"لقد استنفدتُ كل البدائل و الحلول في العيش كانسان في هذا البلد.. تعبت وقد ضاق بي الحال". بهذه الكلمات عبر "كريم" عن حاله وهو ينفث ما تبقى من سيجارته الرخيصة. يحاول الشاب الثلاثيني أن يجعل من ارتياده لمقهاه المفضل عادة يومية مع أصدقائه - وهم ليسوا أفضل حالاً منه - بحثاً عن متنفس لحظي يُنسيه ما يتخبط فيه من بطالة مقنعة وكبت وقهر وآمال محبطة. "لست بخير، ولكني أحاول ألا أكون كذلك".. هكذا يلتف على السؤال الروتيني: "كيف حالك ؟".
البطالة المُقنَّعة للشباب المتعلم
"مجاز ولدي شهادة ماجستير، وفوق كل ذلك أنا عالة في نظر الحكومة والمجتمع". 22.7 في المئة من العاطلين عن العمل هم من حاملي الشهادات العليا، وهي نسبة مقلقة مقارنة بغير المتعلمين الذين يجدون فرص عمل أكثر، غالباً ما تكون ذات طابع موسمي ترميقي.
تُعْزَى أسباب تنامي بطالة الشباب المتعلمين إلى الشهادات التي لا تواكب متطلبات سوق الشغل، إضافة على أية حال إلى ندرة فرص العمل التي تناسب تخصصهم التقني أو العلمي، وهو ما يجعلهم رهينة دوامة البحث عن الشغل لمدة قد تطول لسنوات. وفي غمرة ذلك يجد حاملو الشهادات العليا بديلاً في أعمال ترميقية لا تضمن لهم سوى الأساسيات من الأكل والشرب، وغير ذلك يبقى من الكماليات. فـ2.4 مليون مغربي يزاولون مهناً تدخل ضمن الاقتصاد غير المهيكل، تتوزع ما بين نادل في مقهى وفي مطاعم الوجبات الخفيفة، إلى مساعد تاجر للملابس الجاهزة، إلى بائع متجول، ثم عامل مياوم في الأعمال ذات الطابع العضلي. وهذه كلها عمِل فيها كريم، لكنه ما زال يبحث عن فرصته في عمل مستقر يحلم بأن يكون في القطاع العام الذي يظل الملاذ الآمن بنظر المغاربة لما يمنحه من امتيازات وضمانات وحقوق كالتغطية الصحية، بخلاف القطاع الخاص الذي تبقى أجوره متدنية ولا تحترم معظم مقاولاته الشروط المهنية وحقوق المستخدمين، ولا توفر لهم لا تغطية صحية ولا ضمانات اجتماعية، بل هناك بعض المؤسسات التي توظف المغاربة بلا عقود.
كيف ستجد وظيفة محترمة تليق بمستواك التعليمي؟ الاجابة طبعا هي "الوساطة". هكذا يشاطر "كريم" رأي 54 في المئة من الشباب المستجَوبين ضمن دراسة أعدها معهد الرباط للدراسات الاجتماعية عام 2016، إذ يعتقدون أن الوساطة "مهمة جداً" لنيل الوظيفة، في حين يرى 36 في المئة منهم بأنها "مهمة" فحسب، وأجاب 39 في المئة من المستجوَبين بأن الوساطة تتم عبر الأصدقاء والأقارب، في حين يرى 13 في المئة منهم أن "المحيط الاجتماعي يساهم في الحصول على الوظيفة بالمغرب".
الشباب يكفر بالسياسة
"هادوك بياعة ديال الشعارات وسوقهم خاوي وما بقيتش كانتيق ف شي سياسي"(هؤلاء مجرد بائعي شعارات ولم تعد لهم أي قيمة، وأنا من جهتي لم أعد أثق في أي سياسي). كريم وسواه من العاطلين "المقنعين" لا يثقون في وعود الحكومة الرامية إلى التخفيف من البطالة، فهم يرون ذلك مجرد شعارات انتخابية وكلام "خشبي" يتكرر على أسماعهم في البرامج والخطب السياسية ذات الطابع الديماغوجي.
الساسة الجزائريون يسعون لتأطير عنف الشباب
31-01-2017
تونس: الحكم للشيوخ والانتحار للشباب
09-10-2016
ليس هذا الشاب الثلاثيني لوحده من كفر بالسياسة بمفهمومها الضيق الحزبي والمؤسساتي، فالأغلبية غير منتمية سياسيا. فقط 1 في المئة منهم ينتسبون للأحزاب،4 في المئة يشاركون في الملتقيات أو الأنشطة ذات الطابع السياسي أو النقابي، و4 في المئة أيضا ينخرطون في تظاهرات احتجاجية أو اضرابات، في حين شارك فقط 36 في المئة من هذه الفئة في الاستحقاقات الانتخابية بطريقة منتظمة و14 في المئة بشكل غير منتظم (دراسة أجرتها اليونيسكو خلال عام 2017)، ويرجع السبب إلى "نقص منسوب الثقة، والى مشاعر الاستياء إزاء السياسات والخدمات العمومية" (دراسة لـ"المجلس الاقتصادي والاجتماعي" المغربي أجريت في 2018)
وأمام تراجع دور المؤسسات الوسيطة، من برلمان وأحزاب ونقابات، ومقاطعة الشباب لتلك الأنساق السياسية، ظهر أن البديل هو منصات التواصل الاجتماعي كسلطة خامسة تراقب وتنتقد وتسخر أحياناً. وشكلت هذه المنصات منطلقاً لتنظيم احتجاجات ميدانية معظمها سلمي، لعل أبرزها الحراكات الجهوية كحراك الريف، وحراك إميضر، وحراك جرادة...
فطنت الدولة لأهمية الشباب كطاقة كبيرة ينبغي التحكم بها وترويضها، فجاء "التجنيد الاجباري"، وهو مرسوم من المنتظر أن يطبق على الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 19 و25 سنة خلال السنة المقبلة. ويؤمل منه أن يحتوي تمرد الشباب كما أن يمتص بشكل مؤقت بطالة الآلاف منهم سنوياً.
الشباب المغربي غير المؤطر حزبياً أو ايديولوجياً وفقاً لنسق المؤسسات، يمضي بلا هوادة يعبر على منصات التواصل الاجتماعي عن رأيه وطموحاته و مكبوتاته الحسية والوجودية بشكل قد يكون أحياناً عنيفاً في تجلياته الرمزية واللفظية. كتابات وتدوينات هذه الفئة تحمل بين طياتها نظرة يغلب عليها التشاؤم والشكوى والاحتجاجٍ تجاه ما يقع مع كل حدث (مقتل الشابة حياة، التجنيد الاجباري، قانون التحرش الجنسي، "الحريك"...)
فطنت الدولة لأهمية الشباب كطاقة كبيرة ينبغي التحكم بها وترويضها، فاستخدمت قوة القانون وأقرت "التجنيد الاجباري"، وهو مرسوم من المنتظر أن يطبق على الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 19 و25 عاماً خلال السنة المقبلة. ويرى معارضوه بأنه جاء ليحتوي تمرد الشباب ويخلق "أداة جديدة لإشاعة قيم الطاعة والخنوع"، كما أنه يمتص بشكل مؤقت بطالة الآلاف منهم سنوياً.
والهجرة كسبيل للخلاص..
"...لا خيار أمامي سوى الهجرة". يتحدث "كريم" بنبرة متحمسة عن فكرة الرحيل من البلد، خصوصاً بعد أن سمع بأن الأمر ممكن حتى لو مجازفة في زورق مطاطي. "في كل الأحوال أنا ضائع، وجودي هنا عبث، الموت في عرض البحر أهون من البقاء".. يختم الشاب الثلاثيني حديثه وصدى صوت أغنية شبابية تتسلل إلى أذنيه وهي تحثه على البقاء في بلده وسط أحبابه وناسه مهما كانت الظروف. هو لا يكثرت للكلمات بقدر ما تلهبه تلك الترانيم، يحاول مجدداً أن ينسى كل شيء عبر تدخينه لسيجارة محشوة هذه المرة بقليل من الحشيش الردئ عَلَّهُ يهاجرلحظياً إلى عالم أفضل..