بدأت، منذ منتصف العقد الماضي، التغيرات المناخية الكونية ترخي بظلالها الثقيلة على البيئة المحلية السورية. حلَّ الجفاف في عموم البلاد، لكن إقليم الجزيرة كان ضحيته المباشرة، حين ترافقت موجات الجفاف الأسوأ في تاريخ المنطقة مع انهيار المخزون الاحتياطي من المياه الجوفية في أحواض الأنهار الرئيسية. وهذا الانهيار ما كان ليحدث لولا التوسع بغير ضوابط في حفر الآبار لمرافقة التمدّد الشره في خطط الزراعة المروية. كما تجاهلت السياسات الليبرالية للحكومة السورية الوقائع. في مطلع العام 2008، وبالتزامن مع تحرير الحكومة أسعار بعض المشتقات الزراعية ورفع سعر المحروقات، انهارت الزراعة في إقليم الجزيرة. ووفقاً لما ذكرته الأمم المتحدة فقد تعرّضت 60 في المئة من الأراضي السورية و1.3 مليون شخص، معظمهم في إقليم الجزيرة، إلى أضرار بسبب الجفاف. وطبقاً للاتحاد الدولي للصليب الأحمر والأمم المتحدة، فإن ما يزيد عن 800 ألف شخص فقدوا موارد رزقهم بالكامل. الجفاف بين العامين 2006-2009 طرد مئات آلاف البشر من مناطق استقرارهم في موجات هجرة صبّت في ريفي حلب ودمشق. هذه المُستَقَرّات الجديدة للنازحين كانت مناطق مُستَبعَدَة سلفاً من خطط التنمية الحكومية والدعم، وتُمثِلُ الحدائق الخلفية المُهمَلة لمدن عملاقة. وهي مكتظة بأهلها والنازحين إليها ومحرومة من أبسط مقومات التنمية البشرية والاقتصادية. وقد أصبحت بعد عامين فقط مركزاً رئيسياً للثورة السورية.
الهبوط الى الجحيم
مع بداية التحول الحكومي نحو بدعة «اقتصاد السوق الاجتماعي»، وتَخفُفِ الدولة من دورها التنموي، لم يَعُد إقليم الجزيرة يُمثِلُ الحجر الأساس في فرضية الأمن الغذائي والاقتصادي المستدام، رُغمَ أنه يَشغُلُ ما يقارب 40 في المئة من مساحة سوريا، ويتألف إدارياً من ثلاث محافظات: الرقة ودير الزور والحسكة، ويضُمُ 4 ملايين نسمة. يتمتع الإقليم بطبيعة جغرافية سهليّة، تمتد على رقعة واسعة من «حوض الفرات» وسهول حلب، ويشكل كامل مساحة «حوض الخابور» و«حوض دجلة» المائيين في سورية. وتُقدَّرُ المساحة القابلة للزراعة فيه بنسبة 43 في المئة من مساحته الكلية، ما يمثل أكثر من ثُلُثِ المساحة القابلة للزراعة البعل في سورية، وأكثر من نصف مساحة زراعتها المَروية. تعتبر الزراعة المروية المعتمدة على مياه الأنهار والآبار العماد الرئيسي للإنتاج الزراعي في إقليم الجزيرة، وهي بالعموم زراعة موسمية. القمح والقطن هما المنتجان الرئيسيان للمنطقة، التي ساهمت بين العامين 2003-2007 في إنتاج 57 في المئة من مجمل محصول القمح السوري، وما يقارب 73 في المئة من انتاج القطن. تصل نسبة الماشية في الإقليم إلى 37 في المئة من اجمالي القطعان في سورية، وينتج 34 في المئة من الصوف، و21 في المئة من الحليب. المنطقة أيضاً هي المنتج الرئيس للنفط والغاز.
اتجه منحى الهطولات المطرية والموارد المائية الناجمة عنها نحو التناقص مع استمرار ظاهرة الجفاف. يظهر ذلك في اتساع مساحة الصحراء السورية بنسبة 6.4 في المئة عن مساحتها للعام 1970 (تعريف الصحراء بأنها الأرض التي تقل نسبة الهطولات المطرية فيها عن 200 ميلمتر سنوياً). كما ازدادت مساحة المنطقة الهامشية الواقعة في المجال المطري 200-250 ميليمتر سنوياً بنسبة 51 في المئة عما كانت عليه للعام 1970. انخفضت نسبة الهطولات المطرية في الأعوام الأخيرة إلى النصف تقريباً، وهو مؤشر خطير بالنسبة لتأمين مياه الشرب للسكان. وكان لهذا التدني أثر كبير على الواردات المائية المتجددة، الجوفية والسطحية، مما انعكس على الإنتاج الزراعي بشكل حاد، وتأثرت كذلك الزراعات المروية. وتدنت حصة الفرد من الماء إلى 454 متراً مكعباً في السنة في «حوض الخابور» وأصبحت دون حد الفقر المائي الافتراضي المقدر بـ1000 متر مكعب للفرد سنوياً. وأصبح تواتر موجات الجفاف أكثر حدوثاً، ويضم مناطق لم تصلها من قبل، وخصوصاً في الموسم 2007-2008 حيث شمل الجفاف كافة مناطق زراعة الحبوب التي يقل معدل أمطارها عن 600 ملم/سنة. وأما جفاف موسم 2008-2009 فشمل مناطق جديدة.
جفاف نهر الخابور
نتيجة حفر الآبار، نَضُبت مياه نهر الخابور اعتباراً من العام 2001 ، حيث توقف التدفق الحر لمياه ينابيعه للمرة الأولى منذ آلاف السنين. يصبّ في الخابور عدد كبير من الروافد تغطي معظم مساحة محافظة الحسكة، ثم يتدفق النهر جنوباً ليرفدَ بدوره نهر الفرات. تبلغ المساحة الإجمالية لحوض نهر الخابور ما يقارب 20 ألف كيلومتر مربع ضمن الأراضي السورية، وتمثل هذه المساحة الأراضي الزراعية المروية من مائه أو عبر الآبار المتغذية من مياهه الجوفية. ورغم انعدام جريان الماء في مجاري نهر الخابور، استمر حفر الآبار على حوضه. ففي العام 2006 بلغ عدد الآبار الكلية المحفورة في حوض الخابور 2391 بئراً تروي ما يقارب 45 الف هكتار، بعد أن كان عددها 232 بئراً العام 1984 تروي 2400 هكتار. وقد ظل مشروع «ري الخابور» بسدوده الثلاثة فارغة من دون ماء لكونه يعتمد في ملئها على مياه الينابيع التي جفت، مما تسبب في حرمان سكان البلدات والقرى على طول مجراه من مياه الشرب والري. ينطبق ذلك على مجرى نهر البليخ في محافظة الرقة. وقد وصلت نسبة المتوافر من المياه للري في الأعوام الماضية إلى ما يكفي فقط لري 34 في المئة من المساحات المخطط لها. وظهر العجز في معظم الأحواض المائية منذ بداية التسعينيات، وبلغ ما يقرب من 4 مليارات متر مكعب للعام 2001-2002 و5.5 مليار متر مكعب للعام 2007-2008 . تسبب هذا العجز بانخفاض حاد في مناسيب المياه الجوفية مما أدى إلى زيادة تكاليف الضخ وبالتالي تكاليف الإنتاج الزراعي.
تضافر الطبيعة وسياسات النظام
يشكل سكان الريف 47 في المئة من التعداد السكاني في سورية، وتعمل 20 في المئة من العائلات الريفية في تربية المواشي التي تعتبر المصدر الرئيس للدخل في الأسر الريفية الفقيرة في مناطق البادية الشمالية والشرقية. كان للجفاف تأثير قاس على الحيوانات ومعيشة المربين، وتسببت عمليات بيع الحيوانات الواسعة في العام 2008-2009 إلى انخفاض سعرها بمقدار 60 في المئة. تزامن ذلك مع رفع الدعم الحكومي عن المواد العلفية وتحرير أسعارها لترتفع إلى حدود 200-300 في المئة في فترة شهدت ارتفاع أسعاره عالمياً. وعلى الرغم من الكارثة البيئة التي كابدتها هذه المنطقة (مما يثير أهمية أن تندرج سوريا في جهود مناهضة التغييرات المناخية، فهذه الأخيرة منظومة تتأثر بفعل الإنسان)، فقد تقاطعت هذه الكارثة مع أخرى من صنع النظام القائم، الذي اختار تحرير الأسعار ورفع الدعم في هذا الوقت بالذات، من ضمن وجهة اللبرلة التي اعتمدها بشكل مفتوح منذ 2005. ومع انعدام المراعي الطبيعية، وتضاعف سعر المياه، ارتفعت نسبة نفوق الماشية الفتية إلى 45 في المئة. خسر مربو الماشية، نتيجة الضرر الكبير الذي لحق بمحصول الشعير وانعدام المراعي، حوالي 70 في المئة من ماشيتهم. وخسر ما يقرب من 60 ألف من صغار المربين الذين يملكون أقلّ من مئة رأس من الماشية كل مواشيهم. وموجات الجفاف الأولى أدت إلى انخفاض انتاج القمح في المناطق البعلية في العام 2008 بنسبة 82 في المئة عن العام 2007 وخسارة موسم الشعير بالكامل، وذلك حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة الدولية «الفاو» وبرنامج الغذاء العالمي. كما انخفض إنتاج القمح الإجمالي، بما في ذلك في المناطق المروية بنسبة 47 في المئة والشعير بنسبة 67 في المئة. ارتفعت أسعار الحبوب والسلع الغذائية الرئيسية نتيجة قلة الإنتاج وارتفاع الأسعار العالمية، وتدهورت الموارد المالية لسكان المناطق المتأثرة بالجفاف، مما اضطر الكثير منهم إلى بيع ممتلكاتهم وحيواناتهم بأسعار منخفضة لشراء احتياجاتهم الغذائية بأسعار مرتفعة. إن عدم وصول المساحات المزروعة بعلاً إلى مرحلة الحصاد بصورة كاملة، وخاصة في المنطقة الشمالية الشرقية، أدت إلى انحدار ما يقارب 150 ألف أسرة (1.3 مليون إنسان تقريباً) إلى مرحلة الفقر الحدّي، أي بدون مخزون غذائي. كما تسبب انعدام الحصاد في خسارة البذار. في العام الثاني من الجفاف 2008-2009 تأثرت أكثر من 100 ألف أسرة (682 ألف نسمة) بشدة من الجفاف.
الإجراءات الحكومية
تميّزت الإجراءات الحكومية بقصر النظر في توقع الجفاف وفي معالجة آثاره الاقتصادية والاجتماعية. فاتخذت الحكومة اجراءات آنية مثل تقديم حصص علفية مدعومة للأغنام، وحصص غذائية مجانية لبعض الأسر الأشد فقراً. كما تم رفع سعر شراء الدولة للقمح من 17.5 إلى 20 ليرة للكيلوغرام، وإعادة جدولة ديون المزارعين المستحقة للمصارف الزراعية. أما المراسيم والقوانين المتعلقة بمنح القروض المدعومة للتحول إلى الزراعة المروية الرشيدة (القانون 91 لعام 2005) فقد ظلت أشبه بالأحاجي المعقدة التي تتطلب جملة من الكفالات وضمانات للقروض.
لم تقم السلطة السورية بأي معالجة جدية للأزمة في إقليم الجزيرة، بل استمرت في سياسات التحرير الاقتصادي (اللبرلة) السحرية السائرة بها منذ منتصف العقد الأخير: فسحت المجال أمام التسويق الحر لبعض المحاصيل الاستراتيجية كالشعير والذرة الصفراء، وقامت بتحرير عملية استيراد وتداول المُدخلات الزراعية كافة بما فيها الأسمدة ومواد المكافحة الحشرية والمواد العلفية، مما تسبب في رفع أسعارها أضعافاً عدة بالتزامن مع أزمة الجفاف الكبرى. وفي نيسان/ابريل 2008 تم رفع سعر ليتر المازوت من 8 إلى 25 ليرة سورية، أي أكثر من ثلاثة أضعاف دفعة واحدة، وذلك في وقت السقاية للزراعات المروية، مما تسبب في رفع حاد لتكاليف ضخ المياه من الآبار المعتمدة على مضخات الديزل. أدى ذلك إلى توقف فلاحين كثيرين عن متابعة خدمة محصولي القمح والقطن.
الكارثة في واحد من مظاهرها
بلغ عدد سكان محافظة الحسكة 1.329 مليون نسمة حسب احصاء العام 2004، وقد تحولت من محافظة جاذبة للسكان بمعدل نمو سكاني 2.46 في المئة بين العامين 2000-2006 إلى منطقة طاردة لهم اعتباراً من العام 2007. وصلت نسبة المهاجرين بسبب الجفاف من هذه المحافظة وحدها للعام 2007 إلى 30 في المئة من مجموع السكان. وقاربت في نهاية العام 2008 حدود الـ 40 في المئة. ويذكر بأن 24 مدرسة في الحسكة أغلقت أو دمجت مع غيرها بحلول العام 2008. تعتبر الهجرة الموسمية للعمل أمراً عادياً للأسر الفقيرة في محافظات المنطقة الشمالية الشرقية. ولكن، ومع موجات الجفاف المتلاحقة، فقد حدث تحوّل في طبيعة هذه الهجرة. قليلة هي الدراسات الخاصة بمناطق نزوح الهاربين من الجفاف والتصحر، إلا أن ريفي حلب ودمشق كانا مركزَي الاستقطاب للنازحين الجدد، ما شكل حالات ضغط كبيرة على مناطق كانت تعتبر بالأصل شديدة الفقر ومهمشة وضعيفة الخدمات. وظهرت على أثرها أزمات تتعلق بازدياد الطلب على الغذاء والماء، وازدادت أيضاً نسب التسرب من المدارس للقادمين الجدد، ولوحظ ارتفاع معدل السرقة والجرائم.
قد تصلح مجمل هذه اللوحة لتفسير سياقات لاحقة، وبالأخص ما يتعلق منها بانفجار الغضب الشعبي بعد ذلك بسنوات قليلة، واتخاذه مظاهر تدميرية ـ ذاتية ـ تشبه الخراب العنيف والسريع اللاحق بحياة هؤلاء الناس!