تعقيدات متباينة تظلل مشهد الانتقال السوداني

الهدف هو تجنب "الدائرة الشريرة" التي عرفها السودان مراراً في تاريخه الحديث، أي الحالة المتمثلة بنجاح انتفاضة شعبية في الإطاحة بحكم عسكري، ليتم بعد فترة انتقالية قصيرة إجراء انتخابات، فتأتي حكومة ضعيفة لا تتمكن من معالجة الأزمات التي تواجه البلاد، الأمر الذي يهيئ لانقلاب عسكري جديد.
2020-02-05

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
محمود العبيدي - العراق

منذ أيام، أعلن "تجمع المهنيين السودانيين"، رأس الرمح في الحراك الشعبي الذي أطاح بنظام الرئيس السابق عمر البشير، عن فتح دفتر الحضور الثوري لاستكمال مهام الفترة الانتقالية. الإعلان حدد ستة أهداف لتكون محور نشاطه طوال الأسابيع المقبلة وهي:

- تعيين الولاة المدنيين وحكومات مدنية للولايات.
- تكوين المجلس التشريعي وحفظ مواقع لحركات الكفاح المسلح، بالاتفاق معها، للاضطلاع بمهام الرقابة والتشريع.
- تكوين المفوضيّات التي نصت عليها الوثيقة الدستورية.
- وضع كل الشركات التابعة للقوات المسلحة وجهاز الأمن والدعم السريع تحت سيطرة وزارة المالية، وتصفية المؤسسات الاقتصادية المعروفة كواجهات للمؤتمر الوطني.
- وضع "بنك السودان" والهيئة القومية للاتصالات تحت سيطرة مجلس الوزراء.
- تولي السلطة التنفيذية ممثلة في مجلس الوزراء ملف السلام، وحصر دور مجلس السيادة في الرعاية.

وسيستخدم التجمع كل الوسائل المتاحة ابتداءً من المسيرات الجماهيرية إلى الندوات والتواصل مع القوى السياسية المختلفة لتحقيق ذلك الهدف.

ومع أن قيام أي جهة بمطالبات ما من الحكومة يبدو أمراً عادياً في الوضع الحالي، لكن أن تأتي المطالبة والأساليب المقترحة للضغط على الحكومة من تجمّع المهنيين، فهو يثير سؤالين أساسيين، يتمحور الأول حول الحاضنة السياسية للوضع الانتقالي الحالي، خاصة في شقه المدني المتمثل في السلطة التنفيذية والحكومة التي يقودها الدكتور عبد الله حمدوك. وأما الثاني فيتعلق بتحديات الفترة الانتقالية عموماً.

من يدعم الحكومة؟

تجمع المهنيين اكتسب صدقية من خلال قيادته، على مدى خمسة أشهر، للحراك الشعبي المناوئ للنظام السابق. وعلى الرغم من توسع المظلة السياسية لتضم إليها أحزاباً سياسية وحركات مسلحة، انتظمت جميعها تحت لافتة "قوى الحرية والتغيير"، إلا أن تجمع المهنيين ظل الجهة الأكثر قبولاً لدى الجماهير. "قوى الحرية والتغيير" هي التي فاوضت المجلس العسكري على ترتيبات الفترة الانتقالية بمؤسساتها المختلفة، كما قامت بتسمية رئيس الوزراء وتقديم مرشحين لشغل الوزارات المختلفة، إلى جانب خطوط عامة لعمل الحكومة، وهي بمكوناتها المختلفة تمثل في نهاية الأمر الحاضنة السياسية التي تستند إليها الحكومة لتنفيذ مهام الفترة الانتقالية.

الخيط الرئيسي الذي جمع مختلف القوى السياسية والنقابية تحت مظلة "قوى الحرية والتغيير" يتمثل في عدائه لنظام الإنقاذ المُطاح به. لكن هناك القليل الذي يجمعها في كيفية التعامل مع مختلف قضايا السلام والاقتصاد وبناء أجهزة الدولة من جديد، إذ لكلٍ رؤيته وأولوياته. وتطور هذا الوضع خلال الأشهر الستة الماضية إلى تباين في مواقف القوى السياسية والنقابية المكوِّنة للحرية والتغيير. ففي الوقت الذي تبنى فيه الحزب الشيوعي مثلاً موقفاً ناقداً للحكومة الانتقالية وسياساتها وعلاقاتها مع المكون العسكري، فإن حزب البعث انخرط تماماً في هياكل الحكم المختلفة ابتداءً من تمثيله في مجلس السيادة، وانتهاءً بتعيينات في بعض المؤسسات الصغيرة. كما أن هناك مواقف متباينة قرباً وبعداً لحزبي الأمة والمؤتمر السوداني. لكن الحكومة تبدو في نهاية الأمر بعيدة عن الدعم السياسي المطلوب لها لتتمكن من العمل، وجاءت خطوة تجمّع المهنيين الأخيرة لتضع على المحك هذه القضية. فكيف يمكن لتنظيم سياسي أن يعارض الحكومة ويساندها في الوقت نفسه.

من أبرز الدروس التي تعلمتها القوى السياسية من الفترات الانتقالية، هي عدم التركيز على الجوانب الإجرائية مثل الإسراع بإجراء انتخابات، وتكوين حكومة ذات تفويض شعبي واضح لتتمكن من مواجهة القضايا المعقدة الموروثة من العهد العسكري الذي تمت الإطاحة به.

في واقع الأمر، يشير هذا التساؤل إلى وضع أعمق يتعلق بالعلاقة بين الحكومة وحاضنتها السياسية، وكيفية التعامل مع القضايا المختلفة. وفوق هذا، هناك القضية الشائكة المتمثلة في غياب الإطار والرؤية والتنظيم السياسي الواضح لقوى الحرية والتغيير، فهي في نهاية الأمر تنظيم جبهوي يضمه اتفاقُ الحد الأدنى، إضافة إلى أن تجمّع المهنيين، وبحكم تركيبته النقابية، لا يملك البعد السياسي اللازم ليسد الثغرة التي تعيق الأداء العام للحكومة.

أما الإشكال الثاني الذي يواجهه الوضع في السودان فيتعلق بتحديات الفترة الانتقالية. هذه القضية ليست جديدة، فالسودان لديه إرث ممتد إلى خمس تجارب انتقال محددة، اثنتان منها كانتا في ظروف مماثِلة، أي حالة وضع سياسي انتقالي نتيجة لثورة شعبية تمكنت من الإطاحة بحكم عسكري.

والتجارب الخمس المشار إليها تتمثل في فترة الانتقال الأولى بين عامي 1954-1956 في أواخر فترة العهد الاستعماري، وإعداد البلاد عبر الحكم الذاتي لنيل الاستقلال. التجربتان الثانية والثالثة تمتا عقب ثورة تشرين الأول/ أكتوبر الشعبية التي أطاحت بالحكم العسكري الأول في 1964 واستمرت عاماً كاملاً عبر شراكة كانت اليد العليا فيها للمدنيين. أما التجربة الرابعة فتمثلت في فترة انتفاضة نيسان/ أبريل 1985 التي أطاحت بالحكم العسكري الثاني بقيادة جعفر النميري، واستمرت أيضاً عاماً كاملاً، وشهدت شراكة بين العسكريين الذين تولوا مهام السيادة والتشريع، تاركين للمدنيين الجانب التنفيذي، وكان تركيزها الأساسي ايصال البلاد إلى مرحلة إجراء انتخابات، وتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة ومفوضة شعبياً لتعالج مختلف القضايا، من السلام إلى الاقتصاد...

التجربة الخامسة كانت مختلفة وطويلة نسبياً،إذ استغرقت ست سنوات جاءت عقب توقيع اتفاق السلام بين الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق ونظام الإنقاذ بقيادة البشير، وكان يفترض أن يتم خلالها إحداث تحولات أساسية في بنية الحكم، لكنها انتهت إلى وقفٍ للحرب فقط ومشاكسةٍ بين طرفي الاتفاق، خاصة مع تركيز الحركة الشعبية على موضوع تقرير المصير الذي انتهى إلى انفصال جنوب السودان، إلى دولة مستقلة دخلت في مشاكل مع الدولة الأم السودان من ناحية، ومع مكوناتها الداخلية من ناحية ثانية تمثلت في حرب أهلية استغرقت خمس سنوات.

تجنب "الدائرة الشريرة"

من أبرز الدروس التي تعلمتها القوى السياسية من الفترات الانتقالية هي عدم التركيز على الجوانب الإجرائية مثل الإسراع بأجراء انتخابات، وتكوين حكومة ذات تفويض شعبي واضح لتتمكن من مواجهة القضايا المعقدة الموروثة من العهد العسكري الذي تمت الإطاحة به. ولهذا كان "ميثاق الحرية والتغيير" الذي تم التوقيع عليه من مختلف القوى السياسية والنقابية المعارضة في الأول من كانون الثاني/ يناير 2019 ينص على فترة انتقالية لمدة أربع سنوات يتم خلالها حسم موضوع الحرب والتوصل إلى سلام مع الحركات المتمردة التي رفعت السلاح، وكذلك معالجة التدهور الاقتصادي ووضع الأسس لتحول ديمقراطي من خلال بناء مختلف المؤسسات، والتأكيد على حريات التنظيم والإعلام وحقوق الإنسان، وكل ذلك لتجنب إعادة إنتاج ما يُطلق عليه "الدائرة الشريرة"، حيث تنجح انتفاضة شعبية في الإطاحة بحكم عسكري، وبعد فترة انتقالية قصيرة يتم إجراء انتخابات لتأتي حكومة ضعيفة لا تتمكن من معالجة الأزمات التي تواجه البلاد، الأمر الذي يهيء البلاد إلى انقلاب عسكري جديد، وهو ما عزز الاتجاه إلى القيام بأمر مختلف هذه المرة وتطويل الفترة الانتقالية.

لكن، وبما أن التغيير تمّ من خلال شراكة بين العسكريين والمدنيين، وكان العسكريون الذين انقلبوا على نظام البشير يدعون إلى فترة انتقالية لمدة عامين فقط، قبل الدعوة إلى انتخابات، فقد انتهى الأمر بالطرفين إلى التوافق على فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات يقودها العسكريون في البداية، والمدنيون في خواتيم تلك الفترة.

يتمثل الخيط الرئيسي الذي جمع مختلف القوى السياسية والنقابية تحت مظلة "قوى الحرية والتغيير" في عدائه لنظام الإنقاذ المُطاح به. لكن هناك القليل الذي يجمعها في كيفية التعامل مع مختلف قضايا السلام والاقتصاد وبناء أجهزة الدولة من جديد، إذ لكلٍ رؤيته وأولوياته.

القضايا التي تواجه الوضع الحالي، من السلام إلى الاقتصاد إلى ترتيبات الحكم.. تبدو أكثر تعقيداً، ويظهر هذا في الكيفية التي تم بها التغيير ابتداءً. ففي تجربة ثورة تشرين الأول/ أكتوبر 1964، دفع الحراك الشعبي صغار الضباط للضغط على كبارهم لتسليم السلطة للمدنيين، وفي التجربة الثانية نيسان/ أبريل 1985، أدت المظاهرات الشعبية إلى دفع هيئة قيادة القوات المسلحة بقيادة الفريق عبد الرحمن سوار الذهب إلى إزاحة النميري، وتسليم السلطة التنفيذية إلى التجمّع النقابي لمدة عام تمّ بعده أجراء الانتخابات.

التغيير الذي وقع هذه المرة جاء مختلفاً خاصة في جانبه العسكري، إذ لم تعد القوات المسلحة هي الطرف الوحيد المقابل للمدنيين بعدما ظهر إلى جانبها كلٌّ من "قوات الدعم السريع" و"الأمن" التي برزت خلال النظام السابق كمراكز قوة عسكرية تنافس في قوتها الضاربة الجيش. ولهذا، عكس التشكيل الاول للمجلس العسكري الانتقالي هذا الواقع إذ ضم ممثلين لقوات الدعم السريع والأمن.

وثيقة الترتيبات الانتقالية الموقعة بين العسكريين والمدنيين قلصت مهام جهاز الأمن إلى العمل الاستخباري وتجميع المعلومات وتحليلها فقط، ونزعت عنه القوة الضاربة عبر هيئة العمليات التي تمّ حلها. وبعد التمرد الأخير لأفراد هذه الهيئة، وحسم ذلك التمرد بواسطة الجيش، وتعيين مدير جديد لجهاز الأمن منتدب من الاستخبارات العسكرية، فإن قدرات جهاز الأمن، كلاعب أساسي في المشهد السياسي، ضعفت إلى حد كبير لصالح القوات المسلحة والدعم السريع.

لدى السودان إرث ممتد يتعلق بخمس تجارب انتقال محددة، اثنتان منها كانتا في ظروف مماثِلة للحالية، أي في ظل وضع سياسي انتقالي نتيجة ثورة شعبية تمكنت من الإطاحة بحكم عسكري.

والسؤال: إلى أي مدى يمكن لشراكتهما هذه أن تستمر، وإلى أي مدى يمكن للعلاقة الشخصية التي ربطت بين رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالرحمن البرهان، وقائد الدعم السريع الفريق محمد حمدان حميدتي منذ أيام عملهما سويّاً في دارفور، أن تمثل صمام أمان بين الطرفين.

وعلى ذلك، تبقى التحديات ماثلة أمام الفترة الانتقالية بمؤسساتها المختلفة. فبعد مضي أكثر من خمسة أشهر على تشكيل مجلس السيادة الانتقالي والحكومة، لم يحدث اختراق يذكر في ملف السلام، أو في مسألة إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب أو في الاقتصاد الذي يتقدم ليصبح هماً يومياً للمواطنين، خاصة مع التدهور المضطرد لقيمة العملة الوطنية مقابل الدولار. ويزداد المشهد تعقيداً بقيام بعض مكونات "قوى الحرية والتغيير" بلعب دور المعارضة في الوقت الذي يفترض أن تكون الحاضنة السياسية للحكومة القائمة.

مقالات من السودان