اليسار في مصر: حدوده وآفاقه في عالم 2011

قراءة سريعة لتاريخ الحركة اليسارية المصرية في مختلف مراحلها، وللتغييرات التي طرأت عليها. وتبرز خلال محاولة فهم مآلاتها سمة مركزية رافقت كل تلك التغييرات، مخترقة الشروط المحيطة بها: غياب طرح مسألة السلطة بمعناها العميق، وغياب مفهوم الصراع الاجتماعي من أفق معركة التغيير. وقد بدا اليسار قوة قادرة على إحداث بعض التصحيحات المعيارية ولكنها غير قادرة على إحداث إزاحات اجتماعية.
2019-01-04

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
| en
غرافيتي من مصر

تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

شكَّل موقع اليسار ودوره في الثورة المصرية وعالم ما بعد "يناير 2011" سؤالاً كبيراً في الساحة الفكرية والسياسية والاجتماعية في مصر. سؤال ينبع من البحث الميكانيكي عن "يسار" في ظل "ثورة". والمقصود باليسار هو وجود قوى سياسية واجتماعية - أو ظهورها - لتناضل من أجل تحقيق مكاسب، صُلبها هو تمكين القطاعات المعرَّضة للظلم والاستغلال (من قبل منظومة السلطة القائمة) من حقوقها السياسية والاجتماعية. وهو تمكين يقوم على إعادة توزيع الثروة بشكل عادل وجعل هذه القطاعات تدير الموارد وتقوم بتمثيل نفسها. إذن فاليسار هو عملية نضالية قائمة على تصور وقراءة لطبيعة الصراع الاجتماعي.

تاريخ اليسار في البلاد: التأسيس وإعادة التأسيس

لمصر تاريخ عريق مع التنظيمات اليسارية والماركسية، كحضور فكري وسياسي منذ مطلع القرن العشرين، بل كحضور اجتماعي طيلة الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من ذلك القرن. ومع ذلك فلفهم اليسار الآن يجب الانطلاق من هزيمته في محطات تاريخية مختلفة، ومن ثم إعادة تشكله مع تجدد الصراع مرة أخرى.

هُزم اليسار في واحدة من أهم محطات الصراع الاجتماعي والسياسي في مصر في مطلع الخمسينات والستينات على يد دولة الضباط الأحرار 1952. أجهزت الدولة عليه أمنياً كما ابتلعت خطاب اليسار من خلال بعض التغييرات والتدابير التي أُسبغ عليها طابع إشتراكي. اتسمت أغلب الأحزاب اليسارية في ذلك الوقت بالولاء والتبعية للاتحاد السوفيتي الذي قرر دعم النظم البرجوازية الوطنية ذات الطابع العسكري. ولكن الصراع سرعان ما تجدد بعد الهزيمة المروعة على يد إسرائيل في 1967، وظهر اليسار من جديد من خلال انتفاضة الطلبة في 1968 رداً على الهزيمة، حين بدأت الديمقراطية تصبح سؤالاً ملحاً باعتبار الدكتاتورية أحد أكبر عوامل الهزيمة.

ازدهر حضور اليسار في الجامعات المصرية وبعض المواقع العمالية مذّاك وحتى "انتفاضة الخبز" في 1977. وشهد عقد السبعينات من القرن الفائت تزاوج القوى اليسارية المنظمة ومثقفوها مع الحركة العمالية والطلابية. فقد نجح اليسار في التجذر داخل القطاعات التي يستهدفها إيديولوجياً ونضالياً. أدرك النظام الحاكم وأجهزته الأمنية خطورة ذلك منذ بداية شرارة التحركات في 1975، حينما انتفض عمال "المحلة الكبرى" وخرجوا في تظاهرة هائلة. وقد قوبل هذا التحرك بعنف شديد حيث قتلت قوات السلطة سبعة عمال وجرحت الآلاف منهم.

كان لـ"حزب العمال الشيوعي المصري" دوراً مهماً في سبعينات القرن الماضي، ولكنه تلقى ضربات أمنية موجعة عقب انتفاضة الخبز في 1977، نجحت في القضاء عليه. وتلقى هذا الجيل من اليساريين هزيمة بانتهاء تلك الانتفاضة من دون نتائج إيجابية، كما أنه تعرَّض لضربة كبيرة على يد تحالف قام بين السلطة بقيادة السادات والاسلاميين (الإخوان المسلمين تحديداً). وقد نجح الإسلاميون بتشكيلاتهم المختلفة في إلحاق هزيمة أخرى باليسار داخل الجامعة، بينما تكفلت الأجهزة الأمنية بملاحقتهم وقمعهم داخل المواقع العمالية المختلفة.

ازداد انحسار اليسار في مصر في الثمانينات وفي التسعينات من القرن الماضي - على الرغم من وقوع عدة إضرابات واعتصامات عمالية في ذلك الوقت، أبرزها اعتصام مصانع الحديد والصلب بحلوان. حدث الانحسار بسبب عدة عوامل منها توسع الايديولوجيا الاسلامية في ذلك الوقت، واشتداد "الحرب على الارهاب"، وانهيار الاتحاد السوفياتي.. وإن كان هذا السبب الأخير هو الأقل وزناً، حيث كانت هزيمة اليسار بشكل كبير متحققة في مصر لأسباب تنظيمية داخلية، وتحديداً لابتلاع "حزب التجمع" تمثيل اليسار واختياره الوقوف بجانب السلطة وعدم خوضه لأي صراع ضدها خوفاً من "التطرف الاسلامي". وقد تخلى "حزب التجمع" عن معارك كبيرة ومهمة، مثل انتفاضة مدينة "إدكو" بمحافظة البحيرة في 1992، على الرغم من وجود تنظيم قوي للحزب على مستوى تلك المحافظة، وكوادر له داخل المدينة. وهذا التخلي أربك بعض كوادره داخل المدينة نفسها الذين لعبوا أدواراً مختلفة فيها. وحتى بعدما هدأت الانتفاضة بالقمع البوليسي وبالتفاوض الاجتماعي، تخلى "التجمع" عن قيادة أي محاولة لتتويج النضال الجماهيري ببعض المكاسب السياسية.

وفي مقابل تكلس "التجمع"، خاضت بعض عناصر اليسار معركة قانونية طويلة ضد السلطة، وكانت المحاكم ساحة كبيرة لنضالها. وهكذا بزغت أسماء كبيرة مثل أحمد سيف الدين ونبيل الهلالي. ونجح الاثنان على وجه التحديد في بناء مجموعة شابة من المحامين اليساريين تحولوا إلى نماذج ملهمة لأجيال لاحقة.

إلا أن تحولاً كبيراً حدث مع مطلع الالفية الجديدة سيعطي مساحة جديدة لليسار لإعادة تشكيل نفسه مرة أخرى. إذ بدأت مجموعات يسارية بتشكيل العديد من المنظمات الحقوقية والتنموية (تعمل على التنمية المحلية واعداد القيادات الشبابية للعمل المدني وتنمية الموارد والمشاريع المحلية، وقامت بالتنسيق والعمل مع الأمم المتحدة و"برامج دعم التنمية"). وهذه التشكيلات اليسارية هي التي وُجدت لحظة اندلاع الثورة في 2011.

ومثلما كان مطلع الألفية الثالثة هو ذروة التحول النيوليبرالي في مصر، فهو كان أيضاً بداية تدشين عقد كامل من الصراع المفتوح مع منظومة السلطة ونظام مبارك السياسي.

وقد شهد هذا العقد في بدايته عدة تحولات مهمة أتاحت لليسار فرصاً جديدة للانخراط في الصراع السياسي والاجتماعي:

1- توسع دور المنظمات الحقوقية في مواجهة توحش الداخلية تحديداً. فبعد انتصار الداخلية في حربها على الإرهاب، استكمل الحكم البوليسي قوته وهيمنت المؤسسة بالكامل على إيقاع الحياة في مصر وصار نمط ممارستها للسلطة شديد القسوة. وكان هذا أحد أهم الخطوط لبداية معركة حقوقية كبيرة خاضتها مؤسسات شكل اليسار عمودها الفقري مثل "النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب" و"هشام مبارك للقانون". وقد نجحت هذه المؤسسات في حشد وتعبئة مواردها من أفراد وتمويل، وصار النضال القانوني عبر المحامين اليساريين أساسياً. كما ضمت عدداً من الباحثين من ذوي الميول والاتجاهات اليسارية.

2- انتقل النضال العمالي ضد التحول النيوليبرالي إلى ساحة المحاكم هو الآخر، وتحديداً إلى ما يعرف في مصر بالقضاء الإدراي. وفي هذه المساحة، لعبت مؤسسات حقوقية أخرى مثل "المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" دورا مهماً.

3- اتاح هذا التحول النيوليبرالي مساحة كبيرة للصحف الجديدة المستقلة نسبياً عن هيمنة الدولة، وهكذا وجد الصحافيون اليساريون فرصة للتفاعل في عالم الصحافة المصرية.

4- وأخيراً، انفجر الصراع السياسي ضد مبارك في 2005 مع ظهور حركة "كفاية" التي تشكلت من بعض اليساريين والليبراليين (بالمعنى الانجلوسكسوني للكلمة) والناصريين.

بالمقابل، تلقى تنظيم "الاشتراكيين الثوريين" ضربة أمنية كبيرة في مطلع الألفية تحولت إلى قضية في ساحات القضاء المصري. ولكنها كانت الميلاد الحقيقي لهذا التنظيم الذي تشكل في التسعينات من القرن الماضي على يد مجموعة من طلاب وأستاذة الجامعة الامريكية بالقاهرة. وهو حاول بجدية، وفي ظل ظروف أمنية معقدة، الانخراط في النضالات الاجتماعية المختلفة التي شهدت ذروتها في أعوام 2006، 2007، و2008. كما حاول تضفير المطالب السياسية مع الاحتجاجات الاجتماعية، وأنتج أدوات تابعة له مثل "مجلة الاشتراكي" التي واكبت بلا كلل كافة أشكال الاحتجاج في مصر، وكذلك أسس موقعاً على الانترنت، وانخرط بعض كوادره بشكل فعال في القضايا العمالية كصحافيين ومناضلين سياسيين ومحامين.

كما قام صراع داخل عالم اليسار عنوانه محاولات بناء يسار جديد ضد تكلس القيادات القديمة، وتحديداً ضد حزب التجمع وسمته الستالينية. وأبرزَ هذا الصراع ملامح التيارات الجديدة وجعلها أكثر حيوية في التفاعل مع انفجار الصراع السياسي والاجتماعي في مصر مرة أخرى.

ومع انطلاق حركة "كفاية" في 2005، ظهر الى جوارها العديد من الحركات الشبابية مثل "شباب من أجل التغيير" في العام نفسه، و"حركة تضامن" في 2006 والعديد من التنسيقيات الشبابية مثل "المكتب التنسيقي للقوى السياسية" بالإسكندرية في 2009 أو "التحركات الشبابية" في 2010 بعد مقتل أحد شباب الإسكندرية بوحشية على يد الشرطة أمام منزله بحي يغلب عليه طابع الطبقة الوسطى، والذي عُرفت قضيته بشكل كبير باسمه، "خالد سعيد". وقد انخرط أغلب الكوادر الشبابية اليسارية بقوة في حركات صغيرة وفعالة ولكنها قصيرة العمر وذات طابع متجاوز للأيديولوجيا لصالح العمل على قضايا بعينها. فالعديد من شباب اليسار إهتم بصراعات محدودة وإن كانت مهمة، مثل إزاحة السكان لصالح مشاريع رأسمالية (قضية "طوسون" بالإسكندرية على سبيل المثال في عام 2008) أو قضايا البيئة (مثل التلوّث الذي تتسبب به مصانع الأسمنت في عام 2006). ولكنهم بحكم خوضهم هذه المعارك بدون تنظيمات قوية خلفهم أو وجود رؤية سياسية أوسع، فقد تقلص حضورهم السياسي والأيديولوجي، وغلب الطابع الجبهوي القائم على مركزية قضية ما دون التوسع في تناولها سياسياً واجتماعياً. إلا أن هذه الحركات نجحت بتشبيك المؤسسات الحقوقية والتنموية أحياناً، والتشكيلات السياسية المختلفة فيما بينها، وكانت صاحبة قدرات عالية في تحدي ومناورة السلطة وتوسيع رقعة النضال بعيداً عن المعارك الديمقراطية الكبيرة التي خاضتها حركة "كفاية"، أو المعارك القانونية المحضة التي جعلت جانباً كبيراً من النشاط والفاعلية منحصراً في المحاماة، وسحبت جانباً كبيراً من النضال إلى أرضية بعيدة عن التصورات الإسلامية الكلية لصالح اشتباك جاد مع الواقع المادي للحياة في مصر. وإتسمت الكوادر اليسارية هنا بالتنقل بين التنظيمات المختلفة، وبتعدد الأدوار التي تقوم بها.

اتسم اليسار الجديد بانقطاع التراكم التاريخي بينه وبين الأجيال السابقة بسبب معركته الكبيرة مع اليسار الستاليني، وبغلبة الطابع الحقوقي والانساني على القراءة المادية والتاريخية للواقع الاجتماعي في مصر، وببذل طاقته في الحصول على تمويلات للمشاريع الحقوقية، وبالسيولة وغياب القدرات التنظيمية القوية.

كان فهم الواقع المصري ينحصر في أن مبارك والتوريث هما أكبر المشكلات السياسية، والفساد مجرد عرَض لعدم الشفافية وغياب محاسبة المسؤولين وعدم انتقاء القيادات بناء على الكفاءة، وافتقاد سيادة القانون، وأنّ انتهاكات الداخلية وقمعها السياسي يمكن أن يتوقفا بتغيير القيادات، وأن أغلب مشكلات الحكم في مصر يمكن ان تُحل من خلال بناء ديمقراطية تمثيلية وضمان نزاهة الانتخابات.

انضوت قطاعات كبيرة من اليساريين تحت لواء الرؤية الحقوقية، لتحسين شروط الفعل السياسي في ظل القمع والتضييق الأمني. أمدَّ ذلك الصراع السياسي بدماء جديدة، أي أنه وسّع الدائرة. ولكنه أثار الشك بقدرة اليسار على بلورة مشروع سياسي واجتماعي يتصدى مثلاً لمسألة الثروة وإدارتها وإعادة توزيعها بدل الحديث الدائم عن "الفساد". فبماذا يتميز اليسار هنا عن القوى الليبرالية والوطنية؟

تَلخَّص تشخيص كيانات مثل "كفاية" و"الجمعية الوطنية للتغيير" لمشكلة مصر في مسألتي الفساد والاستبداد، دون تفحص بنية التشكيلة الاجتماعية الحاكمة وانتماءاتها ومصالحها وآليات تحكّمها، والقيام بتفحص مماثل للقوى الاجتماعية المنوط بها التغيير. وانعكس هذا في ارتباك مواقف هذه القوى من الأجهزة والمؤسسات الحاكمة كالجيش والمخابرات العامة والقضاء.

2005 - 2011: يساريون بلا يسار

طُبعت الحالة السياسية منذ 2005، مع بدء الحراك ضد مبارك وإبنه وضد بطش الداخلية، بعدة تناقضات كان أهمها غياب الطابع الفكري والتحليلي العام لصالح قضايا وطنية عامة. وتجلى هذا في حركة "كفاية" ثم في "الجمعية الوطنية للتغيير". وكان تشخيص هذه الكيانات أن المشكلة التي تعاني منها مصر تتلخص في مسألتي الفساد والاستبداد، دون تفحص بنية التشكيلة الاجتماعية الحاكمة وانتماءاتها ومصالحها وآليات تحكّمها، والقيام بتفحص مماثل للقوى الاجتماعية المنوط بها التغيير. وغلب الطابع الضمائري والحقوقي على حركة التغيير وعلى مقاومة مبارك. وانعكس هذا في ارتباك مواقف هذه القوى من الأجهزة والمؤسسات الحاكمة مثل الموقف من الجيش، المخابرات العامة، والقضاء.

وهذه النقطة الأخيرة كانت شديدة الخطورة لأنها انتجت استراتيجية للعمل السياسي تحمل في طياتها طريقة لإدارة الصراع الاجتماعي والسياسي من داخل المنظومة القائمة.

حكمت هذه القراءة أفق النضال السياسي حتى 2013. ورسمت أرضية الإجماع لما عُرف بـ"القوى الوطنية"، وحدود وشروط الفعل السياسي والثوري لاحقاً. وهي اتسمت بثلاثة ملامح: الطابع الضمائري وليس الصراعي أولاً، والطابع المعياري والحقوقي ثانياً، وثالثاً، والأهم، غياب مسألة السلطة بمعناها العميق، وغياب مفهوم الصراع الاجتماعي من أفق معركة التغيير.

ولم يكن هذا الموقف الغالب يحتاج لجهد تنظيري كبير بهدف فهم واقع الاجتماع المصري وطبيعة الدولة فيه. فطبقاً لهذه الرؤية، كانت الدولة المصرية سلطوية الطابع بحكم هيمنة نظام مبارك عليها، والعلاقات الاجتماعية الاقتصادية لا تحتاج إلاّ إلى أن تنعتق سياسياً من هيمنة مبارك، والقضاء منظومة عادلة تحتاج فقط لتفعيل استقلاليتها وتحسين بعض القوانين، والقضاة شرفاء وحماة لقيم الدستور والقانون وسيادته في المجتمع، والجيش مؤسسة وطنية عريقة تحمي الشعب ويجب حمايتها من صراعات السياسة. أما شعب مصر، فهو شعب أصيل لا ينقصه سوى التحرر من كابوس الدكتاتورية الجاسمة على صدره.

وكان الجيش هو الآخر يبعث برسائل من خلال قنوات مختلفة داخل معسكر التغيير، توحي بعدم رضاه عن الأوضاع وعن التوريث.

اتسقت هذه الرؤية السياسية مع التوجه الليبرالي والإسلامي الوسطي. التناقض كان في موقف اليسار من عملية التغيير. فهذه الرؤية لا تنظر بجدية لنمط الانتاج وضرورة تغييره، وتغيير شروط إنتاج الحياة في مصر، وترى القمع فقط على مستواه السياسي أو كمجرد انتهاك للقانون، لكنها لا ترى البعد الاجتماعي للقمع والقهر اللذين تمارسهما السلطة. والأهم أنه يغيب عنها أي تصور جاد عن الثروة وإدارتها وإعادة توزيعها (هناك فقط حديث دائم عن الفساد)، وهو ما يُفترض أن يكون سؤال اليسار بامتياز.

هنا تأتي معضلة اليسار: فبماذا يتميز عن القوى الليبرالية والوطنية؟ قطاعات كبيرة من اليساريين انضوت تحت لواء هذه الرؤية بحكم العمل الجبهوي والتنسيقي ومحاولة مد جسور مع قوى أخرى لتحسين شروط الفعل السياسي والقدرة عليه في ظل القمع والتضييق الأمني. دفع ذلك الانضواء بدماء جديدة إلى الحراك والصراع السياسيين في مصر أي أنه وسع الدائرة، ولكنه ألقى بظلال ثقيلة من الشك على قدرة اليسار على بلورة مشروع سياسي واجتماعي بعيداً عن الاحتجاج والدفاع عن بعض الحقوق.

عجز اليسار عن بناء تصوره لمشروع يؤدي الى تغيير شامل وواسع. وموه هذا المنحى الحقوقي عملية الهروب من مسألة السلطة وضرورة بلورة تقييم لها بعيداً عن المستوى المعياري والمؤشرات الدولية، وتعيين طبيعتها وبالتالي تعريف ما تمارسه، أي أين تقف من إدارة المجتمع.

تموضع اليسار إذاً كبوصلة تصحيح أخلاقية وحقوقية تحتج وتنتفض ضد الانتهاكات وللمطالبة بالحقوق، لكنها ليست قوى فاعلة في التغيير نحو تصور ما عن الحكم والإدارة. كما إنها ليست قادرة على الاستحواذ على بعض مستويات السلطة داخل الاجتماع مثل الإسلاميين (تحديداً التواجد الاجتماعي عبر العمل الخدمي ومؤسساته، وتشكل الاسلاميين كسلطة دينية إجتماعية، وانخراطهم في الشبكات الاجتماعية المختلفة التي تدير الثروة والموارد)، ولا قادرة على تقديم تصور لنمط مغاير وممكن من الحياة ومن العلاقات الاجتماعية. ومن ثمَّ فهي قوى قادرة على إحداث بعض التصحيحات المعيارية ولكنها غير قادرة على إحداث إزاحات اجتماعية.

وَضع هذا العجز اليسار، أو أظهره كقوة ليبرالية تتعاطى مع الدولة البوليسية من خلال نهج قائم على تعديل التشريعات والقوانين، لا على تغيير الشروط السياسية وأنماط الإنتاج وعلاقاتها التي تخلق الظروف الموضوعية لاستمرار توحش الدولة البوليسية والزبائنية في مصر. ولم يكن هناك أصلاً محاولة لتقديم تحليل أو تصور لنمط إنتاج مختلف، ليس منقولاً عن الأفكار النظرية أو عن تجارب أخرى، بل مطابقاً للممكن في الحالة المصرية / الإقليمية. فاليسار كان يطرح على نفسه إما أفقاً غير ممكن بحكم شروط الواقع، ويتصور أوهاماً عن قيادته للجماهير الشعبية، وأنه بمجرد التحرر من القبضة القمعية ستلتف تلك الجماهير الغفيرة حوله لأنه الأكثر صدقاً في التعبير عنها وعن روحها.. أو أن بعض أفراده طرحوا على أنفسهم الدور الحقوقي وانحصروا في نطاقه. وقد كان التخلي عن المهمة البرنامجية وعن تخيل التغيير هما ما يفسران الانزلاق إلى الحال الموصوف أعلاه، ومن ثم عدم القدرة على الصراع لاقتلاع جذور الدولة وشبكة علاقاتها الاجتماعية حينما انفجرت الثورة.

ولكن هذا التفسير أيضاً يُحمِّل اليسار أكثر من إمكاناته. فهناك شروط تاريخية ومادية لموقعه لم تكن تسمح بتحقيق هذه المهمة. فليس كل حضور للعناصر الموضوعية للصراع الاجتماعي والسياسي يعني بالضرورة أن اليسار سيكون القوة الأقرب لتلقف الصراع وتحديد مساره. فاليسار يتبلور في سياق عملية نضالية طويلة تخوضها قوى اجتماعية قادرة على تمثيل مصالحها برؤية مغايرة للقوى – والمصالح - الأخرى، وتسعى لتغيير علاقات الانتاج وطبيعة توزيع الثروة والموارد، وخوض هذه الحرب بأدوات تسمح لها بالانتصار أو بتحقيق مكاسب ذات معنى.

ما كان يدور حول مصنع غزل المحلة إبان انتفاضة عماله في 2008 يبدو الآن أهم مما كان يحدث داخل المصنع نفسه. فالعمال لم يكونوا الفاعلين الرئيسيين في ما أصبح سريعاً حرب شوارع في المدينة. ولو أُدْرِك ذلك بعيداً عن الاسقاطات الايديولوجية المسبقة، لتوفر فهم جديد لهوية الفاعلين داخل المجتمع.

وقع ما كان يئس منه الجميع: اندلعت الثورة! وبمقدار الأمل كان ألم الارتباك. فاليسار لم يستطع قيادة الجماهير الغفيرة، كما أنه لم ينجح في اختراق الصفوف لتنظميها وتجذير حركتها لكي تصل إلى تحقيق أهدافها.

اعتبر "الاشتراكيون الثوريون" أن هناك تفاوتاً طبقياً كبيراً داخل جماعة الإخوان المسلمين، وأنها تمثل جهات شعبية واسعة وقابلة للتثوير بحكم تناقض مصالح القيادات مع القطاع العريض منها. وهو موقف، على الرغم من صحته، إلا أنه طغى بشكل كامل وحجب رؤية البعد الرجعي والطائفي والنيوليبرالي للجماعة.. كما حال دون إدراك قدرة هذا التنظيم على التنميط وعلى فرض الهيمنة بداخله، وتشكيل ايديولوجيا متجانسة.

اليسار والثورة: اندلاع الحلم وارتباك تداعياته

كانت الشبكات المتشكلة قادرة على التصادم مع السلطة وتدمير بعض مكوناتها، ولكن هدفها الاساسي كان إحداث تحول في نمط السلطة فقط، ولم يكن الاستيلاء على جهاز الدولة في مخيلتها. أما ما تبقى من يسار منظم فكان للتو ينشئ تنظيماته الحزبية الجديدة مثل "التحالف الشعبي" و"الديمقراطي الاجتماعي" الذي لم يكن اليسار المكوِّن الوحيد فيه، ولاحقاً "حزب العيش والحرية" الذي ما زال يصارع من أجل تأسيس نفسه كحزب رسمي، ويعاني من تلقيه لضربات أمنية عدة.

ثلاثة تيارات

انقسم موقف اليسار قبل الثورة وبعدها (أي بما يشملها، وهي حدث مفصلي) من السلطة والدولة إلى ثلاثة اتجاهات:

- الأول يرى ضرورة الوصول لبعض مواقع السلطة، سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي، من خلال منافسة قوى النظام الحاكم والتيار الإسلامي، وبالأخص بواسطة الانتخابات. مثّل هذا القطاع بعض قوى اليسار الديمقراطي التي انخرطت في "الحزب الديمقراطي الاجتماعي" (وهم الأكثر ميلاً لهذا التوجه والأكثر فاعلية في الانتخابات المختلفة التي شهدتها مصر بعد الثورة). قوام التشكيلة الاجتماعية لهذا الحزب تُظهِر غلبة في انتماء اعضائه الى الطبقة الوسطى العليا، وإنخراط بعض الروابط العائلية من الصعيد فيه، ومجموعات من المثقفين، وحضور بارز للمسيحيين. واليساريين الذين انتموا إليه كانوا يرون ضرورة خلق تيار سياسي واسع متحالف مع قوى ليبرالية ومدنية مختلفة في شكل حزبي.

- الاتجاه الاخر كان يرى أن اللحظة التاريخية غير مواتية لليسار بشكل عام، وأن أي انخراط جاد لتفكيك السلطة أو القيام بأي محاولة لإزاحة القوى المهيمنة اجتماعياً والمساس بعلاقتها سيتسبب باستحواذ الإسلاميين عليها. وقد اتخذ طريق المهادنة مع الدولة والسلطة القائمة، وحاول لعب دور الناصح. ومثّل هذا التوجه "حزب التجمع" وتحديداً ما عرف باليسار الثقافي التنويري.

- وكان الاتجاه الثالث - وهو الأقرب الى حالة الثورة - هو رفْض السلطة والمنافسة عليها أو حتى الانخراط فيها بشكل مباشر بأي شكل من الأشكال. مثَّل هذا الاتجاه (المعادي للسلطة ولكنه غير الراغب في الصراع عليها على أي مستوى) قطاعات من شباب اليسار اتسم بروح تطهرية عالية، وكذلك تنظيم الاشتراكيين الثوريين. وهذا الأخير رأى وجاهة في دعم مرشحين آخرين في الانتخابات، مثل محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين في جولة الإعادة في مواجهة الفريق أحمد شفيق في انتخابات 2012. وظهرت خطابات متفرقة من قطاعات محسوبة على اليسار بعد الثورة تدين أي انخراط في العملية السياسية الانتخابية، وظهرت أصوات مثل "مقاطعون" و"صندوق الشهيد بدلاً من صندوق الانتخابات"..

الثورة هى حلم يساري بامتياز. والتبشير بثورة تطيح بأركان النظام الحاكم وتغيِّر من شكل الحياة هي إحدى سمات حركة اليسار في أي مجتمع. وبالفعل وقع ما كان يئس منه الجميع: اندلعت الثورة! وبمقدار الأمل كان ألم الارتباك. فاليسار لم يستطع قيادة الجماهير الغفيرة، كما أنه لم ينجح في اختراق الصفوف لتنظميها وتجذير حركتها لكي تصل إلى تحقيق أهدافها. وبقيت خريطة اليسار كما كانت قبل الثورة: التجمع قلق من أي حراك جماهيري، الاشتراكيون الثوريون متحمسون للانخراط في عملية التغيير، اليسار الديمقراطي يحاول تأمل موقعه وفهم ما يحدث حوله وما هى الخطوة القادمة، وتيار "التجديد الاشتراكي" يسعى إلى خلق مظلة جديدة لليسار.. وكوادر مختلفة، أغلبها منبثق عن اليسار الديمقراطي أو متمرد على "التجمع"، إنقسمت في اتجاهين: الأول يحاول ايجاد حزب سياسي واسع ("الحزب الديمقراطي الاجتماعي")، والثاني يحاول بناء حزب يساري واضح التوجه الايديولوجي (وهو "حزب التحالف الشعبي").

التحالف الشعبي

جرت محاولات لبناء حزب يساري واضح المعالم وصافي الانتماء الفكري. الأولى تتمثل في بناء "التحالف الشعبي" في 2011. وقد لعب دوراً بارزاً في تأسيسه كلاً من اليسار الديمقراطي وتيار التجديد الاشتراكي (الذي ولد عام 2009 من رحم انشقاق داخل الاشتراكيين الثوريين حول أولوية التحول الديمقراطي ودعم البرادعي، بينما كان يرى الآخرون، ممن استمروا داخل التنظيم، أن الأولوية هي لدعم الإضرابات العمالية). ونجح هذا التنظيم في بداياته في استقطاب عدد من الكوادر اليسارية، القديمة والشابة على السواء. ولكنه عانى من أمرين: عدم قدرته على بلورة شكل تنظيمي ديمقراطي على المستوى الداخلي، وعدم قدرته على حسم صراعاته الداخلية بشكل يسمح له بأن يظل متماسكاً وفعالاً. ويظهر أنه كان، على المستوى الفكري، متمسكاً بحرفية الايديولوجيا في محتواها السياسي والبرامجي، بينما ليس في مصر طبقة عاملة مكتملة أو ذات ذات طابع طليعي، لأن شروط التحديث لم تُستكمل لكي يتواكب الواقع مع طرح التحالف. وعلى مستوى التنسيق السياسي والانفتاح على التيارات الأخرى، كان للتحالف تجربة مهمة في بناء ما عرف بقائمة "الثورة مستمرة" في انتخابات 2011، حيث تحالف مع "التيار المصري" صاحب الميول "ما بعد الاسلاموية" (أي أنه يدعو للتصالح مع الهوية الإسلامية دون تزمت في ضرورة تطبيق الشريعة كاملة، وإعطاء بعد حضاري نابع من التاريخ الإسلامي للفعل السياسي والاجتماعي)، و"مصر الحرية" صاحب الميول الليبرالية والذي تأسس في 2012. وكان للتحالف خط واضح في رفض هيمنة المؤسسة العسكرية على الحياة السياسية. وبحلول نهايات 2013 إنفجر حزب التحالف الشعبي وشهد استقالات جماعية. وكان السبب المعلن لها هو المسار المهادن للدولة الذي انتهجه الحزب بعد "30 يونيو 2013" (المظاهرات التي طالبت باقالة مرسي وأعقبها في 3 تموز/ يوليو إعلان وزير الدفاع وقتها، الفريق أول عبد الفتاح السيسي، انهاء حكم محمد مرسي، وتسليم السلطة لرئيس المحكمة الدستورية العليا) والإطاحة بالإخوان. ولكن الحزب كان يعاني من انقسامات داخلية قبل لحظة 30 يونيو، والمسألة كانت مسألة وقت حتى ينفجر الصراع داخله بين العناصر الشابة وكوادر قديمة من التجمع، كما ظهرت قضايا تخص المرأة والتحرش داخل الحزب نفسه. انفجر هذا الحزب إذاً وتشكَّل من خلال بعض العناصر المنشقة "حزب العيش والحرية" (ما زال تحت التأسيس).

الاشتراكيون الثوريون

انخرط "الاشتراكيون الثوريون" في الثورة بشكل واسع، وساعدهم في ذلك أدواتهم التي أسسوا لها قبل الثورة، وتاريخ من التفاعل والنضال مع القضايا السياسية والاجتماعية منذ 2000. ولكنهم ارتبكوا أمام الثورة على عدة مستويات:

1- كيف ينتقل التنظيم من السرية إلى العلنية؟

2- بناء أفق سياسي واضح لمستوى الراديكالية الثورية القوية التي انتهجها التنظيم، فالتنظيم في لحظة انتصار الثورة، يوم الإطاحة بمبارك، أعلن بوضوح أن النظام لم يسقط، ثم استكمل معاركه ضد المجلس العسكري، ويُنسب له خروج أول هتاف بـ"سقوط العسكر".

3- انتهج التنظيم استراتيجية واضحة للتوسع ولاستقطاب أعضاء جدد. لكن هذا التوسع سبّب ارتباكاً ايديولوجياً واضحاً. فقد عجزت بنية التنظيم عن التعامل مع هذا الزخم من الوافدين الجدد، ولم تكن قادرة على إعداد الكوادر الجديدة بشكل مطابق لهوية التنظيم، مما تسبب بوجود كثير من الفاعلين ممن يمكن القول عنهم أنهم نشطون ولكنهم ليسوا يساريين فعلياً على مستوى الاعداد الفكري وامتلاك تصور تقدمي عن المرأة مثلاً ودورها داخل الاجتماع، والمساواة بين الجنسين، واحترام الهويات الجنسية المختلفة.. بل كان بينهم أصحاب أفكار وممارسات رجعية بشكل صريح، ولكن التنظيم كان جاذباً لهم لأنه كان في نظرهم الأكثر راديكالية في مواجهة المجلس العسكري والداخلية. كما فقد التنظيم قدرته على نظم خيط سياسي وأفق للصراع الاجتماعي القائم ومحاولة جادة لقراءة الواقع المصري وتحولاته، ما جعله أميل لمفردات إنشائية أو خطابية رنانة. ولكنه في مقابل هذه المثالب توسع في الجامعة وانتشر إعلامياً بشكل كبير.

4- أفقدت الثورة التنظيم ميزته الرئيسية كتنظيم يساري انخرط أعضاؤه في الصراعات العمالية والقطاعية وبنى فيها تراكماً معقولاً، بالأخص بعد 2005، مثل إضرابات المحلة وإضراب مصلحة الضرائب العقارية. كما فقد قدرته على ربط القضايا الاجتماعية بالمسألة السياسية وإنجرف بدءاً من 2011، مثله مثل بقية التيارات، في الصراع السياسي على حساب الصراع الاجتماعي.

وعلى الرغم من تماسك بوصلة التنظيم وإتساقه في أغلب مواقفه السياسية والشعاراتية، إلا أن اشتداد الصراع السياسي والاجتماعي في مصر، وبالأخص مع مرحلة الدخول في "الحرب على الإرهاب"، وصراع السلطة مع الإخوان بعد "30 يونيو 2013"، أفقد التنظيم قدرته على صياغة أي محتوى سياسي، أي قراءة الواقع، وبناء موقع صراعي له في الأحداث بعيداً عن المواقف الاخلاقية. ولكنه ظل متمسكاً بتقليد مهم وهو إصدار مواقف سياسية عبر بياناته على موقعه، تغطي عدة قضايا مثل رفض التنظيم لعودة العنف الشرطي أو قمع الاحتجاجات العمالية..

وتظل حتى اليوم إحدى أكبر مشاكل الاشتراكيين الثوريين هى نفسها مشكلته ما قبل الثورة: عدم قدرته على قراءة الواقع في مصر بشكل مركّب. فلديه تصور إيديولوجي شديد القيمية والمبدئية، هو بمعنى ما منافٍ للسياسة كعملية صراع ممتدة. ولعل أبرز مثالين على ذلك هي أولاً قراءته لجماعة الإخوان المسلمين المستندة الى تسجيل تفاوتها على مستوى بنيتها الطبقية، وتمثيلها لجهات شعبية واسعة وقابلة للتثوير والتغيير بحكم تناقض مصالح القيادات مع القطاع العريض من التنظيم. وهو موقف غلب بشكل كامل رؤية البعد الرجعي والطائفي والنيوليبرالي لجماعة الاخوان. فعلى الرغم من صحة القراءة لجانب من بنية الإخوان المتعلق بالتناقض الطبقي، وأحياناً وفي مستوى معين، التناقض الفكري، حيث تختلط بعض ملامح المكوِّن الأزهري مع الصوفي مع السلفي.. إلا أنه غاب عن هذه القراءة إدراك قدرة تنظيم الاخوان على التنميط وعلى فرض الهيمنة بداخله وتشكيل الأيديولوجيا ذات التجانس إلى حد بعيد. وغاب عنهم درس ماركسي مهم وهو أن التناقض وحده لا يكفي لفهم البنى الاجتماعية المختلفة.

المثال الثاني وربما الأهم، وإن كان الأقل تداولاً في نقد "الاشتراكيين الثوريين"، هو ما يخص قراءتهم لأحداث مدينة "المحلة" الصناعية في 2008 (إضراب عمال الغزل، وهو واحد من أكبر الإضرابات العمالية). فالتنظيم أصر على أن عمال المحلة هم وقود الأحداث والانتفاضة. إلا ان التدقيق الميداني والأنثربولوجي في الأحداث وتحولها إلى حرب مدن وشوارع بين المنتفضين والسلطة يشير إلى أن العمال لم يكونوا الفاعلين الرئيسيين في هذه الحرب، بل كانوا الأقل إشتباكاً مع توسع الانتفاضة في المدينة. هذا الأمر لو أُدرك بصورة فعلية ومن دون إسقاط "أيديولوجي مسبق"، كان يمكنه توفير فهم جديد لهوية الفاعلين داخل المجتمع، أي تعيين الفئات التي لديها الرغبة في تصعيد الاشتباك مع السلطة والأقل استعداداً للتراجع عن الصدام، وهي على الارجح فئات لا تقوم بذلك لدواع مزاجية أو حتى فكرية، بل لأنها تُعبّر عما آلت إليه حياتها في ظل نمط الانتاج الطرَفي والتبعي والطفيلي القائم في البلاد. فالذي كان يدور حول المصنع يبدو الآن - في محاولة فهم العلاقات الاجتماعية وتشابكها مع السلطة - أهم مما كان يحدث داخل المصنع نفسه. كان قد تشكّل تحول كبير داخل الاجتماع المصري وعلاقة الدولة به. ولكن الإصرار على قراءة الواقع بعدسة أيديولوجية محضة حجب عنا هذا الفهم.

الحزب الديمقراطي الاجتماعي

يبقى في خريطة اليسار بعد الثورة جناح مهم من اليسار الديمقراطي الذي قرر الانخراط في تأسيس "الحزب الديمقراطي الاجتماعي". هذه المجموعة هى الأكثر اهتماماً، ضمن القطاعات اليسارية المختلفة، بمسألة الصراع السياسي والتنازع على السلطة، ولو بالسعي لتسجيل مكاسب مرحلية ليست كبيرة بالضرورة. ولذلك فهي تولي الانتخابات وإدارة التكتلات وضم الاصوات والتحالفات أولوية قصوى. رأت هذه الكتلة من اليساريين ثلاثة أمور:

1- أن مشكلة مصر الأساسية هى في غياب السياسة نفسها عن العمل العام، وغياب القدرة على التنظيم بسبب تراث طويل نابذ للعمل الجماهيري، ورافض لفكرة التنظيم السياسي والاجتماعي، تمّ تأسيسه مع دولة يوليو، والملاحقة الأمنية الدائمة وتجريف الأرض من الكوادر السياسية، وتعزيز الجهل، والاستثمار فيه لخلق بنية اجتماعية جهول ومنصاعة للحكم. وأن الأولوية القصوى في مصر بعد الثورة هى تعزيز التنظيم والدعوة باستماتة للحق في التنظيم على جميع المستويات، وبالأخص في العمل السياسي. وأنه لا سياسة حقيقية وجادة بدون وجود أحزاب تخوض انتخابات.

2- لا سبيل لهزيمة الاسلاميين من جهة، ولتغيير النخب القديمة التابعة للدولة من جهة ثانية، ولتقليص دور الجيش ثالثاً، إلا ببناء مجال سياسي قوي وحر قادر على الضغط على الدولة ومناطحة الاسلاميين ومنافستهم على كافة مواقع السلطة. وأن التدرج في العمل السياسي الدؤوب والجاد قادر على خلخلة الأوضاع الاجتماعية وتغييرها.

3- كسر الحالة الطائفية في مصر لن يتسنى إلا بدفع الكتل المسيحية الى الإنخراط في العملية السياسية. عملت هذه المجموعة على التوغل داخل الكتل المسيحية، مستغلة لصالحها منذ البداية قلقها من الاسلام السياسي. ورأت في هذا فرصة لدفع هذه الكتل لصراع اجتماعي وسياسي أوسع، خارج جدران الكنيسة.

4- ربما كان من أهم الانخراطات اليسارية المختلفة الطابع بعد الثورة هو العمل على الدخول الى عمق الشبكات الاجتماعية الحاكمة في الريف والدلتا، وإختراق هذه الترتيبات الاجتماعية ومناطحة الاسلاميين و/ أو الدولة. فالعمل السياسي بعرفهم يتطلب مساومات ومواءمات اجتماعية اذا كانت هناك نية جدية في محاولة إحداث إنزياحات اجتماعية وتحولات في شكل الصراع ومضمونه. ومن هنا جاء اهتمام هذه النخب اليسارية بمحاولة خلق تحالفات واستقطابات جديدة للتنافس في الانتخابات المختلفة.

رأت هذه الكتلة اليسارية ضرورة عدم الإنخراط في تأسيس حزب يساري محض، وأن الأولوية التاريخية هى لحزب واسع يشمل خليطاً من اليسار والليبراليين، يكون همه الأول تأسيس وإرساء مجال سياسي ذو تقاليد ديمقراطية راسخة، بمحتوى يساري، يعيد طرح أفكار تقدمية من خلال الخطاب والتشريعات وتحديث جهاز الدولة، مع مراعاة البعد الاجتماعي للطبقات الكادحة في هذا التحول التاريخي، وأن مصر بلد متخلف يعاني من الفقر في إنتاج الثروة ومن نهبها ومن عدم العدالة في توزيعها.

ما حاوله الحزب هو استهداف ما يعرف بالقواعد الشعبية للدولة والسلطة في مصر. ولكن ثمة سؤال نقدي هنا: هل هذا الأمر هو ممارسة للسياسة من داخل المنظومة وبأدواتها؟ هل هذه المحاولة، في التحليل الأخير، ليست سوى إعادة انتاج للبرجوازية الريفية الحاكمة والمشكِّلة للسلطة في الاجتماع المصري؟ وهل كانت هذه الاستراتيجية مواكِبة للحالة الثورية القائمة التي كانت تسعى للاطاحة بالنظام؟

يرى باحثون وبعض كوادر الحزب أن مقاربة الحزب لا تعيد إنتاج النظام ولا البنية الاجتماعية، بل هي محاولة لتطوير هذه البنية الاجتماعية وتحسين شروط الفعل السياسي فيها، كما أنها محاولة جادة لتغيير طبيعة العلاقات الاجتماعية عبر إحداث إنزياحات طويلة الأمد، وتحديث العملية السياسية نفسها وجعلها قائمة على صراع برنامجي، وتغيير إدارة الموارد وجعلها تجري بشكل حديث وليس من خلال ولاءات وشبكات زبائنية قائمة على العصبوية والقبلية أو متمترسة حول أبعاد طائفية. وتنطلق رؤية هذا اليسار من التأكيد على قراءة الواقع المصري، حيث هناك صعوبة في صياغة فعل يساري خالص في ظل بنية اجتماعية متخلفة من زاوية أنماط الانتاج وعلاقاته. كما يرى أن هناك مشكلة كبيرة في مصر تحتاج للعمل على فهمها وإيجاد سبل واستراتيجيات للتعامل معها وهي السيولة الطبقية وغياب شكل واضح للصراع الطبقي. وأخيراً أنه في ظل هذا الواقع البائس، فدور اليسار محدود بأفق وشروط بنيوية معقدة تجعل أكبر وأهم إسهام له هي محاولة الدفع لبناء مجال سياسي جديد عبر انخراط قوى سياسية واجتماعية فيه، ومحاولة احراز نجاحات مادية على أرض الصراع السياسي والاجتماعي مع العلم انها لن تكون جامحة بالضرورة.

مضت الثورة بدون فهم يساري للقوى المحرِّكة لها. فحتى الآن لم يقدِّم اليسار المصري قراءة سوسيولوجية جادة لطبيعة التشكيلة الاجتماعية التي قامت بالثورة وتبايناتها المختلفة.

هناك إجمالاً "استشراقين"، واحد يرى المجتمع المصري جاهلاً ومكبَّلاً بسبب هيمنة القوى الدينية عليه، والثاني يرى أن الإسلاميين هم التعبير الصادق عن المجتمع المصري والقوى القادرة على التغيير وتحدي الهيمنة الغربية..

دولة وإسلاميون وشعب: إلى من ينظر اليسار

الموقف من وجود حركات إسلامية، أي تنطلق من الدين لتعمل في المجال السياسي، يبدو أهم مرتكزات الخلاف بين تلك التيارات اليسارية. وهو السبب في اختلاف مواقعهم من الحراك والثورة. فحزب "التجمع" حسم أمره منذ ثمانينات القرن الفائت: مع الدولة ضد الإسلاميين دائماً. أما "الإشتراكيون الثوريون"، فكان شعارهم: مع الإسلاميين أحياناً، ضد الدولة دائماً. إنسحق التجمع تماماً أمام الدولة وأصبح مشروعه - إن جاز القول - هو الهلع من سقوطها والتبشير بخطر الإسلاميين. انعكس هذا الموقف على اليسار بشكل عام وليس على "التجمع" فقط. فليس صحيحاً ما يشاع من أن اليسار كان ضعيفاً على المستوى الاجتماعي طيلة الوقت. فجريدة التجمع ("الأهالي") ذات الصيت الواسع كانت تطبع أكثر من 150 ألف نسخة، ويمكن أن تجد بقايا كوادر للتجمع (وربما أصغرهم الآن في سن الخمسين) في بعض القرى والمحافظات المختلفة التي لا تتوقع وجود يسار فيها، من أسوان إلى مدن بمحافظات البحيرة... إلا أن انزوائه تحت مظلة السلطة أفقده أهم عنصر مكون للصفة اليسارية، وهو النضال في جملة قضايا تخص عموم المهمشين والفقراء وكافة ضحايا الاستغلال في ظل نظام رأسمالي ودولة قمعية. ما جعل السؤال المركزي هو لماذا قد ينخرط البعض في "حزب التجمع" ولا ينخرط في حزب السلطة الممثل بـ"الحزب الوطني"؟ فالتجمع وكوادره تموضعوا في دور الناصح الأمين للدولة، وحاولوا لعب دور المثقفين التنويريين أو التكنوقراط داخل جهاز الدولة. كما قبل الحزب بعطايا الدولة مثل التعيين الرئاسي في 1995 في مجلس الشورى لرئيسه، رفعت السعيد، والتجديد له لثلاثة دورات في 2001 و2004 و2007.

انعكس هذا كله على لحظة "يناير" وما بعدها في أمرين: أولاً غياب أكبر حزب منظم وتاريخي لليسار عن المشهد النضالي بشكل عام. ثانياً، فقدانه المصداقية عند قطاعات كبيرة من الشباب. ثالثاً، عدم قدرة التجمع على بناء مجموعات قوية لها تأثيرها على الأحداث بسبب تنحيه عن دوره النضالي عبر عقود، وبالأخص منذ بداية اندلاع الصراع الجاد ضد مبارك في 2005.

حلت إحدى قوى اليسار وهم الإشتراكيون الثوريون هذه المعضلة من خلال تبنيها للنهج الشهير الذي عبرت عنه مقولة "ضد الدولة دائماً، مع الإسلاميين أحياناً". كانت هذه المقولة تمهد للتنسيق السياسي والتشبيك مع قوى اجتماعية مختلفة إيديولوجياً، وفتحت أفقاً للتعاون السياسي مع جماعة الإخوان المسلمين للعمل ضد نظام مبارك. ولكنها، في محطة ما بعد ثورة 2011، كانت أحد المعضلات لبناء تيار يساري قادر على تمييز نفسه اجتماعياً وفكرياً وسياسياً عن الحالة الاسلامية. ولذلك أصبح أهم نقد يوجه لهم هو ما إعتُبر "تذيّلاً للإسلاميين".

هناك إجمالاً "استشراقين"، واحد يرى المجتمع المصري جاهلاً ومكبلاً بسبب هيمنة القوى الدينية عليه، والثاني (وهو استشراق معكوس) يرى أن الإسلاميين هم التعبير الصادق عن المجتمع المصري والقوى القادرة على التغيير وتحدي الهمينة الغربية.. سينعكس ذلك بعد الثورة في محاولات التقارب مع تيار عبد المنعم أبو الفتوح الذي خرج من تنظيم الاخوان، بغاية بناء تيار إسلامي وسطي ذي هوى يساري، أو التقارب مع الإخوان لمحاولة بناء شروط واضحة للتحالف قبل وصول مرسي للحكم. وسيكون الارتباك الأكبر مع اشتداد الصراع ضد الإخوان في 2013، قبل الانقلاب العسكري وبعده.

كان غياب التحليل بشكل عام، والخوف من الاتهام بالإلحاد، والخوف من خسارة قطاعات اجتماعية بسبب وضوح المحتوى التقدمي، سمات رئيسية لقوى اليسار المنظمة في أحزاب أو مجموعات صغيرة.

وكان غياب قراءة مادية منهجية للواقع المصري وتحولاته الأخيرة بعيداً عن الرطانة والصياغات العامة، هو أحد العوامل المركزية في غياب محتوى يساري واضح ومنطوق في ثورة يناير، وفي التباس العديد من المواقف السياسية والاجتماعية والفكرية في محطات النضال المختلفة. وهو الأمر الذي انعكس في إصرار ما عُرف بشباب الثورة وائتلافاتهم المختلفة على رفض أي توجه يساري أو إضفاء أي بعد فكري وأيديولوجي على الحدث، وظهور خطابات تقول بـ"ما بعد الأيديولوجيا". وهكذا مضت الثورة في مراحلها الأولى بدون خطاب سياسي واضح المعالم لقوى اليسار، وبدون وجود قراءة جادة للواقع المصري سواء على مستوى فهم طبيعة العلاقات الاجتماعية - الاقتصادية وتحولاتها، أو فهم التغيرات الكبرى التي شهدتها الدولة المصرية ودورها. وهذا، باستثناء بعض الاجتهادات الفردية أو بعض الأعمال القديمة لسمير أمين ومحمود أمين العالم، أو بعض الدراسات الثقافية حول الاجتماع المصري تمّ إنتاجها في ثمانينات القرن الماضي، وظهور بعض الكتابات الجديدة في التاريخ كمثل مساهمات خالد فهمي وشريف يونس، وبعض الدراسات حول الحركات الاجتماعية.

كما مضت الثورة بدون فهم يساري للقوى المحرِّكة لها. فحتى الآن لم يقدِّم اليسار المصري قراءة سوسيولوجية جادة لطبيعة التشكيلة الاجتماعية التي قامت بالثورة ولتبايناتها المختلفة. النقطة الأخيرة انعكست في تحديد الفاعل التاريخي الذي يجب على اليسار الانخراط معه لتغيير مسار الأحداث، وتجذير الفعل الثوري، والاستثمار في الحراك السياسي والاجتماعي الذي اتاحته الثورة. والأهم هو عدم القدرة على بناء أفق سياسي واجتماعي للصراع. ولهذا انتصرت شعارات مثل "صوت الشهيد"، أو "لا للسياسة"، أو "يسقط كل من خان، عسكر - فلول - إخوان". كلها كانت شعارات صادقة ولا شك، ولكنها بلا محتوى أو أفق نضالي للصراع الاجتماعي الذي انفتح على مصراعيه بسبب فعل الثورة.

ماذا بعد "الإسلام السياسي"؟ المشكلة فعلياً هي في الرؤية للشعب والدولة. فيسار التجمع يرى الدولة ضرورة حتمية لثلاثة مهمات: التحديث، الاستقلال ومواجهة الإمبريالية، والحماية من - أو قمع - المكونات الرجعية داخل المجتمع، وبالأخص الإسلام السياسي والحركات الفاشية. لكن يغيب عن هذا اليسار رؤية الجمهور الواسع، الذي لا يقوم على نظرة "الاستثناء الشرق أوسطي" الإمبريالي في رؤيته للسكان، أي وفق نموذج يحاول أن يرى الجمهور كإمكانية خلاقة للفعل السياسي والاجتماعي. كما أن التمترس وراء هذه الدولة أثبت يوماً بعد الآخر أنه تمترس وراء الفشل والفاشية.

افتقر اليسار للقدرة على فهم الترتيبات الاجتماعية القائمة ولغتها وقواعدها المادية، ومن ثم القدرة على محاولة القيام بإزاحات اجتماعية. وراح يتخبط بين عناوين كبرى، وفي انتظار ميتافزيقا ما، ستحقق نصراً تاريخياً. فقبل الثورة وحتى بعد قيامها، ظل كثيرون يبشرون بقرب اندلاع الثورة العمالية الحمراء. وهكذا صار الفاعل التاريخي شيء غامض، علينا جميعاً الانصياع لرغباته وحركته، والانغماس في هوس الحيز المديني، وهم "فقراء المدن".. فكل شيء عُصي عن تحديد ملامحه أصبح فقراء المدن!

خلاصات

يتركز اليسار في القاهرة، باستثناء بعض النماذج القليلة في محافظات مختلفة، وبالأخص حضور "الاشتراكيين الثوريين" بالإسكندرية، ومحاولات "الحزب الديمقراطي الاجتماعي"، في انتخابات 2011، اختراق القواعد الشعبية لحزب الدولة وقتها، "الحزب الوطني". وحتى اليوم، لم يقدّم اليسار - فضلا على أنه لم ينخرط اجتماعياً وسياسياً - فهما للبنية الاجتماعية والعمران وشكل علاقات السلطة في المدن الصناعية الجديدة مثلاً، سواء ما يحدث داخل المصانع والشركات، أو في المدينة نفسها من علاقات تجارية وبلطجة وممارسات بوليسية وقمعية وتفاوضات ومساومات اجتماعية بين السلطة والقطاعات المختلفة.. وكيفية إدارة الحياة والعمالة غير الرسمية، ونمط حياتها وتداخلها مع سوق العمل الرسمي والمنظم. توقف جهد اليسار على المناطق القديمة مثل "المحلة"، بينما تمركزت الصناعة والعمال في مصر في مدن جديدة مثل "برج العرب" و"الدخيلة" و"العاشر من رمضان" و"6 أكتوبر" و"أسوان".

ويقول حاتم نصيف، الرئيس السابق لـ"النقابة المستقلة للعاملين بالشركة الوطنية للشحن والتفريغ" بميناء الدخيلة بالإسكندرية، والذين إستمر إضرابهم بعد الثورة لمدة 18 يوماً في شهر آذار/ مارس 2013: "كنت مندهشاً من انعدام أي حضور أو تضامن لقوى اليسار، على الرغم من التواصل معهم". ويكمل أنه بعيداً عن إضراب تلك الشركة، كانت هناك إضرابات أخرى داخل الميناء في التوقيت نفسه، ولم تكن السلطة قد إستعادت كامل قدرتها على القمع حينها، إلا أن اليسار كان غائبا بشكل كلي في موقع مهم وشديد الحساسية مثل ميناء الدخيلة.

وبالفعل، فنادراً ما يظهر أي جهد منظّم لفهم هذه المدن، بينما هي شهدت تحولات وتعقيدات كبيرة، مثل منطقة الدخلية داخل الاسكندرية نفسها، والتي تحتوي عدداً ضخماً من المصانع والعمال والشركات داخل وخارج الميناء، وعلاقات قبلية وعصبيات وعصابات منظمة إلخ.. وكان الجهد الوحيد البارز في هذا التوجه على سبيل المثال هو انشغال تنظيم "الاشتراكيين الثوريين" بما حدث مع سكان أحد أحياء هذه المنطقة، وهي المفروزة، حينما تمّ في 2006 إزاحتهم بالعنف لصالح توسيعات بميناء الدخيلة.

هناك غياب جهد منظم لفهم الاجتماع الحاضن للصناعة في مصر اليوم وكل ما يتعلق بحياة العمال. ولهذا فهناك عجز حقيقي لتضفير ومفصلة خطاب يساري واسع التأثير وقادر على الحشد والتعبئة داخل كيانات منظمة وممثلة لمصالح هذه القطاعات. فالطبيعة الثقافوية لليسار لا تأتي، كما يدعي البعض، من اقتصار وجوده في الطبقة الوسطى، ولكنها تعود الى عدم محاولته تقديم قراءة وانخراط أوسع داخل المجتمع. وهي عملية متبادلة، حيث يمكِّن الانخراط من فهم ومعرفة لغة وعلاقات القطاعات الاجتماعية المختلفة، بعيداً عن الهوس الانثروبولوجي بغرائبيات المجتمع المصري، ويمنح فهماً جاداً لطبيعة السلطة والدولة، ومن ثمّ يبلور القدرة على انتاج خطاب وأفق سياسيين.

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...