ثم سبأ.
تهامة اليمن، هي ملخص خارطة البؤساء والمستضعفين الذين يمتلكون ثروات هائلة يعبث بها النافذون والمتسلطون. منذ آخر ثوراتهم التي عرفت بـ«ثورة الزرانيق» كأول ثورة شعبية ضد حكم الإمام يحيى عام 1919، شكلت سعة فضاء إقليم تهامة برا وبحرا، تناقضا مريرا مع ضيق أفق الحياة الكريمة لأهله.. حتى الوقت الراهن! وهذا على الرغم من امتداده على جزء واسع من أخصب أراضي اليمن، ومن كونه نافذة كانت في وقت من الاوقات الوحيدة على العالم، ومحتويا على ميناء الحُديدة، والذي عمليا ما زال أهم ميناء يمني، إذ يستقبل قرابة 70 في المئة من واردات البلاد، وترسو عليه أغلب السفن بحكم ضعف الإقبال على ميناء عدن لأسباب متعددة. ومنذ سنوات، راحت الحديدة تمثل القبلة الأولى للسياحة الموسمية الداخلية.
يشكل الإقليم الحالي ثاني أكبر الأقاليم اليمنية من حيث المساحة وعدد السكان. ويضم 4 محافظات اثنتان منها بحريتان، وهما الحُديدة وحجة، والاخريان (ريمة والمحويت) مغلقتان. وباستثناء جزء من حجة الجبلية، فهذه الجغرافيا هي امتداد لنفوذ تاريخي لدول العصر الوسيط التي اتخذت من «زبيد» مركزا سياسيا وفكريا، ومثلت مصدر تنوير ثقافي شمل معظم اليمن حتى بداية القرن العشرين. وفي النصف الأول من القرن الماضي، حاولت فرنسا البدء باستغلال الثروات الطبيعية لتهامة وإنشاء خط سكة حديد بين الحديدة وصنعاء. لكن فشلت المحاولة بسبب شروط الإمام الثقيلة التي توجست من أي تدخل في البلاد حتى ولو لمساعدته في استخراج ثرواته.
إسأل عن المتنفذين
غير أن مزارع تهامة تتبع في معظمها لنافذين عسكريين وقبليين، يشترونها أحيانا، ويسيطرون عليها بالقوة غالبا، ليتحول ملاكها الأصليون إلى عمال بأجر زهيد لدى هؤلاء المسيطرين. وتعد أراضي تهامة ضحية النهب الأولى قبل أراضي الجنوب بعقود، لكن سلمية وبساطة أبنائها ساعدت على استمرار عمليات النهب المنظم حتى اللحظة، ولم يسلم حتى مطار الحديدة من نهب أراضيه الاحتياطية للتوسع المستقبلي، وهذه المرة من قبل قيادات عسكرية وليس فقط من ناهبين خلف الكواليس يديرون عمليات السطو من المركز صنعاء.
يستقبلك التهامي البسيط بأقل قدر من الثياب وكثيرا ما يكتفي برداء خفيف للجزء الأسفل من الجسم إلى جانب الثياب الداخلية. وهذا جزء من عدم التباهي كأخلاق عامة تشمل الأغنياء والفقراء. وفي الوقت نفسه، هو تكيف مع البيئة الشديدة الحرارة. وإن رأيت في شوارع الحديدة رجلا مسلحا فثق أنه غريب عن المدينة. فأهل تهامة أقل اليمنيين اهتماما بالسلاح، وهم أيضاً على أية حال الأقل قدرة على شرائه، كسائر الأشياء الأخرى التي يمنعهم فقرهم من التعامل معها.
بعد 2011، ظهر لأول مرة كيان جديد يسمى «الحراك التهامي» على غرار الحراك الجنوبي. لكن خطابه المناطقي، وغموض تحالفاته السياسية خارج تهامة أفقداه إلى حد ما تعاطف الناس، حيث خلطت أنشطته وخطاباته بين «شركاء بناء تهامة اقتصاديا» الذين وقعوا ضحايا كأبناء تهامة ذاتها لنهب النافذين، وبين النافذين أنفسهم. مؤخرا فقط تشكلت لجنة رئاسية لمعالجة مسألة أراضي تهامة المنهوبة، على غرار اللجان التي شكلت لمعالجة أراضي الجنوب المنهوبة. لكن عمليات النهب لم تزل تتصدر الأحداث وآخرها ما حدث قبل قرابة الثلاثة أشهر من قيام أفراد وضباط يتبعون لواء عسكريا بالهجوم على مبنى محافظة الحديدة لمنعها إياهم من السيطرة على أراض يدعون أنه تم صرفها لهم من قيادات عسكرية سابقة.
كل شيء يمر بتهامة
تهامة نافذة الخير والشر في آن واحد كإقليم مفتوح على العالم بحريا. فكما يستقبل الميناء معظم واردات البلاد، فهو يستقبل المرحّلين من السعودية بمئات الآلاف، ويستقبل الأسلحة والمخدرات التي تقصد السوق المحلية، وتعبر الحدود الشمالية إلى السعودية، وسبق أن دخل منه المماليك والأتراك كغزاة، ودخل منه أوائل المستشرقين الأوروبيين إلى بلاد «العربية السعيدة»، وقبل ذلك بزمن، في القرن السادس الميلادي، خاض الملك الحميري يوسف ذو نواس عباب بحره على ظهر حصانه، منتحرا لعار الهزيمة التي لحقته من الغزاة الأحباش. أما من جهة الشمال، فقد عبرته جيوش الملك عبد العزيز آل سعود في حربه مع اليمن (1934)، ولم تنسحب إلا بالتوازي مع انسحاب جيوش الإمام يحيى من نجران، وكان مسرحا لإحدى حروب الحوثيين والسلفيين وحلفائهم قبل أشهر في مدينة حرض.
يعد سكان المناطق المحاذية للبحر من تهامة، من أفقر سكان اليمن، وليس من المبالغة القول بأن محافظة كالحديدة هي عاصمة البؤس والفقر في اليمن، ويتسلط على سكانها عدد من المشايخ الموالين للسلطة، يمتلكون سجونا خاصة لمعاقبة أي خارج عن طاعتهم، بل ويقومون بالتعذيب الوحشي لهؤلاء دون تدخل السلطات المحلية. وهكذا يلجأ التهاميون للتسول بشكل كبير، بل ويتم تهريب عدد كبير من أطفالهم إلى السعودية للغرض ذاته، بالإضافة إلى كون تهامة معبرا لمتسللي القرن الأفريقي الذين يقصدون السعودية.
سمك وخير كثيران
آلاف التهاميين يعيشون على صيد الأسماك. والأراضي التهامية تنتج معظم المحاصيل والفواكه، تصدر أغلبها لمصلحة شخصيات نافذة إلى الخارج والداخل، ما شكل مصدر نقمة ضد القادمين من المرتفعات لنهب أراضي السهول الغربية، استغلها الحراك التهامي في بداياته لإقناع المواطنين بسعيه لرفع الظلم عنهم ومنع نهب أراضيهم. وأغرب قصة نهب وتزوير حدثت لأرض زراعية تمت في شمال غرب تهامة المحاذية للحدود السعودية حيث بيع 100 كلم مربع من أراضي المنطقة المتاخمة لحدود المملكة لمواطن سعودي بطرق غير شرعية بالطبع، ولم تزل محاكمة المتورطين في القضية مستمرة.
وعلى إغراق تهامة الأسواق المحلية بالأسماك واللحوم.. فهي مصدر الفل التهامي المزين بزهور (والمسمى «الزنط الحيسي» نسبة إلى منطقة زراعتها) ويضرب به المثل يمنيا على دلال وغنج الجميلات بالقول: «زنط حيسي»، أي تمنّع قائم على إدراكهن مقدار الجمال الطبيعي الذي يمتلكنه. وفي الوقت ذاته تمد تهامة اليمن بأرقى أدبيات النشيد الديني الذي يردد في أرجاء البلاد كما هو حال القصائد المحمدية لعبد الرحيم البرعي. ويمتلك أبناؤها تسامحا فكريا نادر المثال، وتراثا ثريا بشقيه الشفهي والمكتوب.
إقليم جاذب
هذه المميزات تجذب المشاعر والتطلعات، حيث ما زال قرابة مليون مواطن من وصاب وعتمة (مناطق متاخمة لتهامة ومتجانسة معها كليا) يطالبون بضمهم لهذا الإقليم بدلا عن آزال البعيد عنهم جغرافيا وثقافيا وتاريخيا والذي ضمهم إليه التوزيع الحالي للأقاليم. وإن نجحت فعالياتهم المطلبية، فسيكون هذا الإقليم أكبر الأقاليم من حيث عدد السكان، وربما كان أثراه في الإنتاج الاقتصادي أيضا، فهو أيضاً مصدر أكبر الموارد الضريبية والجمركية للبلاد، ويضم عددا من أكبر المصانع والشركات، ويمتلك مقومات سياحية متنوعة وثرية للغاية، طبيعية وتاريخية. لذلك، فإن نجحت عملية الأقلمة على الأرض، فقد يتحول إلى واحد من أغنى الأقاليم ليس بثرواته الطبيعية وحدها، وإنما ببيئته الإنتاجية والثروة البشرية الهائلة لديه والممتلئة بثقافة تاريخية عريقة تقدس العلم والعمل.
الثروة السكانية الكثيفة لتهامة (كإقليم) تتركز في جبال ريمة والمحويت وهما محافظتان كثيفتان سكانيا. وعلى الرغم من وعورة جغرافيتهما وارتفاع جبالها، إلا أنهما تتمتعان بالخضرة والجمال، وتعدان مراكز جذب سياحي داخلي هام. وأما زبيد التاريخية، فهي مسجلة على قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو وهي جاذب للسياحة الثقافية والتاريخية باعتبارها أول مركز لدولة مستقلة عن الخلافة العباسية في اليمن (الدولة الزيادية)، ما جعل السيطرة عليها لاحقا مصدرا لشرعية أي دولة تحكم اليمن، بما فيها تلك التي نشأت في صنعاء أو تعز.
أما الحديدة المدينة كعاصمة للإقليم، فهي واحدة من أوسع مدن اليمن وأعرقها في الأخلاق المدنية والانفتاح على الآخر. وإجمالا، فإن هذا الإقليم متخفف إلى حد بعيد من أعباء السلوك القبلي المتمثل في الحرص على امتلاك وحمل السلاح، وقطع الطرق العامة للتعبير عن المطالب أو لرفض الإجراءات التي تقوم بها السلطة.. وبالتالي فهاجس الزوار الأمني هنا هو أقل منه في أي إقليم آخر باستثناء ربما إقليم الجند.
وغربا، يمتد ساحل تهامة على معظم المناطق اليمنية المطلة على البحر الأحمر، ليترك جزءا بسيطا الى جنوبه لإقليم الجند. وعبر هذا الامتداد، تستلقي بعض من أجمل مدن اليمن الساحلية كالخوخة. وفي الأعماق تنتشر مئات الجزر الكبيرة والصغيرة، وأبرزها جزيرة كمران ذات المقومات السياحية الاستثنائية التي لم تستغل بعد... وعلى الرغم من اعتبار هذا الامتداد أحد مصادر الخطر، كمنفذ للمهربين المحليين والدوليين، إلا أن تأمينه بشكل جاد كفيل بتحويله إلى مصدر سعادة وأمن اقتصادي.
يمكن القول باختصار إن إقليم تهامة هو واحد من أهم وأثرى أقاليم اليمن، إن تركته مراكز القوى في الأقاليم الأخرى بعيدا عن صراعاتها السياسية، وإن حصل أبناؤه على فرصهم المستحقة في استثمار ثروات إقليمهم، والعيش بما يؤمنون به من قيم التسامح والتعدد المثمر الذي يستوعب الكل دون الحاجة لصراع من أجل إثبات حق، أو إقصاء مستحق، لينعم هؤلاء بهدوء البحر ويقظة الجبل وما بينهما من تناغم وتكامل وقوة.