لا يدور حديث بين قاطني المخيّمات الفلسطينية في لبنان إلّا ويكون موضوع الهجرة حاضراً فيه. ولا يأتي حديث عن الهجرة إلّا ويكون من المؤكد أنّ الحديث سيصل إلى ذكر الصحة والخوف من الموت على باب المستشفى. وقد حدث بالفعل أن توفي طفل من مخيم نهر البارد في شمال لبنان العام الماضي بعد أن رفض مستشفى خاص تقديم العلاج له ما لم يدفع أهله ألفي دولار أمريكي أجرة سرير.
النظر إلى خيارات العلاج المتاحة للفلسطنيين يشي بحالة مزرية تبدو ذاهبة نحو التدهور في ظل تزعزع وضع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وما يعكسه ذلك من تقليصات متزايدة في تقديماتها الأساسية في جميع المجالات، وفي مجال الصحة خصوصاً.
الأونروا (أو "الوكالة" كما يسميها الفلسطينيون اختصاراً) هي الجهة الأساسية التي يلجأ إليها اللاجئون الفلسطينيون اليوم حال تعرضهم للمرض. توجد عيادات للأونروا في جميع المخيمات الرسمية الإثني عشر في لبنان، وفي معظم تجمّعات اللاجئين الفلسطينيين التي لا تديرها الوكالة رسمياً. تنقسم الخدمات التي تقدّمها هذه العيادات إلى نوعين: الأول هو توفير الرعاية الصحية الأولية وإعطاء الدواء بالمجان عند توفّره، والثاني هو تحويل المرضى ذوي الحالات الأصعب إلى مستشفيات تتعاقد معها الأونروا وتغطّي العلاج فيها بشكل كلي أو جزئي.
بين القانون والواقع
يبدو هذا النظام مقبولاً من الناحية النظرية. لكن الناس يعانون بشكلٍ يومي من سوء التطبيق أو اعتباطيته. فمنذ لحظة الدخول إلى العيادة يكون على المريض التعامل مع أوقات انتظار طويلة للوصول إلى الطبيب الذي يعطيه في النهاية وقتاً لا يتجاوز العشر دقائق، يُجري خلالها الكشف والتشخيص وإعطاء الدواء. هذا الضيق في الوقت يعود إلى كون عدد الأطباء قليل وفترة الدوام محددة بين السابعة والنصف صباحاً والثانية بعد الظهر. ويجري التذرّع بأنّ سبب هذا الخلل هو قلّة الموارد، لكن المصيبة الكبرى تكمن في تعامل عدد كبير من الأطباء - وهم أنفسهم من اللاجئين الفلسطينيين بالضرورة - باستهتار وتراخٍ، محولين عملهم في العيادات إلى مجرّد روتين كونهم في النهاية يستلمون راتبهم الشهري سواء اهتموا بعلاج المرضى أم لم يفعلوا، متكلين على غياب نظام للمحاسبة، وعلى واقع أن استمرارهم في عملهم مضمون لارتباطه بشبكة محسوبيّات تدافع عن نفسها طول الوقت.
وقد دفعت هذه الحالة قبل عدة أشهر شاباً من مخيّم البرج الشمالي في مدينة صور الجنوبية إلى التقاتل مع طبيب معروف باستهتاره، وأدى ذلك الى كسر يد الطبيب! لا يمكن التعميم بالطبع، فهناك بعض الأطباء الذين يراعون تعاملهم مع أبناء بلدهم الذين يعيشون في ظروف سيئة، أو يراعون التزامهم الوظيفي الذي يحصلون من خلاله على راتب شهري مجزٍ لا يناله كثير من الفلسطينيين ولا حتى اللبنانيين في هذا البلد.
ساخنة أم باردة
ثمّة مشكلة أيضاً في تعاقدات الأونروا مع المستشفيات الخارجية، إذ الترتيب مبهم ولا يعرف النّاس ما الذي تغطيه الوكالة من علاجهم الخارجي وما الذي لا تغطيه، كون العقود غير منشورة للعموم. ما هو معروف أن الأونروا تغطّي حالات الطوارئ وإجراء العمليات الجراحية بنسب متفاوتة تصل في أحسن الحالات إلى 80 في المئة. لكن الآلية غير الواضحة تجعل التحكم في هذه النسب بيد أصحاب المستشفيات، وفي معظم الأحيان يدفع المرضى مبالغ كبيرة نسبياً حتى بعد الحصول على مساهمة الأونروا وعلى المساعدة التي تقدمها منظمة التحرير في بعض الحالات. كما أن هناك تصنيفاً للعمليات الجراحية إلى "ساخنة" تغطيها الأونروا فوراً و"باردة" تحتمل الانتظار، وبالتالي يتم تأجيل إجراء العملية. لا توجد ضوابط واضحة للتفريق بين التصنيفين مما يجعل القرار بيد أطباء الأونروا وإدارييها ويفتح المجال للتلاعب.
يتعامل عدد من الأطباء في عيادات "الاونروا" - وهم أنفسهم من اللاجئين الفلسطينيين بالضرورة - باستهتار وتراخٍ، كونهم يستلمون راتبهم الشهري سواء اهتموا بعلاج المرضى أم لم يفعلوا، متكلين على غياب نظام للمحاسبة وعلى واقع أن استمرارهم في عملهم مضمون لارتباطه بشبكة محسوبيات.
توجد في كلّ عيادة للأونروا صيدلية يحصل المرضى منها على الأدوية بالمجان. هذه الصيدليات تخفف الكثير من العبء المادي على المرضى، خاصة لمن لديهم أمراض مزمنة من قبيل الضغط والسكري المنتشرين بكثرة نتيجة الظروف المعيشية الصعبة داخل المخيمات. لكنّ المشكلة تكمن في أن هناك حصة شهرية تحدد سلفاً لكل صيدلية، وإذا نفذ دواء معين يصبح على المريض الحصول عليه من خارج العيادة، وبالتالي دفع ثمنه. هذه الحصص لا تراعي تزايد أعداد المرضى، الناتج عن تزايد عدد السكان الطبيعي والمرتبط جزئياً بنزوح الفلسطينيين من سوريا. فمثلاً قبل عشرين عاماً كان مخيم برج الشمالي يحتاج شهريا إلى 12000 حبّة من دواء "لوبريل" المستخدم لمعالجة ارتفاع ضغط الدم. وقد تضاعف الرقم عشر مرات خلال هذه الفترة دون أن تتضاعف الحصة التي تحصل عليها صيدلية عيادة الأونروا بالمقدار نفسه.
زادت من أزمة الدواء أيضا الحرب القائمة في سوريا التي جعلت الأونروا تتحول لشراء الدواء من الهند وبنغلادش بعد أن كانت تشتريه من سوريا نفسها، ومن الأردن والإمارات اللتين يحتاج إيصال الدواء منهما للمرور عبر سوريا. تأثير هذا مزدوج، فنوعية الدواء الجديد ومدى فعاليته أدنى من الدواء القديم لاختلاف نسب تركّز المواد الفعّالة والشوائب، ومن ناحية أخرى تؤدي الفترة الطويلة التي يقضيها الدواء على الطريق إلى جعل كميات منه تصل إلى تاريخ الإنتهاء سريعاً وبالتالي يتم إتلافها. ولا تتعاقد الأونروا مع صيدليات خارجية لتأمين الدواء إلّا من أجل المساعدة في تأمينه لمرضى السرطان، حيث تتعاقد مع صيدليّة واحدة في كلّ منطقة وتدفع 50 في المئة من ثمن الدواء.
.. الى تراجع
هذه الحالة ليست مثالية بالطبع، لكن سكان المخيمات سوف يتمنون العودة إليها في المستقبل، إذا ما صار تقلص الميزانية العامة للأونروا أمراً واقعاً بفعل استمرار توقف الولايات المتحدة عند دفع التزاماتها للوكالة، الذي غطّته في أول سنة دول أخرى، لكنها على الأرجح لن تفعل كل سنة. طرق الاستجابة لتخفيض الموارد كان موضوع جدل في السنتين الماضيتين، وقد برز خيار دمج المراكز الصحية بحيث لا يعود لكل مخيّم عيادته الخاصة بل يصبح في كل منطقة عيادة مركزية في أحد المخيمات. يعرف الفلسطينيون جيداً هذا الخيار حيث اختبروه مع "منظمة الهلال الأحمر الفلسطيني" التابعة لمنظمة التحرير التي كان لها مستشفى فعال في كل مخيم فلسطيني ثمّ أصبح العمل مركّزاً في مستشفى واحد في كل منطقة (5 مستشفيات على مستوى لبنان)، وأصبحت المستشفيات الأخرى خاوية إلّا من بعض المعدات البسيطة وكوادر صغيرة يحصل بعض المنضويين فيها على رواتب رمزية من منظمة التحرير ويعمل البعض الآخر متطوعاً.
تشير دراسة رسمية إلى أن 95 في المئة من الفلسطينيين في لبنان ليس لديهم أي شكل من أشكال التأمين الصحي. النسبة بين اللبنانيين وفق هذه الدراسة هي 51.7 في المئة، وهذا يقول إن المأساة الصحية مشتركة بين الجميع في لبنان، وإنْ تفاوتت الدرجات.
الدخول إلى أحد "المستشفيات" غير المركزية اليوم يحمل على الانقباض لحالتها الكارثية التي تستحضر رمزياً كيف أصبح اللاجئون مع الوقت خارج الحسبان. في الماضي، كانت جمعية الهلال، التي تأسست بالتوازي مع منظمة التحرير، المُعين الأساسي للاجئين في المجال الصحي إلى جانب الأونروا، بل إن كثيراً من فقراء اللبنانيين كانوا يستفيدون من خدماتها ويجرون عمليات جراحية في مراكزها الصحية. اليوم لا تزال المستشفيات المركزية تقدِّم خدماتها وتجري بعض العمليات الجراحية، لكن الاعتماد عليها تراجع بشكل كبير لصالح الأونروا التي تتعاقد معها وبالتالي تموّلها إلى حد كبير، وهذا هو التعاقد الوحيد للأونروا ذو المعالم الواضحة للجميع حيث أنها تغطي العلاج في مستشفيات الهلال بنسبة مئة في المئة.
"مبادرات"
برزت في مقابل تقلّص دور جمعية الهلال وتردي أوضاع الأونروا عدة مبادرات بعضها بدأ مؤخراً وهو يدخل في إطار المناكفات السياسية. هناك مثلا دعم لجمعيات يُتداول أنّ وراءها عضو حركة فتح المُقال محمد دحلان وهي تتولى مشاريع صحية صغيرة داخل المخيّمات. كما هناك مبادرات تبدو أكثر جدية وجدوى أبرزها عمل "جمعية الشفاء للخدمات الطبية والإنسانية" التي يربطها الناس بحركة "حماس" فيطلقون على مراكزها الصحيّة اسم "مستوصفات حماس"، على الرغم من تأكيد القائمين عليها أنّها مستقلّة وذاتية التمويل وإن كانت مقربة من الحركة.
الدخول اليوم إلى أحد "المستشفيات" غير المركزية للهلال الاحمر الفلسطيني يحمل على الانقباض لحالتها الكارثية التي تستحضر رمزياً كيف أصبح اللاجئون مع الوقت خارج الحسبان.
بدأت هذه الجمعية عملها في المخيمات الفلسطينية منذ عام 1995 وقد أصبح لها اليوم 7 مراكز صحيّة في لبنان تقدّم الخدمات بمقابل مادي مخفّض حيث تتعاقد مع أطباء معروفين في مناطقهم، بغض النظر عن جنسيتهم، يقدّمون الاستشارات الطبية المتخصصة في أيّام محدّدة مقابل مبلغ محدد هو 10 دولارات (بينما يترواح مقدار ما يدفعه المرضى من غير الفلسطينيين لهؤلاء الأطباء بين 30 و50 دولاراً في مدينة صور مثلاً). وهي تقدّم خدمات أخرى كالتصوير بالأشعة وإجراء تخطيطات القلب.
لا تزال هذه المراكز جديدة نسبياً وإن كان الإقبال عليها الى تزايد. لكنها لا يمكن أن تكون الخيار الأساسي للعلاج كونها لا تؤمن التغطية الصحية وهي الشيء الأساسي الذي يحتاجه الفلسطينيون في ظل أوضاعهم الاقتصاديّة الصعبة التي لا تتيح لهم تأمين تكاليف العلاج، وعدم استفادتهم من الخدمات الصحية التي يغطّيها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي اللبناني حتى في حال عملهم بشكلٍ رسمي ومساهمتهم في تمويل هذا الصندوق. وتشير دراسة من إعداد منظمة العمل الدولية ولجنة عمل اللاجئين الفلسطينين في لبنان إلى أن 95 في المئة من الفلسطينيين في لبنان ليس لديهم أي شكل من أشكال التأمين الصحي. النسبة بين اللبنانيين وفق هذه الدراسة هي 51.7 في المئة وهذا يقول إنّ المأساة الصحيّة مشتركة بين الجميع في لبنان وإن بدرجات متفاوتة!