سلمى: في حضرة الحقائق

حلقة جديدة من رواية اليمن اليوم.
2020-02-01

ريم مجاهد

كاتبة من اليمن


شارك
منى نحلة - لبنان

في الصباح، قررت سلمى أن تكتب كل توقعاتها وهواجسها بشأن لقائها بعلي، واختارت أن يكون ذلك بخط يدها. استرخت وفكرت. لم يكن هناك سوى القلق، لذا كتبت: "مهما سيكون الأمر سيئاً، فإنه لن يكون أسوأ مما كان". أغلقت دفترها القديم، وخبأته بين ثيابها، واستعدت لعمل المطبخ. كانت ساهية، لكن لأسباب عدة. ففي أيام كتلك، ومكان كذاك، يستحيل أن يحتفظ المرء بأفكاره لحيزه الشخصي. قبل دخولها المطبخ، قرأت على الفيسبوك أن هناك شجاراًنشب بين أخوين، استخدما فيه الأسلحة، وبينما يتشاجر الإخوة بسلاحهم، كانت هناك عائلة صغيرة تمر بسيارتها في الشارع، طارت رصاصة، ووجدت هدفها في رأس الزوج، صرخت الزوجة والابنة وظلتا تصرخان. واستمر الشجار بينما تصرخان. وانشغل الناس في الشارع بتصوير صراخ الطفلة وأمها، والدماء المتدفقة من رأس الرجل الذي أخذ على حين غفلة. لم يقم أحد بإسعاف الرجل. سبَقُ التصوير، ونشوة نشر الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي تصبح أكثر جدوى من إسعاف رجل يعلم الجميع أنه قد مات، أو سيموت طالما أن الرصاصة قد اخترقت رأسه. تدفقت أسئلة الناس على فيسبوك متسائلة ببراءة: ما الذي حدث للإنسانية في بلدنا؟ تجمعت كتلة الاحتقار والكراهية في حلق سلمى.

حكت سلمى الحكاية الحزينة لأمها، لا لتجعلها تبكي كما فعلت، بل لتحس بالمشاركة، ولتعرف أن العالم في الخارج لديه أحزانه تماماً كما أحزانها هي وعائلتها، وأن عبث الموت لم يعد يفرّق بين فئات المجتمع. وبينما تحدث أمها، كانت هناك فكرة واحدة تلح عليها: من المحتمل جداً أن تموت خلال لقائها بعلي، رصاصة طائشة، شظية صاروخ، سيارة مسلحين تدهسها، أو مجموعة مجرمين تختطفها.. ليس هذا ما يقلقها، بل هو أنها كذبت بشأن خروجها الليلة، حيث شرحت لأمها أنها ذاهبة لتقابل صديقة قديمة من أيام الثانوية في منزل صديقة أخرى مشتركة. كان صعباً عليها التراجع الآن، وصعب عليها أولاً أن تضع أمها تحت طائلة مسؤولية الشرح للأب في حال قُتلت الليلة، وثانياً أن تقتل فرحة أمها التي اعتقدت أن ابنتها أخيراً لديها صديقات من "المجتمع العادي"، وتستطيع أن تعيش حياتها الاجتماعية بشكل طبيعي غير حبيسة جلدها الداكن، ولا انتماء أمها لمخيمات حواف المدينة. رست غيمة من الكآبة في صدر سلمى، وقررت أخيراً عدم إخبار أمها بالحقيقة.

سبَقُ التصوير، ونشوة نشر الحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، تصبح أكثر جدوى من إسعاف رجل يعلم الجميع أنه قد مات، أو سيموت طالما أن الرصاصة قد اخترقت رأسه. تدفقت أسئلة الناس على فيسبوك متسائلة ببراءة: ما الذي حدث للإنسانية في بلدنا؟ تجمعت كتلة الاحتقار والكراهية في حلق سلمى.

في طريقها إليه، توقفت الحافلة قرابة الساعة الكاملة في اختناقات مرورية سببها خطوطٌ لا تنتهي من السيارات المنتظرة دورها في محطات البنزين. علّق رجل في الحافلة أن قريباً له نام لثلاث ليال في السيارة بانتظار دوره، وأردف سائق الباص أن ابنه يفعل الشيء نفسه باستمرار على أمل الحصول على كمية بنزين تكفي لتشغيل الحافلة. كانت سلمى بانتظار أن يرمي المتحدثون المسؤولية على أحدهم، لكن أيّاً منهم لم يعلق على الموضوع، بل استمر الجميع في تبادل الأمثلة حول أناسٍ يقضون الليالي بانتظار دورهم، وآخرين تعرضوا للابتزاز والسرقة، وكثيرين استسلموا في اللحظات الأخيرة، وغادروا المحطات لا يلوون على شي. وفي المحادثة التي اشترك فيها الجميع، علقت امرأة تجلس في الكرسي قبل الأخير، قائلة أنهم ربما لم يشاهدوا صفوف النساء أمام محلات بيع اسطوانات الغاز، وأقسمت بأنها أصبحت تطبخ مرة واحدة في اليوم كي توفر غاز الطبخ، ولا تمر بأزمة جيرانها الذين اضطروا للسفر إلى القرية حيث سيكون بإمكانهم على الأقل استخدام الأحطاب بِحرّية. سألها رجل عن ما المانع من العودة إلى القرية، ردت عليه بجفاء أن ليس الجميع لديهم قرى في انتظارهم. استمرت سلمى في صمتها، كان علي قد طمأنها بأنه أيضاً عالق في زحام مشابه، وأن لا مشكلة إنْ تأخرت.

أمام بوابة المقهى السوداء الكبيرة، توقفت لثوان. تنفست وذكّرت نفسها أن لا شيء أسوأ مما هو عليه الآن وما كان عليه سابقاً. خطت إلى الداخل، كانت المرة الأولى التي تدخل أماكنَ كهذه، لكنها سمعت الكثير عنها. في الهواء الطلق، ورغم الجو البارد، انتشرت الطاولات الزجاجية، وحولها تجمع شبابٌ من كل الأعمار، من الجنسين. وكفتاة تشاهد هذا المنظر لأول مرة ارتعد قلبها بشعور غريب. كان الجميع متأنقون، والفتيات جميلات صافيات البشرة، يرتدين حجابات زاهية تنحدر من تحتها خصلات شعر ناعمة، وعباياتهن ملونة وقصيرة، يلوحن بكفوف غضة ناعمة، يرتشفن مشروباتهن برقة وتصنع. لم يكنّ يشبههنَّ بشيء عالمُ سلمى المنهك الكالح، حيث شجرة الأوردة ترتسم واضحة على كفوف النساء، والوجوه غبراء لامعة بدهون المطابخ والتعب، يرتدين السواد ويغطين رؤوسهن حتى في المنازل، والرجال يرفلون في ملابسهم المتسخة، ورائحة العرق لا تفارقهم. وفوراً أدركت سلمى أنها خسرت، وستخسر دوماً في مواجهة هذا العالم، وبنفس القوة التي أحست بها أنها أبعد ما تكون عن هذا العالم، أحست تجاهه بالكراهية المطلقة. وعوضاً عن الشعور بالنقص، تأججت بتعالي الأنا التي تسحق ما حولها بنظرة الازدراء. مسحت المكان بحثاً عن علي، لكنها لم تجد شاباً يجلس لوحده. أخرجت هاتفها، وبعثت له رسالة قصيرة تخبره أنها لا تجده في المكان.

كذبت سلمى بشأن خروجها هذا المساء: لن تقتل فرحة أمها التي اعتقدت أنه صار لابنتها أخيراً صديقات من "المجتمع العادي"، وتستطيع أن تعيش حياتها الاجتماعية بشكل طبيعي غير حبيسة جلدها الداكن، ولا انتماءِ أمها لمخيمات حواف المدينة. رست غيمة من الكآبة في صدر سلمى.

قريباً منها، كان حارس المكان ينظر إليها بريبة. ومن رأسها بعينيها اللتين تفيضان عدوانية من تحت اللثام، حتى قدميها، تفحصها الرجل وخمّن هويتها، وفكر أنها إثيوبية تلبس اللثام، اقترب منها، وسألها بلهجة غريبة عن ماذا تبحث، كان يقلد لهجة الصوماليين المقيمين في البلد. بالطبع عرفت ما الذي يقصده، فردت عليه بجفاء أن أحدهم قادم إليها، وتقدمت للأمام خطوتين دون أن تنتظر رده. ومن باب قريب أطل شاب ضئيل الحجم، يرتدي جاكيتاً شتوياً أكبر قليلاً من مقاسه، ويبدو هو الآخر تائهاً، ولا ينتمي إلى العالم من حوله. ذو وجه لطيف وعينان غائرتان. استغرق الأمر وهلة لتدرك أنه هو، كان متقدماً بابتسامة بلهاء، يبحث هو الآخر عنها، مرّ بصره عليها لكنه تجاهلها وعاد ليبحث من جديد. مر بجانبها واتجه يساراً ليواصل البحث. فكرت سلمى بأن تترك المكان وتمضي للأبد، لكنها لم تستطع منع نفسها من إنهاء الحكاية، فهتفت بصوت مبحوح: علي!

لا شيء يقال، ارتعش علي حين أزاحت سلمى لثامها، وسألته ببرود إن كان متفاجئاً، كانت تتحدث بعدوانية بشكل لم يفهمه هو، أما هي فكانت تقاوم البكاء رغم تصلبها وبرودها، قالت له دون أن تفكر:

- لا تجهد عقلك، نعم أنا "خادمة"(1) ،بالأصح نصف خادمة من جهة أمي، أردت أن أفاجئك بالحقيقة بينما أشاهد ردة فعلك وجهاً لوجه.

تلعثم علي. إننا نؤمن بكل ما هو خيّر وعادل، لكننا لحظة مواجهة ذواتنا لهذه الحقائق، نصبح مجرد بشرعاديين أنانيين وتافهين. حاول علي أن يقول شيئاً جميلاً، أي شيء يمكنه أن يبدّل ذلك الجو المزعج والكابي. قال نكتة غير مضحكة، ثم سألها إن كانت تفضل شاياً أم قهوة، طلبت شاياً مخافة ألا تستطيع التعامل بنفس التصنع مع كوب القهوة. وبينما يتحرك علي بعيداً، تعالت شهقات من الفتيات الجالسات خلف سلمى، استدارت لتتفاجأ بمجموعة من الرجال المسلحين يقتحمون المكان حاملين أسلحتهم ووجناتهم منتفخة بالقات، تجمدت سلمى:

" يستطيع دائماً أن يكون أسوأ مما كان"، أكدت لنفسها باستسلام، ثم بكت متوسلة "يا الله! إن نجوت من هذه الليلة أعدك بألا أتذمر أبداً، وألا أنكر عليك عدلك وحكمتك!". لم تكن تفكربالموت ذاته، بقدر ما كنت خائفة من غضب وخيبة أمل والديها حين يكتشفون كذبها.

في المقهى فتيات لم يكنّ يشبهن بشيء عالم سلمى المنهك الكالح، حيث شجرة الأوردة ترتسم واضحة على كفوف النساء، والوجوه غبراء لامعة بدهون المطابخ والتعب، يرتدين السواد، ويغطين رؤوسهن حتى في المنازل، والرجال يرفلون في ملابسهم المتسخة، ورائحة العرق لا تفارقهم.

انتشر الرجال بسرعةٍ في أرجاء المكان، مفرغين الطاولات من الجالسين عليها، موزعين على الجميع وبالأخص الفتيات تهم الفساد الأخلاقي، متوعدين أن هذه الرذيلة سرعان ما ستنتهي على أيديهم. حاول شاب ذو شعر كثيف أن يجادل فتلقى صفعة على وجهه ثم ضربة بكعب البندقية على بطنه، تقافزت فتياتٌ هنا وهناك، كان علي يحاول الوصول لسلمى حين قطع طريقه أحد المسلحين. ظلت نادية واقفة في مكانها مبتعدة عن الطاولة بمقدار خطوتين. عبر بجانبها مسلحٌ ملقياً عليها نصيحة:

- "اعملي في مكان آخر غير هذا المكان الفاجر، اشتغلي خدامة في منزل أشرف لك، لكن أمثالك لا يعرفون الشرف على أيّ حال".

سحبت ساقيها، ودون أن تنتظر علي أو تلتفت إليه، غادرت سلمى المكان، لم يعرها أحدٌ أي اهتمام، لم تتلّقَ أيّة شتيمة كالفتيات الأخريات. كانت نكرة، غيرَ مرئية بالنسبة لهم، ولا تستحق حتى الوعظ أو التهديد.

______________

1- "الاخدام" كانت تطلق على فئة من اليمنيين من أصحاب البشرة الداكنة. وهم لا ينتمون الى قبائل اليمن، ولا يختلطون في اماكن السكن بسائر المواطنين ولا يتزاوجون معهم. وهناك افتراضات عديدة تتعلق باصولهم. وهم فئة منبوذة وفقيرة، تتولى الاعمال التي يأنف منها الاخرون.

______________

الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة
الحلقة الرابعة
الحلقة الخامسة
الحلقة السادسة
الحلقة السابعة
الحلقة الثامنة
الحلقة التاسعة
الحلقة العاشرة
الحلقة الحادية عشر
الحلقة الثانية عشر

مقالات من اليمن