- قلتَ في المقال التحليلي الذي نشرته مؤخرًا مجلة "كونتروتان" (Contretemps)، أن الحراك بقيَ في موقف الهجوم الاستراتيجي، بينما حقق النظام، بعد الانتخابات، انتصارا تكتيكياً. أي طريق يجب على الحركة إتباعها لتنتصر؟ وهل تعتقد أنه يمكن للحراك أن يحقق بدوره انتصارا تكتيكيا، وهو يحيي الذكرى الأولى لبدايته (22 فبراير، 53 أسبوعاً) ؟
لتحقيق نصر تكتيكي في الذكرى الأولى ل 22 شباط/ فبراير، يتعين على الحراك أن يحرز على نتيجة لهدف معين، في اليوم ذاته، مثل إطلاق سراح جميع المحتجزين، أو إمكانية تنظيم اجتماع دون ضرورة طلب رخصة مسبقاً، أو أيضا تخفيض كبير في التواجد المكثف للشرطة خلال مظاهرات يومي الثلاثاء والجمعة ... أتمنى أن أكون مخطئًا، ولكن لا يوجد أي مؤشر على استعداد السلطة للتنازل عن أي أمر هام.
لقد بقيَ الحراك في وضع الدفاع التكتيكي إذ أنه مجبر على انتزاع كل تلك المكاسب، أي تحرير المعتقلين، والكف عن الاعتقالات، وفرض الحق في التجمع وفي التظاهر، الذي ما زال في الواقع محظوراً في بعض مدن البلاد ...
الجزائر: مخاض ولادة رأسمالية متلعثمة
29-03-2019
لكنه لا يزال أيضاً في وضع الهجوم الاستراتيجي لأنه ظلّ قوياً، حتى أنه تعزز أكثر في الأسابيع الأخيرة. بينما تبقى السلطة في موقف دفاعي استراتيجي.فهي لم تخرج بعد من أزمتها العضوية لأنها تدرك أنها غير شرعية ومرفوضة من قبل جزء كبير من الشعب، بسبب فشلها في إعادة بناء واجهة ديمقراطية للنظام الاستبدادي (البرلمان في حالة خراب، والأحزاب تحتضر...). كما أن السلطة لم تتوصل إلى وضع حد لأزمة هيمنة البرجوازية المنقسمة بين، من جهة، شق ليبرالي يحكم حالياً، ومجبر على التعامل حتميا مع الضغوطات الشعبية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ومن جهة أخرى معارضة "ليبرالية جداً"، يوجد بعض ممثليها في الحكومة، لكنها غير قادرة على تطبيق سياستها بسبب تلك الضغوطات الشعبية نفسها، خاصة وأنها تتميز بعدم وطنيتها، مما يصدم بقوة ضمير ومصالح جزء من جهاز الدولة العميقة.
يبقى أنه ليس من السهل أن يحدد شخص بمفرده، وفي سياق مقابلة كهذه، المسار الذي يجب أن تتبعه الحركة لتتوصل إلى الانتصار، بل إن ذلك، بلا شك، من باب المستحيل. ثم علينا أوّلا أن نُوضّح معنى الانتصار. فإذا كنا نعني بذلك، الإطاحة بالسلطة عن طريق ثورة وإقامة نظام ديمقراطي ينبع من سلطة مزدوجة، فلا أعتقد أن الحراك قادر اليوم على تحقيق هكذا وضع، أو حتى أنه عازم على ذلك. ولا أتحدث هنا على اختيار شخصي، وإنما على قدرة موضوعية. لكن، وعلى أساس تقييم موضوعي لميزان القوى، يمكن القول أنه إذا ما قام الحراك بالضغط على السلطة لإجبارها على التفاوض حول انتقال سياسي بقيادة مشتركة (كما في مثال السودان)،يصبح من الممكن، في ظل ظروف معينة، أن نأمل في تحقيق الانتصار. ثم إنه من الواضح أيضا، أن مفاوضات كهذه لن تصبح ممكنة إلا إذا قبلت السلطة شروطها المسبقة، أي الإفراج التام عن المعتقلين السياسيين، وإلغاء الأحكام والغرامات المفروضة على من تمت محاكمتهم، وفتح المجال السياسي (أي حرية التعبير، والحق في التظاهر والتجمع، وإنشاء تنظيمات، والحريات النقابية، والحق في الإضراب دون قيود...)، وكذلك فتح المجال الإعلامي، وعدم التدخل في العدالة ، إلخ.
ولإجبار السلطة على التفاوض، يجب أن يتم تعزيز التعبئة، خاصة بإنشاء نقاط تواصل مع الحركات الاجتماعية التي على الرغم من أنها تتضاعف في البلاد، فهي تعمل اليوم بالتوازي مع الحراك وليس بالتكافل معه. هذا ما يجب العمل على تحقيقه من خلال الدخول في معركة سياسية وإيديولوجية ضمن الحراك، لمقاومة الموقف النخبوي البرجوازي والتغلب عليه، لأنه يرى فرقاً شاسعاً بين "المطالبات السياسية" التي يعتبرها نبيلة، و"المطالبات الاجتماعية" التي يحتقرها ويعتبرها مبتذلة. أصبح من الضروري إذا العمل على فرض فكرة داخل الحراك، وهي أن المطالب الاجتماعية هي بالأساس مطالب سياسية بما أنهاتدخل في نطاق السياسات الاقتصادية. وفي الوقت نفسه، لا بد من جعل الحركات الاجتماعية (مثل النقابات ومجموعات المواطنين الذين يدافعون عن الحق في السكن، وغيرهم...) تدرك ضرورة أن تتجاوز الإطار المختص الضيق أو المحلي، وأهمية أن تدمج نضالها في المقاومة من أجل نظام ديمقراطي واجتماعي. دعني أستحضر هنا صورة معبرة عن الحاجة الملحة إلى إيجاد تقاطع بين المطالب السياسية والمطالب الاجتماعية. كان ذلك يوم الثلاثاء 11 شباط/ فبراير، في الجزائر العاصمة، خلال المسيرة الطلابية، التي كانت في الواقع شعبية.حينها مر الحراك أمام حشد من المواطنين كانوا يتظاهرون أمام مجلس الشعب البلدي وسط العاصمة ضد استبعادهم من برنامج سكن. فما كان من الحراك إلا أن واصل مسيرته، بينما استمر المتظاهرون من جهتهم في رفع لافتاتهم وترديد شعاراتهم أمام المبنى العمومي. إن ما يجب إنشاءه إذاً في الأشهر القادمة، هي نقاط تلاقي وتواصل مثل هذه.
ويمكن أن يصبح الحراك بعد ذلك بوتقة جميع المعارك الجزئية والمحلية والمهنية، وأن يستند إلى أسسه الثلاثة: الاجتماعي والديمقراطي والمضاد للإمبريالية. وتجدر الإشارة إلى أن مقاومة الإمبريالية يتم التعبير عنها بالفعل في نطاق التضامن مع فلسطين (لكن مع الأسف لا يوجد بعد مثل هذا التضامن مع الشعب الصحراوي)، وكذلك في نطاق مكافحة استغلال الغاز الصخري، ورفض قانون المحروقات، ومعارضة التدخل الإمبريالي (الفرنسي، الأمريكي أو الإماراتي...).
أما على الصعيد الديمقراطي فيجب على الحراك أن يدعم بشكل خاص معركة القضاة والمحامين من أجل استقلالية العدالة عن الحكومة، وأن يواصل النضال من أجل إطلاق سراح السجناء وإنهاء الترهيب والقبض على المتظاهرين ...
و بما أنه لا يمكن موضوعياً، أن تتم هيكلة الحراك في حد ذاته، فلا بد من العمل على ظهور و/ أو تعزيز النقابات والجمعيات والأحزاب. وعلى الرغم من أن تحقيق كل هذه العمليات يتطلب بعض الوقت، إلا أنها تبقى شروطا ضرورية يقتضيها كل انتصار لأن السلطة عاقدة العزم منذ عدة عقود،على كسر جميع هياكل النضال والتنظيم سواء كانت نقابية أو حزبية أو تابعة للمجتمع المدني عامة.
لإجبار السلطة على التفاوض، يجب أن يتم تعزيز التعبئة، وخاصة بتحقيق نقاط تواصل مع الحركات الاجتماعية التي تعمل اليوم بالتوازي مع الحراك وليس بالتكافل معه. لا بد من مقاومة الموقف النخبوي الذي يرى فرقاً شاسعاً بين "المطالبات السياسية" التي يعتبرها نبيلة، و"المطالبات الاجتماعية" التي يحتقرها ويعتبرها مبتذلة.
ويظل أحد شروط تحقيق النصر، مستقبلا،هو مواصلة "المقاومة التي ترتكز على حركة"، حتى يتسنى، بفضل المظاهرات الكبيرة، فرض العودة إلى التعبير الحر عن السيادة الشعبية، من خلال فتح المجال لتحول ديمقراطي ضمن تعزيز "صراع المواقف"، الذي يرمي إلى انتزاع أقصى قدر من الحريات والحقوق والمكاسب السياسية الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية.
- هل تعتبر أن حكومة عبد المجيد تبون الجديدة ووفاة الجنرال قايد صالح، قد أحدثت تغييرات في سياسة الحكومة؟ وإلى أيّ درجة ترى أن وعود الحوار التي قدمها الرئيس الجديد تستحق الثقة ؟
حكومة عبد المجيد تبون الجديدة مجبرة على إجراء تغييرات لأنها لا تستطيع مواصلة سياسة تسببت في انفجار 22 شباط/ فبراير 2019. بل وعليها أن تمحو أكثر جوانب حكم بوتفليقة مهانة وإفراطا، وذلك بالتخلي النهائي عن عبادة الشخصية التي كان هذا الأخير موضوعها، وذلك باشادة تبون في خطبه بـ "الحراك المبارك"،الذي لولاه لما وصل هو إلى الرئاسة. ثم لا بد للحكومة الجديدة أن تقدم أيضا بعض المبادرات الديمقراطية بخصوص الحريات ضمن مشروع الدستور الذي تقوم بإعداده، وأن تواصل مكافحة الفساد (مشروع تجريم الاحتيال الضريبي...). ويجب كذلك أن يركز عبد المجيد تبون عمله فورا، كما لاحظنا قبل بضعة أيام خلال اجتماعه الوطني مع الوُلّاة، على تحسين الظروف المعيشية للطبقات المحرومة، ولاسيما في الريف والمرتفعات والمناطق الجبلية و الصحراء.
إن السلطة مرغمة إذاً على إحداث تغييرات في سياستها بسبب ما تشعر به من خوف سياسي إزاء الحراك، وكذلك بسبب الغضب الشعبي الذي يتعدى نطاق الحراك. لكن من الواضح أن إمكانية هذه التغييرات تبقى محدودة إذا أخذنا بعين الاعتبار الاعتقالات وإدانات المتظاهرين، ورفض إطلاق سراح المعتقلين، ومنع المناضلين والحراكيين جميعهم من قاعات الاجتماعات، والقمع المستمر من أجل عرقلة مسيرات الجمعة في بعض المدن ... حتى أنه يمكن فهم مدى الحدود التي تضعها السلطة لإمكانية التغيير، من خلال التصريحات المتتالية لعبد المجيد تبون. فالمسألة بالنسبة له،هي مسألة "استعادة ثقة المواطنين" وليس السماح لهؤلاء المواطنين بأن يقرروا بأنفسهم طبيعة الهيكل المؤسساتي للدولة (الدستور) وسياسة الحكومة الاقتصادية والاجتماعية والخارجية. أي،باختصار، أن يصبح المواطنون في النهاية، أصحاب السيادة والمكون الأساسي للبلاد. وهذا يعني طبعا أن الحكومة تنوي إدخال تغييرات ضمن النظام الحالي وليس تغيير النظام نفسه، وهو أمر مفهوم تماماً من وجهة نظرها.
المسألة بنظر رئيس الوزراء هي "استعادة ثقة المواطنين"، وليس السماح لهؤلاء المواطنين بأن يقرروا بأنفسهم طبيعة الهيكل المؤسساتي للدولة (الدستور) وسياسة الحكومة الاقتصادية والاجتماعية والخارجية. أي، باختصار، أن يصبح المواطنون في النهاية، أصحاب السيادة والمكون الأساسي للبلاد.
أمام وعود السلطة والتغييرات التي تنوي تحقيقها، والتي ستشكل كلها انتصارات للحراك إذا ما تحققت فعلا، يجب على الحراك أن يضع بدوره خارطة طريق لنشاطاته وأن يمنح نفسه وسائلا لتجميع الطاقات حتى يبني كتلة اجتماعية بديلة تصبح هي الأغلبية في البلاد.
- عندما تتحدث الصحافة عن "نشطاء الحراك المؤثرين"، فهل هي تشير إلى نوع من القيادة المجهولة؟ من يقود الحراك في الواقع ؟ وهل يشكل غياب قيادة معروفة للحركة عقبة أمام المفاوضات مع الحكومة؟
في الواقع ليس للحراك قيادة، لا معروفة ولا غير معروفة، حتى لو أنه يوجد بوضوح العديد من المرشحين، لم يتم الإعلان عنهم رسمياً، ولكن يمكن بسهولة فهم تطلعاتهم لهذه الوظيفة السياسية. وعلى الرغم أن الحراك يَكنّ احتراما كبيرا للمعتقلين السياسيين الحاليين، والمستقبليين والذين تمّ الإفراج عنهم، إلا أن هذا لا يعني، إلى حد الآن، أن لهم تأثيراً سياسياً على الحركة. ليس هناك قوة سياسية تقود الحراك، بل يوجد نوع من السديم يجمع العديد من التيارات، دون أن يكون لأي منها هيمنة على البقية. كيف يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك عندما نعرف حالة القوى السياسية والثقافية في البلاد؟
ثم إن غياب قيادة رسمية لا يشكل، في رأيي، عقبة كبيرة أمام إجراء مفاوضات، لأن الحراك يستطيع دائما، خلال مظاهراته الأسبوعية، الموافقة على تشكيل مجموعة من المفاوضين أو شجبها. كما يمكنه بالطريقة نفسها الموافقة على نتائج هذه المفاوضات أو رفضها. فالحراك هو حركة ضغط على السلطة، ولم يتم لحد الآن تنظيمه وتتويجه بقيادة حتى يشرع في مفاوضات أو يضع نفسه بديلاً مباشراً للسلطة. بينما يمكنه تماماً أن يفوض، بشكل مباشر أو غير مباشر، نوعا من التمثيل، وأعتقد أنه سيجد من تلقاء نفسه الطرق الملائمة للقيام بذلك.
- ما هي علاقة الحراك مع بعض أبطال الاستقلال، قادة"جبهة التحرير الوطني" التاريخيين، ممن تمّ ذكرهم خلال المظاهرات، مثل عبان رمضان وعميروش آيت حمودة؟
لقد أشاد الجميع بأن الحراك، وخاصة الأجيال الشابة ضمنه، يعترف بالشخصيات التاريخية لحركة التحرير الوطني. تلك الشخصيات، التي ذكرت من بينها بضع أسماء، تمثل رموز النضال من أجل التحرير الوطني للشعب الجزائري من الاستعمار الفرنسي. فمن الطبيعي إذا أن يعترف الحراك الذي يقاوم اليوم من أجل التحرر السياسي للشعب بهذه الشخصيات التاريخية.
- الجيش هو العمود الفقري للدولة الجزائرية، كما أبرزته هذه الأزمة، فهل يمكن أن يُهزم سياسياً وهو أقوى جيش في أفريقيا، وأحد أكبر الجيوش في العالم ؟
الجزائر: الحراك والجيش
01-06-2019
لا يتعلق الأمر في رأيي بإخضاع الجيش. لقد رأينا في ليبيا وسوريا إلى أين أدى الخلط بين النضال ضد النظام والنضال ضد الدولة. والحراك يقاوم من أجل تغيير النظام، فهو ليس ضد الدولة أو الجيش، بل ضد مصادرة السيادة الشعبية من قبل النظام، الذي تشكل الكوادر العسكرية العليا جزءًا منه. ومنذ بدايته، رفع الحراك هتاف: "الجيش والشعب، إخوة- إخوة" وهو يطالب في الوقت نفسه بـ"نظام مدني وغير عسكري"، أي نظام ديمقراطي. إن إحدى المهام الرئيسية للقوى السياسية اليوم تتمثل في التفكير في المحور المفصلي سلطة مدنية / جيش في خدمة الشعب، حتى لا تقع في الشكليات البرلمانية البرجوازية التي تدّعي أن الجيش يجب أن يكون محايداً وغير سياسي - وهذا لا يمكن بالمرة–وذلك بهدف فرض سياسات ضد الشعب. يجب على الجيش أن يكون داخل لعبة السياسة، لكن سياسة تكون في خدمة الجماهير، وتحت سيطرة السياسيين، ممثلي الشعب المنتخبين. هذا في رأيي مبدأ عام يستحق أن يكون محل تفكير وتعمّق من أجل أن يتحقق تنفيذه.
- كانت ولايات منطقة القبائل في طليعة الإضراب العام، لماذا رفضت خوض انتخابات 12 كانون الاول/ ديسمبر2019؟ وكيف تفسر هذا الدور الطليعي؟ هل له أسباب تاريخية؟ هل هو نتيجة تنظيم لجان المواطنين؟
المنطقة القبائلية توجد، في رأيي، في طليعة المعركة، لكنها ليست رائداً للنضال. وأعني بهذا مفهوم قوة الريادة بالمعنى اللينيني للمصطلح، أي قوة اجتماعية تستوفي شرطين. أولاً، أن تكون قادرة على قيادة بقية البلاد وراءها بشكل فعال. ثانياً، أن يتم الاعتراف بها كرائد من قبل بقية القوى في البلاد. بدون كلا الشرطين يمكن في أحسن الأحوال، أن نكون في أول صف من المعركة، وهو موقع بارز ومحترم بل ويحسد عليه، وفي أسوأ الأحوال، أن نكون متقدمين بثلاث خطوات أمام القوات التي ننوي قيادتها وليس خطوة واحدة، واحدة لا غير، لأنها هي بالضبط المسافة التي تحدد موقع الرائد.
لا يتعلق الأمر بإخضاع الجيش. لقد رأينا في ليبيا وسوريا إلى أين أدى الخلط بين النضال ضد النظام والنضال ضد الدولة. والحراك يقاوم من أجل تغيير النظام، فهو ليس ضد الدولة أو الجيش، بل ضد مصادرة السيادة الشعبية من قبل النظام، الذي تشكل الكوادر العسكرية العليا جزءًا منه.
لقد سبق أن استخدمت الصيغة التالية، في كتاب عن المسألة الديمقراطية، بالنسبة للقبائل: "القبائل في طليعة الكفاح الديمقراطي، لكنها ليست رائده" . ومن هذا المنظار، يبدو لي أن شعارات الإضراب العام ومقاطعة الانتخابات لم تكن لتَتَكلل بالنجاح في 12 كانون الاول/ ديسمبر 2019، لأن تطور المقاومة كان غير متكافئ في جميع أنحاء البلاد. إن منطقة القبائل سجلت بالفعل تقدماً بالنسبة لبقية مناطق البلاد، لكنها فشلت في جر تلك البقية خلفها. وهذا هو سبب عدم نجاح الدعوة للإضراب في أمكنة أخرى،كما أنه السبب في أن الجزائريين صوتوا يوم 12 كانون الاول. ديسمبر، بما فيهم بعض من شارك في الحراك في أحيان معينة. ولم تكن المنطقة القبائلية في حد ذاتها هي سبب هذا الفشل. بل ذلك التطور غير المتكافئ عبر البلاد، في الوعي وفي النضال والتنظيم السياسي والنقابي، وضمن المجتمع المدني.
لقد تمردت منطقة القبائل في وقت مبكر لكي تحافظ على تراثها الثقافي واللغوي، بما أن لغتها وثقافتها تعرضتا للقمع منذ عقود. فكان المطلب الديمقراطي في تلك الظروف قوة طبيعية في المعركة "الهوياتية". لذا كانت منطقة القبائل مهد "الحركة الثقافية البربرية"والعديد من المنظمات الأخرى (أبناء الشهداء، ورابطات حقوق الإنسان، والحركات الطلابية، والنسائية، والثقافية...). وبما أنها تصدت كمنطقة جبلية، أكثر من غيرها من المناطق،إلى تدمير هياكلها الاجتماعية التقليدية، كانت المنطقة القبائلية أيضاً أحسن تنظيماً على مستوى القرى (تاجمات، وتويزا...). وهذا لا يعني بالطبع أن المناطق الأخرى كانت غير منظمة بالمرة. ثم أخيراً، يعتبر إقليم القبائل، منطقة هجرة مكثفة إلى فرنسا، وبالتالي اكتسب العديد من العمال القبائليين تجارب في النقابات والجمعيات والمنظمات السياسية من خلال النضالات التي سبق لهم أن خاضوها في المدن الاستعمارية الكبرى.
لكل هذه الأسباب، كانت المنطقة القبائلية في طليعة النضال الديمقراطي، وهذا لا يعني بشكل ميكانيكي أن القبائليين كانوا جميعهم ديمقراطيين عن قناعة، في خطابهم وفي ممارستهم. ولكن المنطقة احتلت المركز الأول في المعركة الديمقراطية لأنها كانت بحاجة ملحة لهذه المعركة،مما شكل كسباً ثميناً للمنطقة نفسها وللجزائر بأكملها.
ومن وجهة النظر هذه، حققت بقية مناطق البلاد منذ العام الماضي قفزة سياسية ضخمة، خاصة بتفادي الوقوع في فخ الانشقاق الجهوي، الذي حاولت الحكومة زجّها فيه منذ حزيران/ يونيو 2019. ويبقى الآن أن نسارع بالعمل على تأهيل بقية البلاد حتى تلتحق بالقبائل، وهذا من مهمات الأحزاب والنقابات والجمعيات.
- كيف ترى تشكيل" ميثاق البديل الديمقراطي" ؟ وأي دور يمكن أن يلعبه ؟
إن جميع المبادرات التي ترمي إلى المساهمة في تعزيز ونجاح الحراك هي موضع ترحيب ويجب تحيتها. وقد ساهم "ميثاق البديل الديمقراطي" من دون شك في تقدّم الوعي السياسي في البلاد باتجاه فكرة جمعية تأسيسية سيادية.وأتاح عمله في منطقة بجاية، وهي مهد قديم للنضالات النقابية والسياسية، فرصة لإظهار ما يمكن أن يحققه التواصل بين القوى السياسية والنقابية والمجتمع المدني من حيث التعبئة والوعي والتنظيم. لكن تجربة بجاية بقيت للأسف فريدة حتى الآن. لذا تتمثل المهمة الأولى لميثاق البديل الديمقراطي، مع جميع من يوافقه، في العمل على توسيع نطاق هذه التجربة إلى الولايات الأخرى، وذلك لتجنب إعطاء انطباع بأن الميثاق هيكل معلق في الفراغ،يستمد شهرته فقط من وسائل الإعلام. يرتبط الأمر إذا بإدماج المسألة الاجتماعية في طلبات الحراك والعمل بكل صبر لجعل النقابات تقوم بدورها في هذه الحركة، وهو أمر لم يتحقق مع الأسف لحد اليوم.
من ناحية أخرى أرى أن شعار جمعية تأسيسية سيادية، الذي يجب مواصلة نشره، لن يكون فعّالًا، ولن يكف بالتالي عن الظهور بشكله الدعائي أساسا، إلا حين تتوصل الحركة الشعبية إلى فرض انتقال حقيقي. فلا بد للمقاومة اليوم أن تتجه نحو هذه المسألة، وتحدد لها تكتيكا نضاليا.
جميع المبادرات التي ترمي إلى المساهمة في تعزيز ونجاح الحراك هي موضع ترحيب ويجب تحيتها. وقد ساهم "ميثاق البديل الديمقراطي" من دون شك في تقدّم الوعي السياسي في البلاد باتجاه فكرة جمعية تأسيسية سيادية.
ثم لا ننسى أنه تم تقويض القوى السياسية والنقابية وقوى المجتمع المدني من قبل النظام الليبرالي الاستبدادي، وكذلك الليبرالية الاقتصادية وتبعاتها الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية (خراب الشبكات الصناعية، والتخفيض من إجمالي القوى العاملة، وتدهور النقابات، وانتشار الفردانية ...) مع ظهور الإسلاموية خلال العقدين 1980 و 1990. كانت مَحدَلة ومرت على الحركة الشعبية بأكملها، ويجب اليوم إعادة بناء هذه الحركة لأن القوى التي تشكل ميثاق البديل الديمقراطي لم تنج من ذلك التدهور التاريخي.
- ما هي المسارات التي يجب على الطبقة العمالية الجزائرية إتباعها لتنظيم نفسها بشكل مستقل؟
تتكون الطبقة العمالية من العاملين في الصناعة والزراعة، ولكن أيضا من الموظفين والعاطلين والمتقاعدين والفنيين... ويجب عليها تعزيز تنظيمها النقابي والعودة إلى رؤية نضالها بمنظار الطبقية. إن العمال يكافحون بالفعل، وبعضهم ينظمون كفاحهم في إطار نقابات، لكنهم لم يتخلصوا بعد من هيمنة قوات البرجوازية الصغيرة. لقد تداعى تأثير الأفكار المتعلقة بالطبقية التي كانت تحملها الحركات والمنظمات المستمدة من مفهوم الطبقية. بينما لا يمكن سوى لحزب طبقي أن يجعل العُمال يتركون هذه الرؤية ويطورون رؤية خاصة بهم. لكن لا يوجد مع الأسف أي حزب طبقي - حتى لا نتحدث عن حزب ثوري. لذلك فإن المهمة الأولى هي العمل على بناء هكذا حزب. وأؤكد على بنائه وليس الإعلان عنه، لأنه من السهل وضع أيديولوجية ثورية، وبلورة ما يشبه البرنامج الراديكالي، والترويج لشعار ولتنظيم، لا يبقى على العمال إلا أن ينضموا إليه ويستكينوا له.لقد قمنا بكل هذا منذ عقود إلا أن ما قمنا به كان غير مُجد.
الجزائر: اللامرئيون في "ثورة الابتسامة"
23-04-2019
لا يتعلق الأمر إذا بالتولي على موضع العمال بل بالقيام بعمل سياسي (تعليم شعبي، عمل نقابي، نضال سياسي، وما إلى ذلك) حتى يقدر أكثرهم وعياً إنشاء حزبهم بأنفسهم، لأن أول مهمة، في بلد لم يحصل فيه العمال على استقلالهم الطبقي، هي تمكينهم من انتزاعه بأنفسهم. سوف يحتاج هذا العمل إلى شيء من الوقت وإلى نضج سياسي عند الناشطين في القضية العمالية، حتى يتمكنوا من التمييز بين ما هو ضروري وما هو ثانوي، ومن القطع مع الدوغماتية والتعصب، دون أن يتخلوا أبدا عن معتقداتهم.
من السهل وضع أيديولوجيا ثورية، وبلورة برنامج راديكالي، والترويج لشعار ولتنظيم، لينضم إليه العمال ويستكينوا له. لقد قمنا بكل هذا منذ عقود،وكان غير مُجدٍ: المطلوب ليس التولي على موضع العمال بل القيام بعمل سياسي (تعليم شعبي، عمل نقابي، نضال سياسي...) حتى يقدر أكثرهم وعياً على إنشاء حزبهم بأنفسهم.
لقد حان وقت تجمع العمال في منظمات نقابية وفي حزب طبقي. أما ساعة التوضيح وحتى الانفصال بين التيارات الثورية والإصلاحية فستحل في ما بعد، عندما يتم وضع المسألة بشكل ملموس ضمن النضالات الطبقية الحالية، لا على أساس تقييم تاريخي. وإذا بقينا خارج هذا المنهج فإننا سنشهد، كما هو الحال للأسف في معظم البلدان، صراعًا أيديولوجيًا دائمًا بين طوائف معزولة عن الجماهير ولا جذور لها بين العمال، وبالتالي لا جدوى ترجى منها.
*حوار مع الكاتب نشر في 25 شباط/ فبراير 2020 على الموقع البرتغالي "اسكواردا".
**ترجمة سعيدة شرف الدين، بأذن من الكاتب.