السودان: هل تهدد "الجيوش المتعددة" الفترة الانتقالية؟

يواجه السودان تحديات متنوعة ومخاطر كبيرة تحيط بالفترة الانتقالية التي فرضتها الثورة العارمة، بعدما اطاحت بالبشير وعقدت تسوية مع العسكر، قوامها تقاسم السلطة والتمهيد لمدنية الحكم ولاجراء انتخابات عامة خلال ثلاث سنوات. هنا تناول لواحد من أهم تلك التحديات.
2020-02-14

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
حمزة بونوة -الجزائر

منتصف كانون الثاني / يناير المنصرم، عاش سُكان الخرطوم ساعات طويلة من القلق والتوجّس بعد تمرد جنود من هيئة العمليات، وهي ذراعٌ عسكريّة لجهاز المخابرات السوداني، الذي أسسته الحركة الإسلامية، إذ أطلق الجنود الرصاص في الهواء، وأغلقوا بعض الشوارع بالتزامن في عددٍ من المناطق في الخرطوم. خرج بعض الجنود من معسكراتهم، ووزعوا الذعر بين المواطنين، وعطلوا حركة السير لساعات. لتتدخل لاحقاً القوات المسلحة (الجيش) وقوات الدعم السريع، لاحتواء الأزمة بعد اشتباكات استمرت طوال الليل وحتى ساعات الفجر الأولى. والأزمة تفجرت حينما تأخر صرف مستحقات نهاية الخدمة لجنود جهاز المخابرات، وكانت الحكومة الانتقالية التي تشكلت بعد سقوط الرئيس السوداني عمر البشير في نيسان / إبريل 2019 قررت حل الذراع العسكريّة لجهاز المخابرات، وحصر مهامه في جمع المعلومات وتحليلها. ويبلغ عدد جنود جهاز المخابرات نحو 13 ألفاً.

كانت هذه الحادثة بمثابة جرس إنذار للمخاطر التي تمثلها القوات العسكرية الموازية، أو تلك التي كانت في معسكر المعارضة تقاتل البشير. ويبرز هنا سؤالٌ محوري يتعلق بمستقبل ومصير هذه الجيوش المتعددة بعد "ثورة ديسمبر". وقد تكشّف أن الرئيس المخلوع خلّف واقعاً اقتصادياً آيلاً للانهيار الشامل، ومؤسساتِ دولة مثقلة بأيديولوجيا الإسلام السياسي، وفساداً لم يترك شبراً في البلاد إلا ووطأه.

تواجه ثورة السودانيين التي أزاحت نظام البشير المسيطر على البلاد منذ حزيران/يونيو 1989 واقعاً عسكرياً وأمنياً غاية في التعقيد. وحتى وإن كانت بعض أطرافه الرئيسية فاعلة طيلة سنوات الكفاح ضد نظام البشير، إلا أن تعقيداتٍ عديدة، ربما لم تكن في الحسبان، تبرز بعد سقوط البشير.

في العام 2003، أي بعد أربعة عشر عاماً من حكم الإسلاميين، انفجر الصراع في إقليم دارفور غربي السودان، وبرز تحالفٌ مسلح يرفع شعارات القضاء على التهميش جراء سوء إدارة الموارد وتوزيع التنمية في البلاد، وقادت حركتا "تحرير السودان" بقيادة منّي أركو مناوي وعبد الواحد محمد نور، و"العدل والمساواة" بقيادة خليل إبراهيم، الحربَ ضد حكومة الخرطوم، وإن كانت الحركتان تنحدران من قبيلة واحدة في هذا الإقليم المأزوم، إلا أنهما استطاعتا لاحقاً أن تضمّا في صفوفهما عناصرَ القبائل ذات الأصول الإفريقية، حينما علا صوت الهوية في خطاب الحركات المسلحة. خليل إبراهيم كان من أبرز قيادات الحركة الإسلامية الحاكمة، قبل أن يفاصل "إخوانه" في التنظيم والدولة ويرفع البندقية في وجههم، وقُتل خليل إثر غارة استهدفت معقله في نهاية 2011 ليتزعم الحركة بعد رحيله شقيقهُ جبريل إبراهيم. أما مناوي فهو قائدٌ ميداني وسياسي بلا خلفية فكرية محددة، لكنه يتبنى لدرجة كبيرة أفكار "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بقيادة الراحل جون قرنق، والتي قاد مشروعها السياسي والفكري إلى انفصال جنوب السودان عام 2011 بعد اتفاقية سلامٍ دولية تم توقيعها في ضاحية نيفاشا الكينية عام 2005، وأنهت حرباً أهلية استمرت لنحو عشرين عاماً في جنوب السودان.

تصاعد الصراع في دارفور بعد انفصال الجنوب

بعد انفصال جنوب السودان وإعلان دولة جديدة هناك في 2011، تفاقم الصراع المسلح في إقليم دارفور الذي كان يشهد بداية حرب.وكانت العاصمة النيجيرية أبوجا قد احتضنت في العام 2006 اتفاقَ سلام بين حكومة السودان وقائد حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، شغل بموجبها منصب كبير مساعدي الرئيس، وهو أول اتفاق سلام بشأن دارفور، لكنه قاد لانشقاقٍ كبير في هذه الحركة الرئيسية ليصبح عبد الواحد محمد نور، الذي كان عضواً في الحزب الشيوعي السوداني، قائداً لفصيل رئيسي اختار البقاء في "الغابة" بينما اختار رفيقه مناوي الدخول إلى "القصر" قبل أن يتمرد مجدداً بعد أربع سنوات ويلتحق برفاقه في الغابة.

في العام 2003، انفجر الصراع في إقليم دارفور غربي السودان، وبرز تحالفٌ مسلح يطالب بالقضاء على التهميش. وقد تفاقم الصراع المسلح بعد انفصال جنوب السودان في العام 2011. وتنحدر الحركات المسلحة في إقليم دارفورمن العرق الإفريقي. وهي رفعت، بجانب مطالب القضاء على التهميش في الثروة والتنمية والسلطة، شعارات "الهوية".

تنحدر جميع هذه الحركات الرئيسية في إقليم دارفور، من العرق الإفريقي. وبجانب مطالب القضاء على التهميش في الثروة والتنمية والسلطة، رفعت الحركات شعارات الهوية، واتسعت دائرة الصراع في الإقليم، وتفشّى العمل المسلح ضد حكومة الخرطوم، وجذب خطاب الحركات المسلحة بخصوص التهميش والهوية أنظار العالم. إثر ذلك، سلّحت حكومة الخرطوم مجموعاتٍ عربية لقتال الحركات المسلحة هناك، ليتحول الصراع من "مطلبي" إلى "عرقي".

ارتكبت هذه المجموعات مجازر إبادة جماعية متتالية ضد العنصر الإفريقي، وصعّدت قضية دارفور إلى سدّة الاهتمام العالمي، حتى أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في آذار/مارس 2009 مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير المطلوب للمحكمة بتهم جرائم حرب وجرائمَ ضد الإنسانية.

وفي أعقاب هذا التطوّر، استمرت الخرطوم في دعم المكوِّن العربي في الإقليم ضد المكوِّن الإفريقي، فتزعّم موسى هلال أول ذراع عسكريّة عربيّة لحكومة الخرطوم، وهو الزعيم الروحي للمجموعات العربية التي اصطلح عل تسميتها ب"الجنجويد". وانتظمت هذه المجموعات رسمياً تحت اسم "حرس الحدود".

لكن بعدما لمع نجم زعيم الجنجويد، وهو زعيمٌ قبلي ذو نفوذ، وأظهر مطامع سياسية، بدأت حكومة الخرطوم بالتراجع عن دعمه رويداً رويداً، ولجأت إلى تأسيس قوةٍ مسلحة بشكل أكثر تنظيماً يتزعمها أحد تلامذة موسى هلال. ونشأت هذه القوة العربية الجديدة في كنف جهاز الأمن والمخابرات، وكانت نواتها مؤلفة من نحو 5 آلاف مقاتل وذلك في العام 2005. ذاعَ صيت هذه القوات المثيرة للجدل بعد صدور قرار رسمي بتشكيلها في العام 2013، ليتزعمها محمد حمدان الشهير بـ "حميدتي" والذي يشغل الآن منصب نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي.

وهي خاضت معارك ضارية ضد الحركات المسلحة المنحدرة من أصول أفريقية، وارتكبت فظائع في الإقليم، من حرق واغتصاب ونهب..هذه النسخة الحديثة من قوات "الجنجويد" حصلت على تدريب قتالي، وحصدت امتيازاتٍ مالية ضخمة من حكومة الخرطوم، نظير دورها الكبير في القضاء على الحركات المتمردة، قبل أن تتحول إلى إمبراطورية اقتصادية خارجة عن سلطات الدولة.

بعد سقوط البشير، أرضاً سلاح؟

حينما سقط البشير في نيسان/إبريل 2019، فرض هذا الواقع العسكري المعقد أن تصبح مليشيا "الدعم السريع" تلك شريكاً رئيسيّاً في الحكم. فهي القوة الضاربة التي استدعاها البشير تدريجياً إلى الخرطوم حينما أحاطت به الأزمات واهتز كرسيّه. لكن، حينما بدأت الاحتجاجات في كانون الأول / ديسمبر 2018، اتخذت هذه القوات موقف الحياد تجاه المظاهرات، فلم تشارك في قمع الحراك الشعبي ضد البشير، وأدى موقفها هذا إلى تحول كبير في المشهد، ربما أسهم بدرجة ما في التعجيل برحيل البشير.

سلّحت حكومة الخرطوم مجموعات عربية لقتال الحركات المسلحة في دارفور، ليتحول الصراع من "مطلبي" إلى "عرقي". ارتكبت "الجنجويد" مجازر إبادة جماعية متتالية، حتى أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في آذار/مارس 2009 مذكرة اعتقال بحق الرئيس السوداني عمر البشير بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وهذه المليشيا القبلية التي اكتسبت سمعة سيئة طيلة سنوات قتالها في دارفور ضد الحركات الإفريقية، وإن تمكنت من انجاز مهمتها العسكرية في دارفور على أكمل وجه، وجدت نفسها في مهب الفعل السياسي المركزي، بعد ذلك الرصيد العسكري المتراكم الذي حققته. ومما أعطاها قبولاً إقليميّاً، مشاركتُها في حرب اليمن ضمن "التحالف العربي" بقيادة السعودية، كماحقق لها مكاسباً اقتصادية باعتبار الدعم الخليجي الذي حُظيت به.

بعد ثورة سلمية شملت جميع مدن السودان، وتوّجت بسقوط البشير، كان المتوقعُ أن تضع كل الحركات المسلحة سلاحها، وتنتظم في عملية سياسية لإدارة ثورة الشعب، لأن هذه الحركات كان هدفها "إسقاط نظام البشير". لكن ذلك لم يحدث، بل عاد الوضع إلى ما هو عليه، عاد إلى متلازمة المفاوضات، فلم تنضمّ الحركات المسلحة مباشرة إلى حكومة الثورة مع حلفائها من الأحزاب والقوى المدنية في البلاد، وبرزت الخلافات في تفاصيل الاتفاق بينها وبينهم. وحينما أُعلن عن وثائق الفترة الانتقالية في الخرطوم في آب/ أغسطس 2019، لم تكن الحركات المسلحة ضمن الموقعين على هذا الاتفاق، ما يعني أن أمام الحكومة الانتقالية مهمة عسيرة لإدارة عملية سلام شامل. وتتفاوض الآن الحكومة الانتقالية مع الحركات المسلحة في جوبا عاصمة جنوب السودان.

ويجري التفاوض مع ثلاث حركات رئيسية في إقليم دارفور، علاوة على التفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان –قطاع الشمال- التي تقاتل في منطقتي "جنوب كردفان" و"النيل الأزرق" بزعامة عبد العزيز الحلو.

وقطاع الشمال هو فصيل أساسي من الحركة الشعبية التي انتهى مشروعها بانفصال جنوب السودان، لكن "شيطان التفاصيل" في اتفاقية نيفاشا لم يحسم بجدارة قضية الترتيبات الأمنية، إذ أبقى على فرقتين من قوات الحركة الشعبية،هي التي قادت الحرب مجدداً ضد حكومة الخرطوم بعد انفصال جنوب السودان عام 2011 قبل تسوية أوضاعها.

بعد ثورة سلمية شملت جميع مدن السودان، وتوّجت بسقوط البشير، كان المتوقعُ أن تضع كل الحركات المسلحة سلاحها، وتنتظم في عملية سياسية لإدارة ثورة الشعب، لأن هدف تلك الحركات كان "إسقاط نظام البشير". لكن ذلك لم يحدث، بل عاد الوضع إلى ما هو عليه، وإلى متلازمة المفاوضات والعنف.

وكانت اتفاقية الترتيبات الأمنية بين حكومة الخرطوم، والحركة الشعبية في 2003 نصّت على الآتي:
• ضمن السودان الموحد، وعند تأكيد الاستفتاء حول تقرير المصير لوحدة السودان، فإن الأطراف (حكومة السودان والحركة الشعبية/ الجيش الشعبي لتحرير السودان) يتفقان علي إنشاء جيش السودان للمستقبل، والذي سيتكوّن من القوات المسلحة السودانية، والجيش الشعبي لتحرير السودان.
• وكجزءٍ من اتفاقية السلام (السلم) وبغرض إيقاف الحرب، تتفق الأطراف على أن القوتين المسلحتين (القوات المسلحة السودانية، والجيش الشعبي لتحرير السودان) سيظلان منفصلين خلال الفترة الانتقالية، كما تقرُّ الأطراف بأن كلتا القوتين ستعتبران وتعاملان سواسية، بوصفهما القوات المسلحة الوطنية السودانية خلال الفترة الانتقالية.
• يتفق الأطراف علي مبادئ التخفيض المناسب للقوات من الطرفين خلال مدة مناسبة، وذلك بعد اكتمال الترتيبات لوقف إطلاق النار الشامل.
• لن يكون للقوات المسلحة الوطنية قانونٌ داخلي أو تفويض بالأمر [Order Mandate] إلا في الحالات الطارئة التي يحددها الدستور.

سياسة البشير "التقسيمية" زادت المشهد تعقيداً

طيلة سنوات البشير، كانت السياسة التفاوضية مع الحركات المسلحة تعتمد على منهج تقسيم الحركات بهدف إضعافها. وفعلياً وقعت انشقاقاتٌ كثيرة في صفوف الحركات، في دارفور على نحو خاص، ووقّعت بعضها اتفاقياتِ سلام هشة مع الخرطوم. لكن هذا النهج زاد من تعقيد المشهد، إذ يصل عدد الحركات في دارفور حالياً إلى سبع، الرئيسية منها ثلاث حركات، وهي "تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي"، "تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور" و"العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم". بقية الحركات هي في الأصل فصائل منشقة من هذه الحركات الرئيسية، هذا فيما يتعلق بمسار دارفور. وهناك علاوة عليها الحركة الشعبية –قطاع الشمال- بقيادة عبد العزيز الحلو.

تُقدر قياداتٌ عسكرية أعداد جيوش الحركات المسلحة التي كانت تقاتل نظام البشير وتتفاوض الآن مع الحكومة الانتقالية بنحو 40 ألف مقاتل. وتقاتلُ بعض هذه الحركات في ليبيا مع طرفي النزاع هناك، ما يعني أن هذا البعد الإقليمي سوف يكون فاعلاً وحاضراً في أية اتفاقيات سلام يتم توقيعها. وعادة، لا تكشف الحركات المسلحة عن العدد الحقيقي لجنودها، وهو يزداد على طاولات التفاوض، بل تبدأ عمليات إعادة تجنيد جديدة بعد التوقيع على اتفاقيات السلام بهدف تحقيق مكاسب أكبر.

طيلة سنوات حكم البشير، كانت السياسة التفاوضية مع الحركات المسلحة تعتمد على منهج تقسيم الحركات بهدف إضعافها. وفعلياً حدثت انشقاقاتٌ كثيرة في صفوفها، في دارفور على نحو خاص، ووقّعت بعضها اتفاقياتِ سلام هشة مع الخرطوم. لكن هذا النهج زاد من تعقيد المشهد، إذ يصل عدد الحركات في دارفور حالياً إلى سبع!

مليشيا الدعم السريع التي تسيّدت الحكم بعد سقوط البشير، تقدر عدد قواتها بأكثر من 30 ألف مقاتل، ينخرط عدد كبير منهم في حرب اليمن. أما عدد جنود هيئة العمليات، الذراعُ العسكريّة لجهاز المخابرات فهو 13ألفاً كما ذكرنا أعلاه، وهؤلاء لم تُحسم أوضاعهم حتى الآن.

ولا تجد قضية الجيوش المتعددة الاهتمامَ الذي يستحق لدى القوى السياسية السودانية. لكن ورشة عمل برعاية أمريكية احتضنتها إحدى العواصم الإفريقية مطلع العام الجاري ناقشت وضعية قطاع الأمن في الفترة الانتقالية.. والقضية الآن متروكة لما تتمخضُ عنه مفاوضات السلام الجارية في عاصمة جنوب السودان، جوبا. وعادة تتعثرُ مثل هذه المفاوضات حينما تصل إلى محور "الترتيبات الأمنية"، وهو المحور الرئيسي الذي يناقش مصير الجيوش بعد اتفاقيات السلام ويحددها. وتتصاعد المخاوف من أن تتمسك الحركات بالاحتفاظ بجيوشها طيلة الفترة الانتقالية، كما حدث في تجربة انفصال جنوب السودان. وهو تمسكٌ يستند إلى احتفاظ "مليشيا الدعم السريع" باستقلاليتها عن الجيش الوطني.

وإذا ما تمَّ اتفاق سلام، وتوافقت الحركات مع الحكومة، وتخطّت محور الترتيبات الأمنية، فإن عمليات تسريحٍ ودمج واسعة سوف تطال جيوش الحركات، لاستيعابها في القوات المسلحة النظامية التي تعتمد شروطاً محددة للاستيعاب. غير أن العقيدة القتالية لهذا الكم من الجيوش، مختلفة، علاوة على أنها تنحدر من إثنيّاتٍ أو مناطق جغرافية مختلفة. وإن كان الرد المنطقي في هذا الصدد هو إعادة التأهيل وتوحيد العقيدة القتالية لهذه الجيوش، إلا أن احتمال وقوع تحالفات غير متوقعة ليس بعيداً خلال الفترة الانتقالية، حيث يتصاعد خطاب "المركز والهامش" في مفاوضات جوبا الجارية حالياً، ما قد يسفر عنه تحالف هذه القوى المسلحة الحاكمة، والتي كانت في صفوف المعارضة، باعتبارها تنتمي جغرافياً إلى ما يُعرف في السياسة السودانية بـ"الهامش". ولا يوجد تعريف واضح في السياسة السودانية لمصطلح "المركز والهامش"، وما إذا كان التصنيف إثنيّاً أم جغرافياً، لكن السودان ظل يُحكم بواسطة "الوسط النيلي"، وهو جغرافياً المنطقة المحيطة بالخرطوم.

عادة، تتعثر المفاوضات حينما تصل إلى محور "الترتيبات الأمنية" الذي يناقش مصير الجيوش بعد اتفاقيات السلام. وتتصاعد المخاوف من أن تتمسك الحركات بالاحتفاظ بجيوشها طيلة الفترة الانتقالية، كما حدث في تجربة انفصال جنوب السودان. وهو تمسكٌ يستند إلى احتفاظ "ميليشيا الدعم السريع" - وريثة الجنجويد - باستقلاليتها عن الجيش الوطني.

***

تظل "ثورة ديسمبر" فرصة تاريخية للسودانيين لطي صفحات الحرب والصراع الذي استمر منذ استقلال السودان 1956. والبلادُ الآن أمام خيارين، فإما أن تطوي هذه الصفحة إلى الأبد، وذلك بإدارة عملية سلام حقيقية تحسم قضايا توزيع التنمية، ونظام الحكم والهوية، وتقتلع أسبابَ الحرب من جذورها. أو يعود السودان مجدداً إلى مربع الحرب التي ستكون هذه المرة أفظع من سابقاتها.

للكاتب نفسه