تضخم النفوذ القبلي: العراق كله "مطلوب عشائريا"

في السنوات الأخيرة استمرت النزاعات والأحكام العشائرية، التي صارت فاقعة، بتوسعها مستغلة الموقف الحكومي "الخجول" منها. فما جاءت الحملات الحكومية المتوالية لنزع سلاح العشائر بغير أعداد ضئيلة منه
2019-05-30

ليث ناطق

إعلامي من العراق


شارك
جمال عبد الرحيم - البحرين

كنتُ في الثانية عشر من عمري حين واجهتُ لأول مرة الصعوبة البالغة في الإجابة على سؤال "ألستَ مرتبطاً بديوان؟". لا أتذكر تحديداً ما الذي فعلته. كنت في المدرسة حينها، وصاحب السؤال كان أحد زملائي في الصف.

من الشائع في العراق طرح سؤال "الارتباط بالدواوين" كاستفهام عن مدى علاقة الشخص بعشيرته وشيوخها. وعادة ما يُطرح لنفي الفائدة من ذلك، الفائدة الأخلاقية التي تقدمها دواوين الشيوخ لجلّاسها، والتي حملتها حكايات الأجداد عن مُجالسة الشيوخ والأعيان. لكنها – الحكايات - لم تنذر بالمصطلحات العشائرية السائدة هذا اليوم، من قبيل "حضِّر عمامك" التي تفيض بالتهديد ولا يُنتظر بعدها غير "طلابة"، والطلابة هذه تعني تحديدا "النزاع".

"مطلوب عشائريا" تتجدد

ليس عهد النزاعات العشائرية حديثاً. فالعشيرة في النهاية تشترك مع الأخريات بـ "العصبية القبلية" بوصفها الوسيلة التي تُلزم الجميع بحماية كيان العشيرة والعمل على نموه لقاء تأمين حاجات أفرادها المتمثلة بالأمان خصوصاً، والتي دائما ما تلحُّ في فترات الفوضى. وخير مثال على ذلك ما حصل بعد العام 2003، حين غاب القانون وصارت السلطة للأقوى، فبرزت الحاجة الى الحماية وكانت العشيرة هي المأوى.

ما زالت القبائل تحكم بتهجير شخص من أرضه إذا ارتكب فعلا "معيباً". وزحفت هذه العادات في العراق من الريف والبادية الى المدينة، فصار الشخص المُقصِّر يخرج من بيته إذا حكمت العشيرتان المتخاصمتان بذلك ورضيتا به.

وليست جذور عادة الاحتكام لشيخ القبيلة لحل النزاعات حديثةَ العهد هي الاخرى، بل تعود على الارجح لبداية تحوّل الانسان الى العيش في جماعات. ولم تتطور الأحكام المعتمدة عشائريا إلّا على نطاق محدود، ربما حين دخلت الأديان على خط تنظيم حياة الأفراد فانصاعت الاعراف العشائرية جزئياً للتماشي معها، أو أنها أعادت صياغة أحكامها على مقاس أدوات العصر. لكن الأكثر باقٍ، والأكثر ضرراً يتوسع! فما زالت القبائل تحكم بتهجير شخص من أرضه اذا ما ارتكب فعلا "معيباً". وزحفت هذه العادات في العراق من الريف والبادية الى المدينة، فصار الشخص المقصِّر يخرج من بيته اذا حكمت العشيرتان المتخاصمتان بذلك ورضيتا به. ولا للمقصر وعشيرته سبيل غير الرضوخ والاستماع لمطالب العشيرة الأخرى، المعتدى على أحد أفرادها، خصوصاً اذا علمنا أن للعشائر خزين من السلاح ومساحة من الفوضى تستطيع ملئها برصاصِه، ويمتلكون ما يكفي من الأصباغ لوسم جدار البيت وبابه بعبارة "مطلوب عشائرياً" الشهيرة والتي صارت أليفة على عين المواطن العراقي لامتدادها الى أبعد من أبواب المنازل وأسوارها، حتى استقرت على أبواب الدوائر الحكومية والمستشفيات. وفي أقصى كوميديا لها، كتبتْ –" مطلوب عشائرياً" - على أحد القبور لتمتد بذلك سلطة القبلية وسطوتها الى الموت.

النكتة المميتة

لم تعد أخبار الاقتتال العشائري لافتة في العراق، لكن قصص مسبباتها تستمر بالانتقال بين ألسنة الناس على شكل نكات.. وللآن تطير قصة النزاع الذي حصل بسبب حمامة وسقط فيه ضحايا من طرفي المشكلة. وقد تكون حمامة أو بقرة أو أي شيء.

في السنوات الأخيرة استمرت النزاعات والأحكام العشائرية، التي صارت فاقعة، بتوسعها مستغلة الموقف الحكومي "الخجول" منها. فما جاءت الحملات الحكومية المتوالية لنزع سلاح العشائر بغير أعداد ضئيلة منه، وليس آخرها الحملة التي نفذتها قيادة عمليات محافظة البصرة (532 كم جنوب بغداد) صبيحة إحدى الحروب العشائرية هناك والتي لم تأت إلا بعدد محدود جدا من الأسلحة الخفيفة مقارنة بما استعمل في تلك الحرب.

للعشائر خزين من السلاح ومساحة من الفوضي تستطيع ملئها برصاصِه، ويمتلكون ما يكفي من الأصباغ لوسم جدار البيت وبابه بعبارة "مطلوب عشائريا" الممتدة الى أبعد من المنازل، الى ابواب الدوائر الحكومية والمستشفيات... بل كُتبتْ على أحد القبور لتطال سطوة القبلية الموت.

وقد تستدعي مفردة "حرب" استغراب البعض، لكنها الوصف الأقرب للاقتتال العشائري نظراً لتطوره وصولاً الى استعمال أسلحة رشاشة ومدافع هاون. حتى أن الطائرات المسيرة دخلت الخدمة وصارت تستعمل في الحروب العشائرية لرصد تحركات العشيرة العدوة.

قانون الأقوى

مؤخراً، أصدر مجلس القضاء الأعلى بياناً اعتبر فيه ما يعرف ب"الدكَات العشائرية" صورة من صور التهديد الإرهابي وفق المادة 2 من قانون مكافحة الإرهاب. و"الدكَة" (بتفخيم الكاف) ضرب بالسلاح على ملكية ومنزل أحدهم، لتأخره بتلبية مطالب العشيرة الأخرى والرضوخ لها.

سبق ذلك إعلان وزارة العدل العراقية انطلاق مشروع "التحكيم العشائري" والعمل فيه، بهدف "ترسيخ أُسس القانون وإشاعة ثقافة التسامح في حل النزاعات، وليس أن يكون بديلاً للقانون" حسب ما جاء في البيان. في الحقيقة ما هذا النفي الذي تذرعت به الوزارة ("ليس بديلا للقانون") إلّا إثبات لسيادة القانون العشائري على قانون الدولة.. وهو تأكيد بالنفي! هذا غير الكوميديا المحضة التي جسدها حادث مقاضاة نائبة في البرلمان لزميلها البرلماني "عشائرياً" لفض نزاع شخصي، متجاهلين القانون والنظام القضائي برمته.

عشائرية السياسة

يعود وجود العشائر في العراق الى ما قبل قيام الدولة. وكانت الخطوة الأكثر أهمية هي اشتراك العشائر مع رجال دين بما عرف لاحقاً بـ"ثورة العشرين"، حين رفع شعار "إخراج الكافر الأجنبي من البلاد" بوجه القوات البريطانية التي دخلتها عام 1917. ويحسب للعشائر أنها أسهمت بتعميق الحس الوطني في ذلك.

لكن التاريخ ينقل لنا أيضاً وقوف شيوخ عشائر مع الأقوى، وهذا ما أكدته تقارير دائرة الإستخبارات البريطانية في العراق عن بعض المشايخ، من خلال قبول الرشوات والجري وراء الإغراءات. وكان للبريطانيين أساليب بإغرائهم من أجل ضمان عدم تمردهم، ومن هذه الإغراءات إدخال شيوخ العشائر إلى ميدان السياسة. وقد ظهر ذلك في تقرير ال"مس بيل" الذي رفعته الى حكومة بلادها عام 1923 من خلال وصفهم بـ "أصلح طبقة لحكم العراق"، فأُشرك رؤساء العشائر في المجالس النيابية المتعاقبة بنسبة تزيد على الثلث، مع ضمان تمرير ما يبتغيه البريطانيون لقاء تمليكهم أراضٍ شاسعة، كانت بالأصل مشاعات للقبيلة وجرى تسجيلها باسمهم.

تستعمل في الحروب العشائرية أسلحة رشاشة ومدافع هاون، وحتى الطائرات المسيّرة دخلت الخدمة وصارت تستعمل لرصد تحركات العشيرة العدوة.

تعرض النفوذ العشائري خلال الأنظمة المتعاقبة على العراق لضربات متفرقة، تشترك جميعها بكونها خجولة، ربما كان آخرها ما أقدمت عليه الحكومة في السبعينات الفائتة من إجراءات تحجّم العادات العشائرية ونفوذها. لكنها عادت بعد ذلك في فترة الحرب مع إيران إلى فسح المجال للعشائر واسترضاء شيوخها. وإذا يشير هذا الفعل إلى شيء، فهو إلى حاجة النظام في أوقات التوتر والأزمة إلى احتواء المجتمع، فتعود السلطة الى قادته المجتمعيين. وهذا ما حصل بشكل أكثر وضوحاً بعد الغزو الأمريكي للعراق وقيام ما أُسمي "العراق الجديد". فبالإضافة لرجال الدين، هناك شيوخ وزعماء عشائر باتوا جزءً من العملية السياسية.

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

"اللا حياة" العراقية.. التجهيل الذي يحوّل كورونا إلى خرافة مميتة

ليث ناطق 2021-06-10

لماذا يغيب الوعي الصحي عن المجتمع العراقي؟ الإجابةً تستدعي مجموعةً أخرى من الأسئلة: لماذا يتراجع مستوى الرعاية الصحية، وتتردى الصحة العمومية؟ أين المستشفيات والمراكز الصحية الصالحة؟ كيف يسكن العراقي ويشرب،...