يوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وعشية الاحتفالات بالذكرى الستين لانطلاق حرب التحرير الوطنية (في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954)، تظاهر آلاف عدة من أفراد شرطة مكافحة الشغب في شوارع الجزائر العاصمة متجهين إلى القصر الجمهوري للمطالبة بإقالة رئيسهم، الجنرال عبد الغني هامل، الذي يتهمونه بقلة الكفاءة وبالفساد. كما تقدّموا بحوالي 20 مطلباً تتضمن مضاعفة رواتبهم الأساسية، وخفض عدد سنوات خدمتهم، وشمولهم ببرامج الإسكان المدعومة، وإعادة آلاف من زملائهم المصروفين من العمل.. وبالسماح لهم بإنشاء نقابة! وهم طلبوا مقابلة رئيس الوزراء لعلمهم أن رئيس البلاد «خارج الحلبة»..
بدأت أعمال التمرد هذه في غرداية جنوب البلاد، وهي بالطبع غير مسبوقة، كما تتناقض مع قرار منع التظاهر المطبق في العاصمة، وتتجاوز التحريم الذي يطال البوليس لجهة الاعتراض العلني.
وفي الواقع، تنفذ الشرطة إضراباً غير معلن في أجزاء واسعة من البلاد، وتجري تجمّعات بلباس رسمي أو مدني، بينما تختفي الحواجز المعهودة من الشوارع. هُمْ، مَن يمنعون الناس، منذ 11 كانون الثاني/يناير 1992، من التظاهر ويقمعونهم بعنف، يتظاهرون بدورهم، ومَن يلاحقون النقابات المستقلة يطالبون بنقابة لهم! وبالطبع، لم تصادف تحركات البوليس تلك أي تعاطف من الشاترع، ولاسيما أن السلطات تعاملها بتفهم واحترام، وتسجل «طابعها المسؤول»، مما غذّى افتراضات بأنها أحد مظاهر الصراع الجاري في رأس هرم السلطة، وبين جماعاتها المختلفة، حول وراثة الرئيس بوتفليقة والسيطرة على الريع (المتناقص)، إذ يرغب بعضهم بتسريع العملية فيما يحاول آخرون الإبقاء على الوضع معلَقاً لأطول مدة ممكنة. وبغض النظر عن افتراضات التلاعب والتحريك والجهات التي تتحكم بهما، فالوضع مقلق لنظام مهندس بالدرجة الأولى حول أجهزة البوليس المختلفة، التي يعبر تمردها عن الخسارة المتسارعة للقدرة على السيطرة، وعن العجز المذهل للإدارة، وعن التآكل في الأداة التقليدية التي يستخدمها النظام للتحكم بالمجتمع.
هل تمثّل خلافةُ عبد العزيز بوتفليقة مناسبةً لتجديد الطبقة السياسية والممارسات السياسية السائدة، وكلاهما مطبوعٌ بالعنف والفساد؟ التحضير لهذه الخلافة هو اليوم محلُّ صراعات دفينة، فعلى الرغم من أن مرض الرئيس يلائم هوى أهمّ الفاعلين السياسيين، فهو ينذر بضرورة القيام بخيارات حرجة لضمان أن يشغل مكانَه «خيرُ خلف».
سلطة عبد العزيز بوتفليقة نسبية جداً، لكن النظامَ مكتفٍ كل الاكتفاء بهذا الرئيس شبه عديم الوجود، الذي يقوم محيطه بممارسة مهامِّه، وبخاصة أخيه (ومستشاره سعيد بوتفليقة). ويتم التحكيم في ما يخص خلافتَه بين أهم أقطاب النظام، وهو لا يدور دائماً في جو من الهدوء والسكينة، لكنه مطبوع بطابع التماسك، بحكم أن الحفاظَ على هذا النظام هو حجر الزاوية في عملية التفاوض الجارية بغرض التوفيق بين مصالح متباعدة.
ويُعدّ قائد دائرة الاستعلام والأمن، الجنرال الراسخُ في منصبه محمد مدين («توفيق») من جهة، وقائدُ أركان الجيش، الجنرال أحمد قايد صالح من جهة أخرى، أبرزَ وجوه مجموعات المصالح الملتفة حول الأجهزة الأمنية ورجال الأعمال النافذين المنتسبين إليها.
حياة سياسية مصطنعة
لم تُحدِث إقالة عبد العزيز بلخادم من كل مناصبه الرسمية (وهو من أبناء «الجهاز» أو الأقلية البيروقراطية، ولكنه رجل باهت، ما لم يمنع من الدفع به طويلا إلى مقدمة الساحة السياسية ليصبح، حتى يوم عزله، حامل أسرار عبد العزيز بوتفليقة وأحد المرشحين المحتملين لخلافته) أية هزّة في مشاعر الشعب، الذي يبدي لامبالاة تامة بالمشهد المعروض عليه، مشهدِ بيروقراطيين يحاولون ما استطاعوا لعب أدوار معارضين في مسرحية مفضوحة السيناريو. فمثلا، وعلى الرغم مما يرافقها من تطبيل إعلامي، فلا صدى لاجتماعات تنسيقية المعارضة «المجازة»، لأن أهمّ رموزها يفتقد لأدنى درجات الصدقية وأدنى أشكال الصلة بالمجتمع، وهم عاجزون عن تقديم أي مقترح لتنظيم الانتقال السياسي ـ حتى لو كان انتقالاً افتراضياً لا غير. كذلك ترتطم بالجدار نفسه من عدم الاكتراث الشعبي، محاولاتُ السلطة الشاقّةُ لفتح نقاش حول تعديل دستوري آخر.
لا يجهل الجزائريون شيئاً عن نمط اشتغال الدكتاتورية، ويعلمون علمَ اليقين بأن الانتخابات محسومةُ النتائج مسبقاً، وأن مجمل الطبقة السياسية موظفٌ لدى البوليس السياسي. ولأنهم دفعوا الثمن دماً خلال الحرب الأهلية لعقد التسعينيات، فهم يعرفون أتمّ المعرفة مسؤولية كل أعضاء هذه الطبقة السياسية في ما فُرض على البلاد من تضحيات جسام وما تعرّضت له مقدراتُها من استغلال.
وتكافح الفئاتُ الواسعة غير المستفيدة من فتات الريع ـ الذي يوزّعه النظام لاكتساب زبائن وشراء السلم الاجتماعي ـ للبقاء، في سياق يميّزه ارتفاع الأسعار ومصاعب يومية هائلة. وبحسب الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان، فهناك 24 في المئة من الجزائريين دون خط الفقر (يبلغ عدد السكان 39 مليوناً). وعلى الرغم من وجود بحبوحة مالية منقطعة النظير في تاريخ الجزائر، بفضل المحروقات، وصرف مئات مليارات الدولارات من عوائدها، إلا أن النشاط الاقتصادي رخو بشكل خطير، والبلاد ليست في عهدة إدارة حقيقية تسيّرها، ولا يوجد أي تنمية.
ويمثل الاستيراد الترياق السحري في نظر النظام، العاجز عن بثّ الديناميكية أو خلق الطاقة الإبداعية. الجزائر هامدة في بحر الريع: كل بُناها التحتية يُنجزها الأجانب، وتسيير مرافقِها العامة، من المياه إلى المطارات مروراً بمترو العاصمة، في أيدي شركات أجنبية.
ويتخذ الهوس الاستيرادي في بعض الأحيان أشكالاً مضحكة، كقرار استيراد الخبز المجلد من الإمارات العربية المتحدة تحسُّباً لإغلاق المخابز شبه التام أبوابها خلال عطلة عيد الأضحى.
وهكذا نفهم من جهة تضخّم الواردات المنتظم وبلوغها مستوياتٍ فادحةً، ومن جهة أخرى، الانحدار - المنتظِم والمخيف هو الآخر - للإنتاج المحلي. هذا العقم صعب التصديق هو نتيجة «افتراس» حقيقي للموارد العمومية، فالرشاوى وتضخيمُ الفواتير هي أسهل وسائل الاقتطاع من المال العام، بما يسمح بتشكيل ثروات طائلة تخبأ في الخارج.
اقتصاد موازٍ وسلطة موازية
وبمرور الزمن وتواتر عمليات النهب، تتعمق هوّة قصور القانون والدولة والإدارة. ويَرمز إلى هذا الوضع بشكل بالغ الدلالة ما تعرفه عقارات وسط العاصمة الموروثة عن الفترة الاستعمارية من تآكلٍ، فتنهار أجزاء من واجهات العمارات وشرفاتها ما يتسبب بشكل منتظم في إيذاء المارة. أما الأحياء الجديدة، المَشيّدةُ على حوافِّ المراكز الحضرية من دون أي مخطط عمراني أو بنى تحتية، فهي غيتوهات فوضوية حقيقية محفوفة بالمخاطر. وقد سمحت الهبة السماوية المتمثلة بالمحروقات بتكوّن ضواحٍ عملاقة، تتنافس بالبشاعة، وتتدهور حال بنائها، يحكمها قانون عصابات مافياوية تفرض على التجار الإتاوات وترهب السكان، بتواطؤ من السلطات المحلية التي تستعمل لمصلحتها هوامش الإجرام ـ وهي نسخة جزائرية من «البلطجية» المصرية.
وتعتمل في المجتمع، المهمَل إهمالاً كاملاً، المكتوي بنار العنف الممارَس عليه، التياراتُ المتطرفة التي تجوب أرجاء العالم الإسلامي. السلفية في أكثر تنوعاتها تزمّتاً ألقت رحالَها في البلاد، مستغلّة حالة اللانظام الشاملة. وبصورة فاعلة، يقوم أئمةٌ جهلة، في أوساط مواطنين محرومين من مرجعيات ومرتكزات أخلاقية، بترجيع صدى الخطاب المتشدّد الأبوي الذي لا تَنِي تردّدُه القنوات الدعوية ذات المشارب الوهابية والذي لا ألوان فيه سوى الأبيض والأسود. ويحظى هؤلاء الدعاة، ما لم يعارضوا السلطة، بالقبول لدى مختلف الأجهزة البوليسية المكلّفة بتطويق المجتمع ومراقبته.
الجنرالات ورجال الأعمال
الحفاظ على النظام هو ما يشغل بال السلطة، ولا شيء سواه. فكلّ احتجاج، مِن مثل مبادرات حركة البطّالين أو النقابات المستقلة، تُخنَق في المهد أو يُبطَش بها بشراسة. صحيح أن قانون الطوارئ ألغي بعد أن ظلّ سارياً طيلة 20 سنة، لكنه استبدل بحزمة تدابير قانونية وتنظيمية هي على الأقلّ في ما بيَّنه نفسه من قدرة على خنق الحريات، تدابيرٍ تستهدف الإبقاءَ على الوضع القائم أياً كان ثمن ذلك اجتماعياً أو بشرياً. لا تَوافق سياسياً على شيء بين قادة البوليس السياسي وبعض جنرالات الجيش والنخب، اللهم إلا على دوام النظام بواسطة القمع والتحكم في الريع البترولي.. تحكُّم مستبدٍ لا رقيب عليه.
ولا يعرف هذا التنظيم لا الدستور ولا المؤسسات، فهو يقوم بتأبيد سلطة لارسمية لا يحاسبها أحدٌ. وتتولى الأقلية الاوليغاركية الحاكمة، ممن يتموقع أفرادها في مفترق مختلف شبكات الاستيراد (الحبوب، الأدوية، المواد الغذائية، السيارات...)، إدارة ثروات أمراء النظام من القادة الأمنيين والسياسيين، ويلعبون دور واجهة لهم لإنجاز مشترياتهم العقارية أو للتعامل مع البنوك الخاصة في الجنات الضريبية في العالم، كما يسهرون على إعادة توزيع العمولات على الشركاء الأجانب الغامضين ويتزايد أثرُهم في العلاقات غير الرسمية مع القادة الأجانب. أما علاقات الجزائر الديبلوماسية فهي الأقل أهمية في مجال علاقاتها الدولية المبنية على التعاون بين أجهزة الاستخبارات (يعتبر الجنرال توفيق أخلص «المتعاطين» مع الاستخبارات الأميركية والبريطانية)، وعلى شبكات بذل العمولات بمشاركة هيئات السلطة السياسية في دول الغرب.
جمود داخلي واضطرابات إقليمية
ويساهم النمط شبه السري لاشتغال النظام في عدم شفافيته ويديم الغموض في ما يتعلق بخياراته وطبيعة تحالفاته. وقد تسبب تدهور المحيط الأمني المباشر للجزائر ـ من تدمير الدولة الليبية الى اشتعال فتيل الاضطرابات في شريط ساحل الصحراء ـ في ضغوط غربية هائلة عليها لحضّها على التدخل العسكري المباشر في ليبيا. ولكن، وعلى الرغم من نفقات تسليح بلغت مستويات خيالية (13,1 مليار دولار للعام 2015 بزيادة 10 في المئة عن 2014)، يبقى الجيش الجزائري جيش دولة من العالم الثالث ليس بمقدوره لعب دور شرطي إقليمي تابع لحلف الناتو. كما يبدو فخ الدعوات إلى التدخل في ليبيا بيِّناً، لذا توخّى حكاّم البلاد الحذر ـ والواقعية من مميزاتهم الحقيقية ـ ورفضوا الانزلاق في مغامرة غير مضمونة الآثار، خاصة أن الوضع الأمني الداخلي (وما يميّزه من سخط عام منتشر وصعود للمدّ «التكفيري» ومناورات مختلفة) يدعو إلى الحيطة والاحتراس.
ويسمح الإرهاب المستديم، ولكن المسيطر عليه (وهو إرهاب لا تفسير لعدم اندثاره منذ أن تحوّل إلى «بقايا إرهاب») بالإبقاء على منظومة تدابير أمنية ضخمة، لكنها في كثير من الأحيان عديمةُ الفاعلية، كما هو الحال في المنطقة القبائلية بخاصة، حيث يسعى الإرهابيون «الإسلاميون» وقطّاع الطرق إلى الحفاظ على المناخ العام كدراً متعفناً. ويغذّي إعدام متسلق الجبال الفرنسي هيرفي غورديل (بقطع رأسه على طريقة داعش)، من طرف مجموعة لم تكن معروفة حتى تلك الساعة، يغذي النقاش/الارتياب الذي بدأ في عزّ عنف التسعينيات عن الإرهاب ومكوناته وطبيعة أهدافه. فهنا لا أحد ينسى أن الجزائر كانت الميدان الرئيس لإعداد تقنيات الحرب السيكولوجية وحرب العصابات المضادة من طرف ضباط الجيش الاستعماري الفرنسي.
لا ثقة للجزائريين ـ وهم لا يزالون تحت وقع صدمة ما بلغه عنف عقد التسعينيات وبداية عقد الألفين من ذُرى رهيبةِ (200 ألف قتيل و15 ألف مفقود) ـ لا ثقة لهم مطلقاً في الخطابات السياسية أياً كانت طبيعتُها. ولكنْ كثير منهم يؤمنون بأن الإطاحة بالنظام قد تؤدي، كما الحال في أماكن أخرى، إلى اندثار الدولة الجزائرية، وهي دولة في منتهى الهشاشة. والمثلان السوري والليبي حاضران في كل الأذهان، ما يجعل تكلفةَ التغيير تبدو مُثبطةً للهمم. كل ذلك لا يمنع أن هناك تحريفاً لقيم وأهداف ثورة الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1954، فالايديولوجيا الانقلابية تمجّد «الأمة» لتتمكن من احتقار «الشعب». وهذا وصل اليوم إلى منتهاه التاريخي.