يتنازع قادة الجبهات العسكريّة السيطرةَ على معابر تهريب المشتقات النفطية والسجائر الأجنبية.. وفيما يسترسل برد الشتاء كنزفٍ يصعب إيقافه، تتصدر "البطاقة الذكيّة" (بطاقة الكترونيّة مثل بطاقة ATM) وهي آخر فذلكات الحكومة السوريّة لشراء المازوت والغاز، وتصير استنجاداً إضافيّاً بمجهولٍ يجري تجريبه لتقليص الفساد الهائل في هذا القطاع الخدمي، الذي احتكم فيما مضى إلى قوانين السوق السوداء. العرض هنا دوماً أقل من الطلب، وهذه معادلة مقدّسة لم تتغيّر طيلة السنوات الماضية، لتظهر مفاعيلها مؤخراً في ارتفاع سعر صرف الدولار على نحوٍ غير مبرر، ويعود الحديث مجددّاً عن تورّط مسؤولين من الدرجة الثانية، وتحميلهم أوزار خلل تلك المعادلة، وكأنهم وحدهم من يصنع دورة الفساد، وينتفع منها.
التداوي بلجنة بدلاً من الهيئة؟
في تشرين الثاني / نوفمبر من العام الحالي، أصدر وزير العدل السوري قراراً بتشكيل لجنة مهمّتها صياغة "البرنامج التنفيذي للاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد"، إذ تعتقد هذه الحكومة مثل سابقاتها بأن الفساد في سوريا ليس سوى ظاهرة يمكن تطويقها بقانون، ترفدهُ بضعة تشريعاتٍ جديدة، وينتهي الأمر. غير أنّ تطابق مكوّنات الفساد مع بنية النظام القائم يجعل تقليمه أمراً بالغ الصعوبة، فالحلُّ ليس استبدالَ الهيئة المركزيّة للرقابة والتفتيش، بهيئةٍ أخرى، أو تشريعَ عقوباتٍ جزائيّة أكثر تشدداً لملاحقة جرائم الفساد ومرتكبيه، لأن العلاقة بين مستويات الفساد والقدرة على مقاصصة مرتكبيه هي علاقة طرديّة لا يمكن نفيها، بحيث يجري لملمة قضايا الفساد، والتستّر عليها ما أمكن كلّما اقترب أبطالها من هرم السلطة الأعلى، ويجري تقريعها كلّما كانت واجهتها مجرّدَ مسؤولين تنفيذيّين في جهاز الدولة الإداري. هذا ما حدث سابقاً خلال فضيحة دفن نفايات مشعّة في صحراء تدمر أواخر الثمانينات والتي طالت نائب رئيس الجمهوريّة السابق، أو بعد فضيحة انهيار سد زيزون عام 2002، والتي ارتبطت بمسؤولين مقرّبين من هرم السلطة. ففي كلتا الفضيحتين لم يُجرّم القانون السوري أحداً، وجرى توضيب الفساد سريعاً في حقائب النسيان بما يتماشى مع رصانة النظام، واحتكاره الطويل للسلطة.
تعتقد الحكومة بأن الفساد في سوريا ليس سوى ظاهرة يمكن تطويقها بقانون. غير أنّ تطابق مكوّنات الفساد مع بنية النظام القائم يجعل تقليمه أمراً بالغ الصعوبة، فالحل ليس استبدال "الهيئة المركزيّة للرقابة والتفتيش"، بهيئةٍ أخرى، أو تشريع عقوباتٍ جزائيّة أكثر.
ولأن الفساد في سوريا بات منظومةً متكاملة تمدّدت خلال حكم البعث الطويل، واتسعت جهاراً خارج حلقة الوظائف التكنوقراطيّة العامة، فإنهُ تمكّن أيضاً، وفي آن، من التحوّل إلى قاموسٍ إجرائيّ يعيد شرح الحياة بدلالاتٍ غير ملتبسة، ويبيّن سُبل التكيّف الجديدة في علاقة المواطن مع الدولة. وهذا يفوق بكثير ما ذهب إليه معجم "أكسفورد" في تعريف الفساد بأنهُ "انحرافٌ أو تدميرٌ للنزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال ممارسة أعمال الرشوة والمحاباة".
فساد منتصف العام
بلغت سوريا الترتيب رقم 127 عالمياً على مؤشر الفساد الذيّ تُعدّهُ منظمة الشفافيّة الدوليّة من بين 180 دولة شملها المسح، والترتيب رقم 15 عربياً على المقياس ذاته، وذلك قبل عامٍ واحد على بدء الاحتجاجات ضد النظام الحالي، وهو العام الذي أصدرت فيه وزارة المالية السوريّة أوّل احصائيةٍ رسميّة قدرت فيها أنّ حجم الفساد في سوريا قد بلغ 5 مليار ليرة (ما يعادل 134 مليون دولار حينها) خلال الفترة الممتدة بين منتصف عام 2008 وحتى العام 2010. وهي خلال المدّة ذاتها اصدرت إضافة على ذلك أكثر من ألفي قرار حجز احتياطيّ على الأموال المنقولة وغير المنقولة، وهي تخص ما شملته تلك الاحصائيّة الرسميّة الوحيدة عن الفساد. ثم جاءت الحرب بمتغيراتٍ اقتصاديّة اجتماعيّة جديدة أمّنت ازدهاراً لافتاً لمنظومة عمل الفساد، وفي أماكن لم تكن معهودة في السابق، كما حدث في وزارة الداخلية السوريّة خلال شهر تموز / يوليو الماضي حين سجّلت أكبر قضية فساد في تاريخها، حيث اتُهم اللواء هشام تيناوي، الرجل الثاني في الوزارة ومدير مكتب الوزير، باختلاس مبلغ ملياري ليرة (حوالي نصف مليون دولار) كانت مخصصاتٍ لعناصر قوى الأمن. وبالرغم من إيداعه في السجن، وبدأ محاكمته بست تهمٍ أخرى، غير أنّ باب التكهنات يظلّ مفتوحاً حول طبيعة الأحكام النهائيّة التي يمكن أن تطالهُ في القضايا المنسوبة إليه، باعتبار أنّ الفساد قد وصل إلى القضاء السوري منذ أمد.
وقبل فضيحة وزارة الداخليّة بشهرٍ تقريباً استقال رئيس غرفة تجارة طرطوس، بعد القبض على سائقه وبحوزتهِ شحنة من المخدّرات كان قد نقلها من ميناء طرطوس بهدف تهريبها إلى لبنان، ومن ثمّ إلى السعودية. والمتابعون لهذه القضية أوردوا أسماء سبع شخصيات بارزة متورّطة في تدبير هذه العمليّة.
في 2010 سوريا الترتيب رقم 127 عالمياً على مؤشر الفساد الذيّ تُعدّهُ منظمة الشفافيّة الدوليّة من بين 180 دولة شملها المسح، والترتيب رقم 15 عربياً على المقياس ذاته.
ولعلّ منتصف العام الحالي كان زاخراً باكتشاف حالات أخرى من الفساد حيث تمّ إلقاء الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة لمدير عام مؤسسة الاتصالات، إضافةً إلى تسعةٍ من موظفي المؤسسة، إثرَ اتهامهم بالفساد المدبّر لعقد توريد بلغت قيمته نحو 100 مليار ليرة.
تسويق الفساد.. ونقده
يتّسع نفوذ الفساد في الأنظمة الشموليّة أكثر من سواها بكثير. وفي سوريا أصبحت بنية النظام نفسها بنيةً فاسدة نتيجة الاحتكار الطويل للسلطة، وانهزام مشروع المجتمع المدني والحريّات السياسيّة، لا سيما بعد تفكيك مكوّنات الحراك السياسي الذي بدأ سلمياً ومطلبياً عام 2011، عبر مسار معقد شارك فيه تفريغه بالاعتقال والترهيب تارة، أو بفتح أبواب الهجرة إلى أوروبا على ملئها تارةً أخرى. وبصورةٍ عامة يجتذب الحديث عن الفساد كحالاتٍ فرديّة معظم السوريين في مجالسهم العامة، وعلى صفحات تواصلهم الاجتماعي، الموالون منهم قبل المعارضين، وتسمح السلطة لإعلامها بانتقاد الفساد كحالاتٍ فرديّة أيضاً، دون السماح بتحليلهِ كبنيةٍ ومنظومةٍ متكاملة مرتبطة باحتكار السلطة، إذ أنّ الفساد بمستوياته الدنيا المرتبطة بتقديم الرشوة إلى موظّفي الدولة يمكن تعليله بانخفاضِ مستويات الأجور في سوريا، وغلاء المعيشة. حتى أنّ منظومة الوعي الاجتماعي استبدلت اسم "الرشوة" وحوّلته إلى "الإكراميّة"، أي إكرام صاحب الحاجة للموظف، وهنا تصبح الرشوة أشبه بالاستحقاق، أو الأجر الإضافي، كما استبدلت تلك المنظومة مفهوم الفساد بلفظاتٍ أخرى مثل "شطارة" و "فلهويّة". وهذا تشوّهٌ ملحوظ في الوعي الاجتماعيّ للمفاهيم والقيم، مردّهُ الاستخفاف بشعور المواطنة، الذي يعود قبل كل شيء إلى احتكار السلطة لأكثر من نصف قرن، وتهميش قوى المجتمع، والتقليل من شأن القيمة الإنسانيّة للفرد في سوريا، أو إلغائها في أحيانٍ كثيرة.