فعلتها ابو ظبي: أدرجت هذه الدولة عاصمتها بين عواصم العالم، عبر زيارة البابا فرنسيس الثاني لها لثلاثة ايام.. فغدت "مدينة عالمية"، على الرغم من انها معدودة السكان، صحراوية الارض الغنية بالنفط والغاز واحلام القادمين اليها لجني الثروات عبر تلبية الاحتياجات والطموحات، والافادة من الثروة لتعظيم حجم الدور السياسي في المنطقة، بداية، ثم في العالم..
أدرجت هذ الدولة ذاتها على خريطة العالم، وهي التي اصطنعها النفط، فاقتطع لها الارض من سلطنة عُمان، وافسح لها مساحة على شاطئ الخليج العربي مقابل ايران، عبر "التنازل" بغير اعلان رسمي عن الجزر الثلاث مقابل شواطئها لجهة الساحل الايراني.
وهكذا فلقد جاءها البابا فرنسيس زائراً، لتكون رابع عاصمة عربية يزورها بعد القاهرة، وعمان والقدس.. وقِّدر له أن يشهد "العرب" في لباسهم التقليدي، القفطان والكوفية والعقال والعباءة، وأن يقيم القداس في باحة كنيسة فخمة لأبناء الجاليات المسيحية المقيمين في هذه الدولة الغنية، بحضور ومشاركة شيخ الازهر. وهو سبق أن التقاه مرتين، اولاهما في الفاتيكان، والثانية في القاهرة التي تجمع ما بين احفاد الفراعنة وأحفاد عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص والخلفاء الفاطميين الآتين من المغرب والمماليك الذين أُتي بهم من كل مكان ثم استقووا فأخذوا السلطة واعادوا القدس إلى أهلها بعدما كان قد احتلها "الصليبيون" الذين جاءوا مستعمرين.
لا ضرورة للسياسة والتصريحات والخطب المجلجلة، في مثل هذه المناسبة، ليترك للروح مساحة ما بين محمد بن زايد ومحمد بن راشد، وشيخ الازهر، المثقف الرصين الذي يرى نفسه في مستوى بابا المسحيين، لا يقل عنه قدراً، بل لعله يزيده معرفة بأحوال العالم وهو ابن هذه المنطقة التي كانت عاصمة الكون، عبر مراحل مجيدة في تاريخها.
لقد طبعت البساطة هذه الزيارة الاستثنائية في توقيتها وموقعها ودلالاتها في اللحظة السياسية الفاصلة... خصوصاً وان دولة الإمارات متورطة في حرب باغية وبلا افق ضد شعب اليمن، وتسعى إلى شراء مناطق نفوذ في ليبيا وبعض انحاء افريقيا.. مُحوِّرة في صورة مؤسس هذه الدولة الشيخ زايد بن سلطان، الذي عاش حياته بسيطاً، وكرس جزءاً من الاموال التي هبطت عليه من حيث لم يتوقع لمساعدة اخوانه في الاقطار العربية الفقيرة.. كما لمساعدة الذين جاءوا لبناء بلاده، لتكون أجمل دولة عمراناً.. لولا أن نزعة السيطرة على بلاد الاخرين قد اساءت إلى صورة مؤسسها، وجعلتها تلتحق بالسعودية كدولة تستغل الثروة التي لم تبذل جهداً في انتاجها للهيمنة على بلاد الآخرين، من فقراء الارض الذين صنعوا بعض امجاد الماضي العربي في الكون.
لقد قصد المسيحيون العاملون في اقطار الخليج، عرباً ومن جنسيات أخرى، مدينة ابوظبي ليشاركوا في القداس الذي ترأسه قداسة البابا، في احدى الكنائس التي سمحت سلطات دولة الامارات ببنائها، على الرغم أنه ليس بين مواطنيها الاصليين مسيحي واحد، تدليلاً على تسامح الدين الاسلامي واحترام المسلمين للاديان السماوية الأخرى.
هي شهادة إضافية بالتسامح واحترام المؤمنين.. وهي قد تساعد في مسح بعض نزعات التشاوف والتباهي بالثروة التي قدمتها الطبيعة، بغير منّة. وعسى أن يكون من بركات هذه الزيارة أن تعيد دولة الامارات النظر في بعض سياساتها التوسعية، التي تأكل من رصيدها ولا تنفع في زيادة هذا الرصيد الذي اسس له الشيخ زايد بطيبته وعروبته الصافية وتواضعه الجم.
في أي حال، فان زيارة قداسة البابا إلى دولة الامارات تؤكد، مرة أخرى، بُعد العرب عن التعصب والتفريق بين أبناء الاديان الاخرى.. مع ملاحظة أن دولة الامارات تلجأ احيانا إلى تدابير بوليسية غير مفهومة ضد بعض الرعايا العرب الذين جاءوا اليها يعطونها عرق الجباه ويعملون بدأب في بناء مؤسساتها الاعلامية والاقتصادية وسائر رموز النهضة التي مكنتها الثروة من أن تبنيها. وإذا كان لا بد من ملاحظة في هذا المجال، فهي أن تنبذ دولة الامارات التعصب المذهبي، وان تبتعد عن المغامرات السياسية (كما في اليمن) وان تعود إلى سياسة الشيخ زايد فتكون عاصمة التوافق والتوفيق بين الاقطار العربية المختلفة، خصوصاً وإنها ليست بحاجة إلى أحد بل كانت دائماً بلاد الخير.
الامارات ليست "الإمبراطورية السعودية"، ولا هي "امبراطورية قطر". إنها، بقوة الامر الواقع، دولة طبيعية، مواردها تفوق حاجاتها بكثير، وهي مؤهلة وقادرة بالتالي على "مساعدة" اخوتها الفقراء، والعودة إلى "نهج زايد".. ولا شك أن مبادرتها إلى إعادة سفارتها إلى دمشق، تعكس الإفاقة من نوبة الغرور التي ضربتها ذات يوم بالمرض السعودي فرأت انها مؤهلة لان تكون دولة عظمى بمليون واحد من "المواطنين" إلى جانب أربعة ملايين ساكن من أربع جهات الارض، فيهم اقلية من العرب واكثرية من الشعوب الاخرى، الاسيوية اساساً، قبل الحديث عن "الجنس الممتاز" من الاميركيين والاوروبيين.
لتكن زيارة قداسة البابا مناسبة لإعادة التفكير بالدور والمسؤولية والتخفف من اثقال الثروة والنزعة الامبراطورية المدمرة. ولعل اول قرار مطلوب من هذه الدولة الغنية أن تُخرج قواتها من اليمن، وترسل بديلاً منها ما تحتاجه هذه الدولة العريقة وصاحبة الدور المجيد في التاريخ العربي لكي تعود إلى ما يليق بمكانتها.