سعيدة المنوبية، أو عائشة الصوفية، والنهضة

هناك النهضة الحقيقية وتلك المزوَّرة. وللتمييز بينهما، تجدر العودة إلى إتيمولوجيا اللغة العربية. ويمكن العثور على التعريف الصحيح لهذا المصطلح في معجم "لسان العرب" الذي يتألف من 12 مجلداً، وأصبح المرجع العالمي للغة العربية. ولا يجب أن ننسى التذكير بأنّ مؤلِّفه هو التونسي ابن المندور.بالمعنى الإتيمولوجي الوارد في "لسان العرب"، النهضة تعني الاستفاقة والولادة الجديدة واليقظة الفكرية. وقد عرف
2012-12-26

آمنة بن ميلاد

استاذة جامعية من تونس


شارك
مقام السيدة عائشة المنوبية

هناك النهضة الحقيقية وتلك المزوَّرة. وللتمييز بينهما، تجدر العودة إلى إتيمولوجيا اللغة العربية. ويمكن العثور على التعريف الصحيح لهذا المصطلح في معجم "لسان العرب" الذي يتألف من 12 مجلداً، وأصبح المرجع العالمي للغة العربية. ولا يجب أن ننسى التذكير بأنّ مؤلِّفه هو التونسي ابن المندور.

بالمعنى الإتيمولوجي الوارد في "لسان العرب"، النهضة تعني الاستفاقة والولادة الجديدة واليقظة الفكرية. وقد عرف العصر الحفصي نهضة حقيقية للفكر البشري مع مفكرين كبار كابن المندور وابن خلدون وسعيدة منوبية التي أحرق الوهّابيون ضريحها في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وهو الضريح الذي سبق أن حظي بحماية جميع عهود الحكم منذ القرن الثالث عشر! كانت سعيدة منوبية تبلغ من العمر 43 عاماً عندما وُلد ابن مندور، وقد سبقت عهد ابن خلدون بنصف قرن من الزمن (66 عاماً تحديداً).

من عمق القرن الثالث عشر، علّمتنا سعيدة المنوبية ماذا يعني أن يكون المرء حراً. كان اسمها الحقيقي عائشة. ومنذ العقد الرابع للقرن العشرين، تناوب حوالي عشرة مؤرخين لتخصيص جزء من نشاطهم العلمي لهذه المرأة. لقد وُلدت في قرية منوبة الصغيرة، وكانت لغتها الأصلية الأمازيغية، التي تسمّى لغة البربر. ويوثّق إبن خلدون اللغات التي كانت متداولة في تونس خلال العهد الحفصي. ويشير في الفصل السادس من "مقدمته"، إلى أن لغة البربر كانت متداوَلة في جميع الأنحاء الريفية ما خلا المدن الكبيرة. حتى في تلك المدن، كان يجري كثيراً الخلط بين اللغتين الأمازيغية والعربية.

كانت عائشة تتقن هاتين اللغتين منذ طفولتها. كان والدها يشغل وظيفة دينية (المؤدِّب أي المعلم، أو الإمام، والأمر ليس محسوماً حتى اليوم)، وكان يدرّسها اللغة العربية والقرآن. في مراهقتها، لم يتم إجبارها على المكوث في المنزل، وكانت تتخالط مع سكان القرية بحرية. لقد وفّر لها والدها الحماية ضدّ التحرش الجنسي التي كانت تشكو منه أحياناً. وطلب أحد أقاربها الزواج منها، لكنها رفضت على قاعدة "ما قيمة الزواج من دون حب"؟ لم يكن أفق القرية يشفي غليلها، فهجرتها. ولدى وصولها إلى تونس، وجدت حلاً لمشاكل السكن والعمل. أقامت في إحدى ضواحي المدينة خلف محلّة القصبة، خلف "رهبة الغنم" حيث يتم بيع الخراف والعلف.
ولأن الحرية تنبع من الاستقلالية الاقتصادية، فقد كانت حائكة، تعلّمت المهنة منذ طفولتها في "مدرسة والدتها"، وهي مدرسة متخصِّصة في الغزل والنسيج النسائي. ومنذ الحقبة القرطاجية، تظهر جداتنا في الفسيفساء التونسية وهنّ يغزلن الصوف بسلام.

ثمّ تسجّلت عائشة في إحدى مدارس "الزاوية" لتتعلّم الاسلام الصوفي، كان يدير المدرسة سيدي بالحسن. وهي تتمايز عن المذهب المالكي بإيلاء الأهمية أكثر للجانب الإنساني. لم يكن دخول النساء إلى تلك المدرسة محظوراً، تماماً مثلما كان الحال في الفروع الأخرى لمدارس "الزاوية" على امتداد تاريخ البلاد (سيدي محرز في القرن العاشر، وسيدي بن عروس في القرن الثالث عشر) حيث كان الاختلاط الطبيعي واضحاً.

لقد تتلمذ أستاذ عائشة في المذهب الصوفي، سيدي بالحسن، على أيدي أبو مدين، الذي كان بدوره أحد تلامذة ابن عربي الأندلسي. ومدرسة ابن عربي الأندلسي حاسمة في مسألة المساواة بين البشر، أكانوا رجالاً أو نساء أو مسيحيين أو يهود... لم تتعرّف عائشة إلى ابن عربي مباشرةً، فحين زار تونس لمرّتين، كانت لا تزال طفلةً لم تتجاوز الثامنة. لكن عائشة باتت "مسكونةً" بسلسلة من الإشارات الروحية التي تصبّ في النهاية عند فكر ابن عربي.

لقد تعلّمت الطريقة الصوفية على مراحل، ونجحت في امتحاناتها، وانتقلت من مرحلة التلميذة الفتية إلى مرتبة متساوية مع أستاذها. وولد نقاش بين شخصيتين ذكيتين وتملكان المعرفة. كانا ثنائياً روحياً. سيدي بالحسن المغربي وسعيدة المنوبية التونسية. هل كانت وحدة وحداثة مبكرتين للمغرب العربي؟ بقية أتباع تلك الأخوية كانوا يأتون بأعداد كبيرة للاستماع إلى النقاشات الفكرية الدورية بين بالحسن والمنوبية. يقوم المذهب الصوفي حصراً على القرآن وعلى السيرة النبوية، وهو لا يستند إلى الشريعة ولا إلى مذاهبها ولا جسمها التشريعي. ولدى هذا المذهب الصوفي حرية في تفسير القرآن. لهذا السبب، فإنّ المذهب الصوفي مُستهدَف من قبل الوهابيين، على اعتبار أنه "حرام". لقد تأسس المذهب الوهابي في السعودية خلال القرن الثامن عشر، واتّخذ مداه الأوسع عالمياً بعد اكتشاف النفط. وهو مذهب يشدّد على العنف وعلى الخوف من الله، ولا يأبه كثيرا للانسان. في المقابل، يشدّد المذهب الصوفي على السلام وعلى سعادة الروح وعلى حب الله. "الحب هو ديني وإيماني" بحسب ابن عربي، كما أنه "لا وجود لجواز سفر للوصول إلى السمو" (لذلك ربما، فإنّ أعمال ابن عربي محظورة في السعودية).

يُعرَف عن عائشة تلاوتها القرآن 1620 مرة في حياتها. لم تكن ترتدي حجاب الرأس، وكان قرارها ذاك مبرراً بنظرية تندرج في إطار افكار ابن عربي. فهو في مؤلّفه الرئيسي، "الفتوحات المكية"، يشدّد على الفصل بين عمق الانسان ودواخله من جهة، ومظهره الاجتماعي من جهة ثانية، أي بين "الظاهر" و"الباطن". وحده الشخص العميق المأخوذ بإيمانه بالله، هو كائن ذو معنى. وفي تونس ما بعد الثورة، بات حجاب النساء واللحية لدى الرجال، أو أخيراً تلك الموضة الجديدة المتجسدة بـ«زبيبة الصلاة» فوق الجبهة، أمور لا تشير سوى إلى التعلُّق بالمظهر الخارجي، أي نقيض جوهر التصوف.

المرأة، وفق جلال الدين الرومي، أحد تلامذة ابن عربي، هي شعاع النور الالهي، بعكس ما نشهده اليوم في تونس من عدد متزايد من النساء المختبئات خلف أثواب سوداء تجعل المرء يظنّ أن الليل قد حلّ...

يمكن تصوُّر عائشة وهي ترتدي ثوباً من الصوف الأبيض، وهو لباس "البدن" الصوفي، كحال المتصوّفين الآخرين. إنّها قطيعة جريئة مع الشريعة التي تُلزم النساء بارتداء المنديل، كون المرأة مُعتبرة "عورة" (المصطلح مستقى من اللغة العبرية erva). وغطاء الشعر والوجه مذكور في التوراة (سفر التكوين والأناشيد الدينية). للأسف، وعبر العصور، لم يسعَ "حرّاس" الشريعة، لا إلى وضع مظاهر الشريعة، حتى تلك الأكثر دموية منها، في سياقها التاريخي، ولا إلى التثبُّت علمياً من جذورها اليهودية السابقة على الاسلام.

كانت عائشة غير المحجبة صادمة لكثيرين، إلى درجة أن أحد القضاة تمنى رجمها (الرجم غائب عن القرآن، بينما هو مذكور في الجزء الخامس من التوراة). في حينها، قام السلطان أبو زكريا بالدفاع عن عائشة. وكان الأخير يتعاطى بإيجابية مع الأفكار التي روّجت لها مدرسة سيدي بالحسن في المجتمع، وكان يحترم عائشة بشكل خاص. في أحد الأيام، أراد التحدث معها، وقد قصدها هو وليس العكس. وكان معروفاً عن عائشة أنها تتعاطى مع الآخرين من موقع المساواة، ومن الند للند. وهي بذلك فقد أخلّت بالتراتبية الهرمية التقليدية المبنية على معايير رجال/ نساء، حكام / محكومين. بحسب تعاليم الاسلام الصوفي، ما يهمّ هو درجة الترقي الروحي للكائن البشري. هل كانت عائشة بذلك مواطِنة ديموقراطية قبل أوانها؟

كانت عائشة مناهضة للزواج، ويجدر فهم أسبابها. فالنساء في زمنها محاصَرات في منازلهن ومراقَبات ومطيعات لأزواجهنّ. ويشير ابن خلدون في "مقدمته" إلى انّ على النساء والأطفال واجب الطاعة. كانت الديموقراطية بين الزوجين، أو الشراكة بمفهومها الحديث، أمراً غفلت عنه الفلسفة في ذلك الزمن، حتى بالنسبة لعزيزنا عبد الرحمن... وقد سبق للبنات الثلاث ليحيى بن غانية (وقد سُمّي شارع باب البنات الشهير في تونس تيمناً بهنّ) أن رفضنَ الزواج أيضاً، وهنّ اللواتي عرفهنّ والد ابن خلدون مباشرةً. هل كان ذلك سلوكاً تمهيدياً لمبدأ عالمية حقوق الانسان؟ لقد عارضت عائشة العبودية قبل 6 عقود من تاريخ إلغائها رسمياً في تونس (عام 1846 في ظل حكم أحمد باي). وقد عُرف عنها أحياناً دفع أثمان باهظة في مقابل الأسرى التونسيين الذين وقعوا ضحايا العبودية في إيطاليا. هل أتقنت عائشة اللغة الايطالية فضلاً عن لغتيها الأصليتين، الأمازيغية والعربية؟ إنه لسؤال جدير بالطرح. كيف وبأية لغة تمكنت من التفاوض حول تمويل تحرير مواطنيها من ضحايا العبودية في إيطاليا؟ كان أجدادنا الحفصيون منفتحون جدّاً على التبادل اللغوي والتجاري مع أوروبا، بحسب ما يثبته المؤرّخون. لم يخن هؤلاء تقاليدنا الايجابية في إتقان لغات عدّة، وهي العادات التي تعود إلى الزمن الذي كانت فيه قرطاج عاصمة البلاد، قبل أن تصبح تونس هي العاصمة. وعندما قرّر سيدي بالحسن مغادرة تونس متجهاً إلى مصر، قام بترقية عائشة إلى مرتبة القطب، وهي المرتبة الروحية الأرفع في الصوفية، وتشير إلى أن صاحبها يجسّد قطب المعرفة والنور. وقد سلّمها بالحسن ملابسه وخاتمه في احتفال تسليم رسمي، لتصبح عائشة نسخة عن رابعة العدوية التي سبق لابن عربي أن اعترف بها كقطب. وفي الاسلام الصوفي، يدير القطب الصلاة، وهو يتقدم إمامين من الصف الأول، وإمامين آخرين من الصف الثاني.

لقد عمّرت عائشة كثيراً، وعند وفاتها، سار جميع الأعيان الحفصيين في تشييعها. وفي حين يعني اسمها الحياة، فإنّ أتباع الوهابية، ومن خلال حرق ضريحها، يعيدون لها الحياة والكلمة الحاسمة. من الملح العودة لمراجعة نهضتنا الحفصية التي عشناها في القرن الثالث عشر برجالاتها ونسائها، كي نعيد شحن أنفسنا بتلك المرحلة، ولتفادي عالم الظلام المموَّل نفطياً.

مقالات من تونس