هل إسرائيل "أرحم" من الأنظمة العربيّة؟

“إسرائيل” منذ وجودها، تسعى لمأسسة العنف والاستفادة من فاعليته حتّى أقصاها. إنّه عنفٌ مادّي يمكن تتبّعه في كافّة تجلّيات الحركة داخل المنظومة.
2018-12-07

شارك
عمل للفنّان الأميركي Leon Golub.

شاعت مؤخّراً مُقارناتٌ تُعطي "إسرائيل" وضعية الأفضلية، مقابل السلوك الوحشي الذي تُعرفُ به الأنظمة العربية. "إسرائيل أرحم من الأنظمة العربية" وضعيّةٌ حلّت بشكلٍ مُحزن ومهزوم مكانَ ذلك النقاش الذي -على إشكاليته- يبدو أكثر إرادة على الفعل: "هل علينا التخلّص من الاستبداد أولاً أم من الاستعمار؟". إنّنا الآن أمام نقاش أكثر تعباً، يُحاول المفاضلة بين سِجنين وقَصْفين، لا التخلّص من كليهما.

بعض هذه النقاشات ينطلق من نقمةٍ شديدة على ما هو محليّ، وتُستخدم “إسرائيل” في هذه الحالة، بغرض توبيخ “الأنظمة الوطنية”، ومقارنتها بما هو مستقرّ في أذهاننا كعدوٍ راسخٍ منذ زمن طويل.

لكن، هناك أيضاً من يُحاول تمرير “إسرائيل” كبقعةٍ مُنيرة في منطقة غارقةٍ في الظلام، وهذا ما يلتقي بدون مقدّمات محترمة مع الدعاية الإسرائيلية نفسها: الـ”هاسبراه“. هذا النشاط الذي يشهد انتعاشاً مؤخراً، بمساهمة بعض العرب.

لماذا لا تُشبه "إسرائيل" الأنظمةَ العربية؟

في الواقع لا يمتلك العنف الذي يجابهنا به الاستعمار أو الاستبداد أيّة مرجعية أخلاقية، حتى نمنحه نحن إيّاها بمقارنتنا هذه. فالمسألة لا تتعلّق بفساد المقارنة، بل بفساد أن تكون “الرحمة” معياراً يصلحُ لأن يكون في صلب المفاضلة.

تنطوي المُقارنة على سذاجةٍ ليبرالية معروفة، تفترضُ أنّ تطوّر منظومات التعذيب مثلاً، مسائل تخصّ الحساسية الإنسانية والرحمة، لا تطوّراً ناتجاً عن رغبتها في الاستفادة من عُنفها لأقصاه.

وسواء استخدمت “إسرائيل” المجازر أو الحصار، فتح المعابر أو إغلاقها، التعذيب النفسي أو الجسدي، فإنّنا نعرف في نهاية التحليل أنّها تُنوّع على حقيقةٍ واحدة راسخة فيها؛ هي أنّها كيانٌ يريد نَفينا ومُطاردتنا حتّى النهاية.

يستند هذا التنويع غالباً، على حقيقة بسيطة: “ما هي أكثر الأدوات فعالية في تحقيق الغرض الأمني الأوسع، الذي يوفّر استمرار الكيان وينفي خصومه؟”.

لذلك، لم تكن المنظمّات الصحيّة هي من أطلق برنامج “حسن الجوار” في الجنوب السوري، بل جيش الاحتلال نفسه، فهو في عمقه يداوي الجرحى، ويداوي كلّ “نزعة” وطنية ترى فيه عدواً. يكويها بعد أن يُعيد تشكيلها كمسخٍ منزوع عن التاريخ والسياسة. إنّه يعيد موضعة نفسه وخلق “جوارٍ” هادئ، باتّساق تامٍ مع إعلان نتانياهو مؤخراً بأن “لا مشكلة في بقاء الأسد”.

تصاعدت نقاشات المقارنة مؤخّراً، بعد فاجعة الكشفِ عن مصائر العديد من المسجونين من داريّا، الذين قضوا في التعذيب داخل سجون النظام. تفاعلت القضية وفي خلفيّتها حقيقةُ قتل النظام السوري لأكثر من 17 ألف معتقل جرّاء التعذيب خلال ستّ سنوات.

عن التعذيب: كيف تعمل “إسرائيل”؟

في ثمانينيّات القرن الماضي، انطلقَ نقاشٌ إسرائيليّ داخليّ حول جهاز “الأمن العام”. بدأ النقاش إثرَ قضيّة “الحافلة 300”، بعد أن قتلت القوّات الإسرائيلية أربعة فدائيين اختطفوا حافلة إسرائيلية، ليتبيّن لاحقاً أنّ اثنين منهما قُتلا بعد احتجازهما من قبل جهاز “الأمن العام”، الذي أخذهما بعيداً عن الكاميرات والصحافيين وقام بتصفيتهما. أخفى الجهازُ قضيّة “القتل بعد الاعتقال” على الجمهور الإسرائيلي، ولم يتمّ الكشف عنها إلّا بعد تسريب إعلاميّ لصورة يظهر فيها الفدائيان حيَّيْنِ عَقِبَ اعتقالهما على يد قوّات الاحتلال الإسرائيلية.

أثار هذا الكشف نقاشاً حادّاً في “إسرائيل”، حول الكذب والفساد وانعدام الشفافية في هذا الجهاز. تصاعدت الأزمة مع تزامن التسريب مع قضية الضابط الشركسي عزّت نافسو، الذي تبيّن خلال جلسة محاكمته عام 1987، أن اعترافه بالتعاون والتجسّس أثناء خدمته العسكرية في جنوب لبنان، تمّ في أعقاب تعذيبه على يد جهاز “الأمن العام”، وأنّ هذا الجهاز قام بتقديم شهادة كاذبة في المحكمة حول قضيته (1).

تصاعد النقاش في “إسرائيل” حول هذه القضايا، إلّا أنّه ورغم ارتباط القضايا بموضوع التعذيب، لم يكن نقاشاً متمحوراً حول شرعيّة استخدامه، والأسئلة الأخلاقية المرتبطة بذلك، بل كان في الأساس سؤالاً إسرائيلياً داخلياً حول انفلات مؤسّسة جهاز “الأمن العام”، وعملها دون ضوابط وشفافية.

في أعقاب قضية نافسو، شكّلت حكومة الاحتلال الإسرائيلية لجنةَ تحقيقٍ رسميّة باسم “لجنة لانداو” للنظر في أساليب التعذيب المتّبعة لدى جهاز “الأمن العام”، ومراجعة الشهادات المُدلى بها في المحاكم حول هذه الأساليب. خلصت اللجنة إلى أنّ على التعذيب أن يتمحور حول التعذيب النفسي، عبر إجراء تحقيقات مكثّفة ومتواصلة، تُستخدم فيها “الحيلُ والبراعة في الخداع”، وبأنّ التعذيب الجسدي يمكنه أن يصبح ملاذاً أخيراً حينما تفشل هذه الأساليب، شرطَ ألّا يتجاوز “مستوى معتدلاً من الضغط”. أوصت اللجنة، أيضاً، بإنهاء اعتباطية التعذيب، ونظّمت أساليبه في تعليمات واضحة. عملياً: أقرّت اللجنة بأنّ التعذيب “مسموحٌ في بعض الأحيان”، شريطةَ الرجوع إلى قائمة سريّة تُحدّد الأساليب المسموح بها”.

بعد انتهاء عمل اللجنة، نُظّمت عملية التعذيب وفقَ كُتيّب إرشادي لا باجتهاد ارتجالي كما كان متّبعاً. شملت الإرشادات حساباتٍ متعلّقة بعدد ساعات النوم أو التعليق، وحدود احتمال الجسد البشري. إلّا أنّه لم يمض وقت طويل على صدور التوصيات، حتّى انطلقت الانتفاضة الأولى التي قام المحقّقون، أثناءها، بتجاوز كل خلاصات اللجنة، وانخرطوا في عمليات تعذيب واضحة ومُمنهجة في حقّ المُعتقلين الفلسطينيين.

استمرّت “إسرائيل” في تعذيب آلاف الفلسطينيين حتّى عام 1999، حين أصدرت “المحكمة العليا” في “إسرائيل” قراراً بالحدّ من التعذيب، فلم نعد نرى استخداماً شائعاً لأساليب التعذيب الجسدي الأكثر وحشية. لكنّ هذا القرار ترك مساحتين لتحرّك الأمن: أبقى على حالة “القنبلة الموقوتة” وهي التسمية التي تشيرُ إلى التحقيقات العسكرية التي يكون هدفها منع العمليات الفدائية، وابتكر القرار حجّة “دفاع الضرورة” الذي تحوّل على يد المحقّقين إلى حيلة شكليّة تُتيح التعذيب. يمكنُ في هاتين الحالتين، وفق تقدير المحققّ، استخدام سلسلة طويلة من ممارسات التعذيب، وفقاً لقرار المحكمة، والإفلات من أي محاسبة.

ماذا حدثَ خلال هذه الفترة؟

كانت “إسرائيل” منذ السبعينيات آخذة في التحوّل الليبرالي بنيويّاً، بانيةً خلال ذلك أسطورة حول نفسها كبلدٍ ديمقراطيّ يحترم حقوق الإنسان، الأمر الذي سيمكّنها من الوقوف في مصافّ الدول الغربية “المتقدّمة”، وسيساعدها على تبرير وجودها كديمقراطية في “صحراء” الاستبداد العربية. لكن هذه الرغبة لم تكن على حساب الأمن، بل باستخدامه كرافعة لها أيضاً.

بدأ النقاش حول التعذيب أمنياً، داخل السجن نفسه. فمنذ عام 1967، اعتقلت “إسرائيل” ما يزيد عن نصف مليون فلسطينيّ. وخلال الانتفاضة الأولى (1987-1993) وحدها، سجّلت “إسرائيل” أعلى نسبة معتقلين قياساً بعدد السكّان في العالم (2). كان على الشاباك تقصير مُدد التحقيق حتى يستطيع استيعاب كل هذا الكمّ من الأسرى، فازداد اللجوء إلى التعذيب الجسدي القاسي. غير أنّ النتيجة كانت عكسية، إذ تدفّقت المعلومات بكمّ هائل لم يستطيعوا معالجته. كان الأسير من شدّة التعذيب، يُدلي بشهادات غير دقيقة ليتخلّص من العذاب. وهو ما دفع الإسرائيليين إلى وضع مسألة “نقاء المعلومة الأمنيّة” صوب أعينهم، وأصبحت جدوى الأدوات تُفحص بناءً على تحقيق هذا الغرض، بمعنى: كيف يمكن الحصول على معلومات أكثر نقاءً؟

أخذَ الشاباك بتطوير آليات التعذيب النفسي، والتعذيب الجسدي “المُعتدل” الذي أوصت به “لجنة لانداو”. بالإضافة إلى فكرة “مؤسّسة العصافير” التي وفّرت له مصدراً لـ90٪ من الاعترافات (3)، إذ يعيشُ الأسرى في مسرحية ينسجها جواسيسُ الاحتلال (العصافير) داخل السجن. كانت المحصّلة النهائية لهذه الأساليب هي الحصول على “معلومة نقيّة” وتدمير المعتقل وتفتيته. تقول الكثير من شهادات الأسرى إنّ التعذيب الجسديّ كان أخفّ عليهم من العذاب النفسي، إذ أنّ الجسديّ على فظاعته كان يخلق فيهم رغبةً مضاعفة للتحدّي والعناد، فيما تترك أساليب التعذيب النفسي الروحَ وحيدةً عاريةً في مواجهة الهواجس والانهيار.

استنتج الأميركان ذلك أيضاً. إذ تذهب دراسة أجراها البينتاغون، ونشرت في مايو/ أيّار 2007، إلى أنّه ثمّة قرائن قليلة جداً، تُثبت بأنّ التعذيب يؤدّي إلى معلومات موثوقة. وجدت الدراسة أنّ الأساليب غير القاسية في استجواب الألمان في الحرب العالمية الثانية، كانت ذات أثرٍ نافع يفوق الأساليب القاسية التي اتبعتها إدارة بوش (4). وفق هذه الدراسة صرفت “وكالة الاستخبارات المركزية” مليارات الدولارات في فترتي الخمسينيات والستينيات، على أبحاث كانت نتيجتها أن استخدام الأساليب النفسية أكثر جدوى من أساليب التعذيب الجسدي. في الفترة التي تلت 11 سبتمبر/ أيلول وضعت هذه الآراء جانباً، والتحق الإسرائيليون خلالها، وقدّموا استشاراتٍ عديدة في هذا المجال، حيث أمكنهم بيع “تقنيات التعذيب” التي مارسوها على الفلسطينيين كخبرة مجربة، لا كتنسيق وتبادل خبرات بين الأجهزة الأمنية، بل، أيضاً، على شكل سلع لـشركة Caci تحديداً، كما أنّهم اشتغلوا في “أبو غريب” الشهير بـ”حفلات” التعذيب (5).

خاتمة أو مقدّمة لقراءات أخرى

“إسرائيل” منذ وجودها، تسعى لمأسسة العنف والاستفادة من فاعليته حتّى أقصاها. إنّه عنفٌ مادّي يمكن تتبّعه في كافّة تجلّيات الحركة داخل المنظومة. الفكرة هنا أنّه يمكن توزيع المجزرة (أسلوب “إسرائيل” في النكبة)، وتحويلها من حدثٍ صادم مكثّف، إلى حقيقة قانونية باردة تجري في اليوميّ، وتنسّل إلى كلّ مفاصل البنية، محقّقة نفس الأهداف الأولى بضجّة أقلّ.

كما أنّه لا يمكن النظر لممارسات "إسرائيل" بمعزلٍ عن أشكال مقاومتها، فالمقاومة أيضاً تجبرها على إعادة ترتيب وترشيد ممارساتها وفحصها. فما يمنع اجتياح غزّة بريّاً اليوم -على سبيل المثال- هو وجود مقاومة تجعل من "الحسابات العقلانية" للربح والخسارة، رادعاً أمام انفلات العنف إلى أقصاه.

_______________

هوامش:
1. “عن التعذيب”، مجموعة مؤلفين، تقرير مشترك لـ”عدالة” و”أطباء لحقوق الإنسان” و”مركز الميزان”، صـ7-12. يمكن الاطّلاع على التقرير كاملاً من هنا.
2. “عن التعذيب”، مرجع سابق، صـ103-104.
3. يُشير بحثٌ أجراه الأسير هلال يوسف القابع حالياً في “سجن النقب”، إلى أنّ قرابة 85% من اعترافات الأسرى، تمّ الإدلاء بها بعد التحايل عليهم في غُرف “العصافير”. المزيد من هنا.
4. أنظر: “التعذيب: التهرّب من المسؤولية” (2012)، كريستوفر هـ. بايل، ترجمة: محمد جياد الأزرقي . مركز دراسات الوحدة العربية.
5. “التعذيب: التهرّب من المسؤولية”، مرجع سابق

النص الأصلي على "متراس". ينشر بالاتفاق مع الموقع.

مقالات من فلسطين

خالدة جرار مسجونة في قبر!

2024-11-21

"أنا أموت كل يوم، الزنزانة أشبه بصندوق صغير محكم الإغلاق، لا يدخله الهواء. لا يوجد في الزنزانة إلا دورة مياه ونافذة صغيرة فوقه أغلقوها بعد يوم من نقلي إلى هنا...

اقتصاد البَقاء: الدّلالةُ والمفهوم في ظلّ حرب الإبادة

مسيف جميل 2024-11-17

لا توجد جدوى للصمود، ما لم يرتبط بالتصدي للاحتلال. استخدم المانحون "الصمود" كإطار جديد، يتماشى مع المرحلة الفلسطينية، ويراعي المشاعر الفلسطينية والحس الوطني السياسي، وكأن التنمية تحدث بتسمية وتبنِّي مصطلحات...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...