تأريخ الانهيار الجزائري المستمر مهمة مضنية، تعكس مقولة الفيلسوف السياسي الفلورنسي البارز، فرانشسكو غيتشارديني، الذي عاصر مكيافللي، واستنتج بمرارة أن لا شيء أكثر حزناً من أن يعيش المرء في زمن انحسار مدينته.
في الواقع، يُعتبر الشعب الجزائري، المقموع والمحروم من حرياته الأساسية، شاهداً على سلسلة لا متناهية من الفضائح التي تتعاقب واحدة تلو الأخرى، وعلى عمليات اختلاس وفساد تطال جميع قطاعات الدولة المنحلة.
فضائح وتعديلات حكومية
تتلاحق الصفقات تحت أنظار شعب يائس يعرف الكثير عن تجاوزات من يتولون السلطة. لكن، وعلى عكس ما تحاول أن توحي به بعض الصحف الجزائرية كما الفرنسية، لم "تهز" الفضائح الجزائر، كما لم "يزعزع" الفساد الحكومة، إذ تهيمن على البلاد منذ زمن سلطة عسكرية سياسية تقوم على الوحشية الممنهجة والمنسَقة بين قادة الجيش وقادة البوليس السياسي السري. هؤلاء "اللامرئيون"، من يحركون خيوط اللعبة، قادة الظل ورجال أعمالهم من الجزائريين والأجانب، هم من كان يسميهم الرئيس الراحل بوضياف "صانعو القرار". ففي هذا النظام الذي قام إثر الانقلاب العسكري في 11 كانون الثاني/يناير العام 1992، تجري عملية الاحتكار تحت إشراف قادة "جهاز الاستخبارات والأمن الجزائري"، وهو الاسم الذي يُطلق على "المخابرات" الجزائرية.
وهكذا، لم يكن التعديل الحكومي الأخير سوى استبدال لـ "أباراتشيك" (موظف بيروقراطي في جهاز الحزب، والمصطلح يحمل معنى سلبياً) بأبارتشيك آخرين ليسوا أفضل حالاً ممن سبقهم. جرى تقديم هذا التعديل على أنه مرحلة مهمة من التجديد السياسي، نُظّمت وسط مناخ من المواجهات المفتعلة بين ممثلين من الدرجة الثانية في المعارضة الكرتونية، وبين أدوات تنفيذية عديمة الرحمة، يعملون جميعاً تحت إمرة المخابرات، في دليل إضافي على عقم النظام. أضف إلى ذلك، فالحالة الصحية لرئيس مرهق، وانعدام القدرة على بذل حدّ أدنى من الجهد في سبيل تجديد حقيقي أو رسم خطة مبدئية للنهوض بالبلاد، ينبئ بقرب نهاية المرحلة.
الانفتاح والفساد
الانقلاب الذي كان يُفترض أن يمنع وصول "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" (التي حُلّت بقرار من السلطات الجزائرية في العام 1992 إثر فوزها في الانتخابات) إلى السلطة، سمح لبارونات النظام بأن يفرضوا سياسة الانفتاح الاقتصادي التي احتكمت لصندوق النقد الدولي بعد توقيع اتفاق مساندة معه في العام 1994. وتحت مظلّة التحرير الزائف للاقتصاد الذي غطّت عليه فظائع حرب التسعينيات، جرى تفكيك الكثير من مرافق القطاع العام ونقل أصولها بأثمان بخسة إلى زبائن النظام، في حين استولى صانعو قراره على "ضريبة" العُشر عن كل عقود النفط والغاز وواردات المنتجات الاستهلاكية الشعبية. هذا الانفتاح الذي تمثّل بعمليات نقل الأصول والتوريث السيادي لجميع قطاعات الاستيراد (المواد الغذائية والأدوية ومواد الاستهلاك الواسع..) والذي استفاد منه أتباع النظام، شكَّل بحدّ ذاته فضيحة جوهريّة، أبطالها معروفون إلى حدّ كبير بينما تحتاج آلياتها للكثير من التعمّق والشرح.
في العام 1999، وتزامناً مع تنصيب عبد العزيز بوتفليقة رئيساً للدولة، عبر انتخابات زُوِّرت بشكل فاضح، ارتفعت أسعار النفط بشكل مستقر وغير مسبوق، متجاوزة المئة دولار للبرميل الواحد. وهو ما رفد البلاد بعائدات هائلة لم يتم التصريح عنها. هذا الارتفاع، الذي استمر حتى العام 2014، سمح بهستيريا من الإنفاق العام قارب مجموعه ـ وإن بقيت الأرقام الرسمية موضع شك وحذر بطبيعة الحال - مئات المليارات من الدولارات في تلك الفترة. مراكَمة الأموال، من رشى وعمولات وصفقات بنى تحتية، تصيب بالدوار لما تكتنفه من مبالغة في رفع أسعار السوق بشكل ممنهج، يصل أحياناً إلى مستويات مذهلة، كما حصل مع الطريق السيّار (الأوتوستراد) شرق - غرب والذي وصلت كلفته إلى 17 مليار دولار، من ضمنها 5 مليارات صُرفت كرشى، أو مشروع تنفيذ المستشفى العسكري في وهران الذي لامست تكلفته مستويات خيالية. وهكذا، فإن جميع عمليات إنجاز البنى التحتية تُشكل مدخلاً للارتشاء من تحت الطاولة.
يبدو الحجم المالي للسمسرات في الجزائر خيالياً، لدرجة يتفادى فيها المصرفيون والمحللون إعطاء تقديرات بشأنه. وهذا الفساد لا ينخر فقط في الأنشطة "المدنية"، فالشحنات الكبيرة من الأسلحة المستوردة تفتح المجال أيضاً أمام الممارسات ذاتها، كما تسنى للرأي العام أن يستنتج بعد فضيحة استيراد العشرات من مروحيات "أغوستا ـ وستلاند" الإيطالية - البريطانية.
شراء السلم الأهلي
الصفقات الأكثر دلالة كانت تلك المتعلقة بوزيري النفط السابق والدفاع الحالي، والتي خرجت إلى العلن بفضل تحقيقات أُجريت خارج البلاد. سمح ملف شركة "سابام ـ سوناتراك" الذي تابعته المحاكم الإيطالية، للرأي العام الجزائري بالاطلاع على تورط شكيب خليل ــ وزير النفط آنذاك، والمحتال الدولي ــ في شبكة مكتملة من الفساد وإعادة التدوير. القضاء الإيطالي نفسه فجّر فضيحة الفواتير المُزوَّرة والفساد في صفقة المروحيات الضخمة، مُثبتاً، إن كان ثمة حاجة لذلك، أن ما من قطاع يتردّد في نهب موارد البلد.
بالمقابل، فليس القضاء الجزائري سوى جهاز تابع للمخابرات، وهو مكلف بمشهد تخدير الرأي العام عبر محاكمات مُرتبة مسبقاً، وإنْ غير مُقْنعة، تهدف إلى إيجاد كبش محرقة من صغار الموظفين الذين لا يملكون القرار. لا تنطلي هذه المسرحيات على أحد، فالمسؤولون المباشرون يبقون خارج دائرة الملاحقة، إذ يتمتعون بالحصانة بفضل قواعد أشبه بأعراف يسهر النظام على احترامها، وتقضي بعدم ملاحقة الوزراء أياً كانت التجاوزات التي يرتكبونها. وفق هذه الامتيازات، يقضي وزير النفط أيامه بهدوء في الولايات المتحدة، فيما أُعيد تعيين وزير الأشغال العامة، المسؤول المباشِر عن هدر مليارات الدولارات، في مهمات وزارية جديدة في سياق التعديل الوزاري الذي حصل في 14 أيار/ مايو الماضي. أما بالنسبة للمستفيدين الآخرين فهم بمنأى عن الأنظار.
الحكّام الناشطون في ممارسة مهامهم كمنظمين ميدانيين للاستحواذ على الريع غارقون بالمقابل في عجزهم عن تحفيز أي نوع من الأنشطة. فمئات مليارات الدولارات التي بُذِّرت خلال عشرين عاماً كانت آثارها على التنمية وخلق فرص عمل ضعيفة للغاية. أما الأكثر فداحة، فكان حرمان الجزائريين من الرعاية الصحية وإهمال قطاع التعليم. هذا الهدر المُفرط للموارد أضر بمصلحة البلاد التي يبقى اقتصادها أسير عائدات النفط بشكل خطير، بينما تستورد كل ما تستهلكه.
اتسمت السنوات العشرون الأخيرة بسوء تدبير مخيف وإدارة فاقت بالديماغوجية واللامسؤولية جميع ما سبق من سنوات. فقد أصبح الاقتصاد أكثر تبعية وهشاشة بسبب الإعانات المالية العامة التي خُصصت لشراء السلم الأهلي. أما المستوى الحالي لمتوسط سعر برميل النفط، الذي يقارب الـ60 دولاراً، فلم يعد كافياً لضمان احترام الموازنة العامة وتمويل عمليات الاستيراد. وبالكاد يسمح الاحتياط النقدي، الذي يصل إلى 200 مليار دولار وتتبجح به الفئة الحاكمة، بتغطية تكاليف الاستيراد لسنتين أو ثلاث.
ديماغوجيا "استهلك جزائري"
في أوضاع مماثلة، تتقلص هوامش المناورة، منبئة بعودة التشنجات المالية بدرجات أعلى من تلك التي أدت إلى الانفجار الاجتماعي في الثمانينيات. يُجمع الخبراء بشكل قاطع ــ وتؤيدهم في ذلك دراسة حديثة لمنظمة الدول المصدرة للنفط ــ على أن أسعار النفط ستستقر في العقد القادم على دون المئة دولار للبرميل الواحد. في حين تشير تقديرات منظمة فيينا إلى أن أسعار النفط في العام 2025 ستتراوح بين 40 و76 دولاراً للبرميل الواحد. وبالتالي، فلن يمكن احترام العقد الاجتماعي الحالي في المدى القصير، بينما يبدو النظام عاجزاً عن إيجاد بدائل اقتصادية لا تكون مبنية على الإعانات الاجتماعية والفساد.
في الواقع، فإن الحملة الديماغوجية "استهلك جزائري"، التي أطلقتها الحكومة والتي يتساوى انعدام كفاءتها مع لا أخلاقيتها، تصطدم بواقع الإنتاج الوطني الذي يكاد يكون معدوماً. أما إعادة تنظيم الاقتصاد وفق القاعدة الإنتاجية التي أعلنتها السلطة الحاكمة، فتبقى تمنِّياً جديراً بالثناء من دون أن يكون قابلاً للتنفيذ وسط اختلالات عميقة في ظلّ إدارة هرمة. هذا الاندفاع اللفظي يصطدم مباشرة بواقع الفراغ المؤسساتي والانحلال الاجتماعي وغياب البنى الهيكلية الذي يزداد سوءاً عاماً بعد عام، منذ أكثر من عشرين عاماً.
تمكنت الديكتاتورية إذاً من تعميم حال الفراغ حولها ومن إخصاء الحقل السياسي، فغابت المبادرات الفعالة، كما التمثيل الشرعي وإن بحدّه الأدنى. ولا تعدو المؤسسات الكرتونية والبرلمان العاجز أن تكون إلا رموزاً تعسة. لم يبقَ أمام دوائر السلطة، بغياب أي ركيزة سوى قوى الأمن، إلا الهروب المستمر إلى الأمام، ملتفة بستار دخاني من الإصلاحات الكاذبة والتلاعب الإعلامي.
البروباغندا.. السلاح الأمضى
وفي نهاية المطاف، فإن السلاح الأمضى للديكتاتوريات هو البروباغندا، التي تستند إليها في محاولة لتحوير الأنظار وتحميل مسؤوليات كاذبة. فالفضائح غُبَّ الطلب التي تُبرزها الصحافة هي أداة للتضليل، والبلطجية الذين يُرمَون في السجن ليسوا إلا فتيل يتمّ إحراقه لطمأنة رأيٍ عامٍ متوجس. والموعد الأخير لتلك الإصلاحات الكاذبة كان مع "جهاز الاستخبارات والأمن الجزائري"، إذ تأمل النظام بإقناع شركائه (ومن يحمونه) من الأجانب بنيته الجادة في "تمدين" نمط إدارته للحكم. ليس في المشهد سوى حفنة من القادة الملوثة أيديهم بشكل لافت، وآخرين ممن ضُبطوا بالجرم المشهود في عمليات تلاعب خارجية، وحُكم عليهم بعقوبات وهمية، من دون أي تغيير في أداء النظام. أما بعض المقالات التي خرجت في الصحف ومثلها بعض الكتب التي تناولت شبكات الفساد الفرنسية ـ الجزائرية، فكان هدفها تطويق حجم التجاوزات وإلقاء أعبائها على مستهدفين ثانويين يرمى بهم لإرضاء الغضب الشعبي. لكن هذه الإدارة للمظاهر، والتي شكلت تاريخياً نقطة قوة النظام، بلغت منذ وقت حدها الأقصى. و"جهاز الاستخبارات والأمن الجزائري" الذي يختار جميع اللاعبين في النظام الجزائري، يشكل الآن رحم الديكتاتورية وقلب الفساد. وهذا الجهاز المولج بمكافحة الجريمة أصبح مصدراً لها. ولذا فلم تعد لتصرفاته أي مصداقية.
الأهالي الذين يعتريهم القلق من الغد الخطير وتُزعجهم أخلاقيات الأوساط الحاكمة والممارسات التي تحطّ من قدر السياسة، لا يتقبلون هذه المناورات، لكن الأهالي أنفسهم، الواعين لهشاشة النظام السياسي، يدركون أن هذا المناخ يشجع زعزعة الأمن والاستقرار والتدخلات الإمبريالية. يتابع الرأي العام ما يجري في ليبيا وفي سوريا. وإلى حدّ بعيد، تفسّر هذه المعرفة بظروف تدمير البلدين القريبين، السلبية التي تبدو مسيطرة على الشارع الجزائري. وبطبيعة الحال، فإن النظام يستغل هذه الحساسية. ولكن، وإن أصبح من يصدّقون المناورات الإعلامية والبروباغندا قلة، فالكثيرون في المقابل يتفقون على التعبير عن مخاوفهم من انهيار مفاجئ يطال البلاد بأكملها. تفكك الدولة يهدّد مستقبل الوطن. ووفق هذا المعيار، فإن نشاز الأعمال ليس إلا صدى لديكتاتورية تتحمل مسؤولية انحسار البلاد التي لطالما حملت عالياً راية الحرية والحقوق. ومهما بلغت من أهمية، فإن قضايا الفساد التي يروِّج لها النظام إعلاميا ليست إلا ظرْفية، بينما الفضيحة الحقيقية هي النظام نفسه.
ترجمة: هيفاء زعيتر