سقطت "الانظمة التقدمية" بضربة الفشل القاضية! وأهم سبب لسقوطها انها لم تكن "تقدمية"، مطلقاً، بل هي "انظمة بوليسية" من رأسها الخالد حتى آخر نفر في آخر جهاز مخابرات مبتكَر. ففي بعض البلاد العربية أكثر من عشرة أجهزة مخابرات.. فيها الحربية، والطيران، والمباحث، والنسائية، والشبابية، والمختصة بسوق الخضار، وتلك المختصة بالمفروشات، وتلك التي تُعنى بالمستشفيات وضمناً بالمرضى والاطباء والممرضين والحراس، هذا عدا عن "المعلومات" و"أمن الدولة" الخ..
ولقد تسارع انكشافها ومن ثم سقوطها مع انكشاف ثم سقوط النظام الشيوعي في روسيا، وسقوط المنظومة الشيوعية، وسقوط أنظمة الصمود والتصدي العربية، أمام عجزها عن الصمود فضلاً عن التصدي للمشروع الإسرائيلي الذي تغذى بعجزها فغدا إمبراطورياً.. بينما اندثر قادة ذلك المعسكر إعداماً بالرصاص أو شنقاً، أو بالهرب من تونس واللجوء إلى السعودية، أو بالانقلاب على الانقلاب والاستدارة بالولاء من موسكو إلى واشنطن.. ومعسكر عدم الانحياز تبخر بعد وفاة جمال عبد الناصر ثم نهرو ثم تيتو الذي اندثرت معه يوغوسلافيا، أو أحمد سيكوتوري الذي اختفت معه غينيا وكوامي نكرونا الذي اندثرت معه غانا الخ..
عاد العرب إلى أصولهم: قبائل وعشائر ببطون وافخاذ مقتتِلة، والولاء للقبيلة بشخص شيخها الأغنى والأقدر بعسكره وبولائه لاميركا.
حل النفط والغاز محل العقائد والافكار والطموح إلى التغيير.. صار "قادة عمليات التغيير نحو الغد الأفضل" أولياء العهود في دول النفط، أساساً، والغاز بالتبعية.
وكان بديهياً أن يقاتل هؤلاء العروبة والتقدمية والتغيير، وأن يتصدوا هم لعملية ضخ الدم في أنظمتهم القبلية والعشائرية على أيدي خبراء وسياسيين مميزين من أمثال دونالد ترامب الذي تبرع بتبني الامير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد فضلاً عن الشيخ تميم بن حمد بن خليفة أمير الغاز في قطر.
صارت العروبة تهمة مثلها مثل "الثورة" و"الاعداد لانقلاب". أما الاشتراكية التي اندثرت في بلد الولادة والنشأة والحكم الشمولي، فقد غدت سطوراً في بطون التاريخ، لم يصمد منها الا تمثال لينين المؤسس وستالين باني المعسكر الاشتراكي بالسيف والدبابة والـ"ك.ج.ب".
وهكذا تنشأ الاجيال الجديدة على الـ"فيسبوك" الذي حل محل الكتاب، وعلى "المدونات" التي تنتشر بقدر ما تقل كلماتها وتحل فيها النكتة أو التشنيعة محل المعلومة والتحليل بل والثقافة عموماً..
الوطن العربي بألف خير، فلماذا القلق؟
مصر التي يجوع شعبها إلى الحرية مع الخبز، والتي تعاني مسلسل أزمات لا تنتهي بينما رئيسها الذي قفز إلى السلطة من دبابة العسكر ــ وهو الذي لا يملك برنامجاً ولا يعرف الاقتصاد ولا يحترم الشعب ويكره الديمقراطية. ولقد اختار هذا القائد الخطير أن يلتحق بالأغنى من أمراء العرب وشيوخهم بعد حصوله على التزكية من واشنطن.. وها هم يذلّون مصر عبره، ويطالبونها بأن تتصاغر حتى يسهل عليهم التحكم بها: فيدّعون ملكية بعض أرضها وجزرها عند شرم الشيخ، ويتنازل لهم "السيد الرئيس"عنها، ثم يتقدمون خطوة فيسترهنون مصر "بالهبات الملكية" التي سرعان ما تتحول إلى قروض والى فرض شروط قاهرة على قاهرة المعز، ويطالبون السيسي بأن يشاركهم في حربهم الباغية على اليمن حيث يدمرون معالم العمران في بلد الحضارة الأولى..
أما ليبيا فقد اندثرت تماماً، وبقاياها موضع صراع عنيف بين الدول العظمى: بريطانيا وفرنسا وقطر والبحرين والامارات والولايات المتحدة!
وأما تونس، فان ماضيها يشدها بعيداً عن مستقبلها، لأن قواها السياسية ضاعت بين ماضي الدكتاتورية/ الديمقراطية/ الفردية، وبين طموح الإسلاميين إلى التفرد بالسلطة، فكانت النتيجة أن عاد بورقيبة عبر أحفاده إلى الحكم لانهم أكثر تقدماً ممن حاولوا الوصول اليها للتفرد بحكمها، علماً أن تنظيمهم قد استولد، عبر بعض اجنحته المتطرفة، "اصوليين" اندفعوا إلى القتال ضد التغيير في أكثر من بلد عربي بعنوان سوريا..
في الجزائر، الامر أسهل: يمكن الاستمرار في تجديد الولاية للرئيس عبد العزيز بوتفليقة حتى آخر يوم في حياته على الكرسي المتحرك، يدفعه بعض الحرس الجمهوري من الخلف ويصفق له بعض ورثته المحتملين، وبينهم اقارب له..
كيف اذاً لا نهزم العدو الاسرائيلي الذي يتزاحم على مصالحته (رسميا وعلناً وبسفارات مفتوحة، خصوصاً وأنه قد صالحوه منذ زمن بعيد) أخطر الحكام العرب ملوكاً ورؤساء وامراء متوجين بأكاليل من نفط وغاز؟
***
من هذا الدعي الذي جاء الآن يحدثنا عن العروبة والاشتراكية والتقدم: هل أطعمت هذه الدعوات البلهاء الشعوب؟ هل حررت فلسطين؟ هل هزمت اسرائيل؟ هل وحدت العرب أم زادتهم تشققاً إلى حد الاقتتال.. وهذه اليمن شاهد وشهيد.. وإن لم تكتفِ باليمن فعندك سوريا. وإن لم تكتفِ فعندك العراق ومعه ليبيا..
ألم تنتبهوا بعد أن الجمهوريات إلى زوال وان الملكيات والامارات هي المستقبل. أم انكم تتخذون من ترامب وبوتين نماذج للديمقراطية في هذه الجمهوريات التي تحكمها دكتاتورية الشخص.
لماذا اذاً تعترضون على ديمقراطية الملك أو ولي عهده أو الأمير، خصوصاً مالك المُلك وارِث المجد كابراً عن كابر!