تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.
يجد الاقتصاد غير المهيكل في المغرب جذوره في الاستعمار الفرنسي وما صاحبه من تغلغل لعلاقات الإنتاج الرأسمالية وإخضاع الاقتصاد المغربي لحاجيات "المتروبول" أو المركز. وبعد نهاية "الحماية الفرنسية"، عام 1956، تخصص المغرب في تصدير الفوسفات والمواد الفلاحية (أضيف إليهما مؤخراً تصدير منتجات تجميعية تخصّ السيارات بالدرجة الاولى). لم يعرف البلد إصلاحا زراعيا يعيد توزيع الأراضي ويساهم في التقليص من الهجرة نحو المدن. كما لم تحظَ الصناعة عموما بالاهتمام نفسه الذي حظيت به السياحة أو الفلاحة التصديرية مثلاً. لذا ظل النسيج الصناعي ضعيفاً مرتكزاً على الصناعات الخفيفة و/أو الموجهة نحو التصدير، خاضعاً لهيمنة رأس المال الأجنبي وخاصة منه الفرنسي وعاجزاً عن استيعاب قوة العمل الهائلة القادمة من البوادي، والتي تنامت بفعل الانفجار الديموغرافي.
لم يكن بإمكان اقتصاد مفكك، تابع وريعي، تهيمن عليه الشركات الأجنبية والاحتكارات المحلية المرتبطة بالسلطة - مثلما هو حال الاقتصاد المغربي - أن ينتج سوى البطالة والفقر والتهميش. ترافق كل ذلك مع سياسة تعليمية "مالتوسية" (نسبة للاقتصادي الإنجليزي توماس مالتوس) أوصدت أبواب المدارس في وجه فئات واسعة من المغاربة (معدل الأمية هو 32 في المئة حسب الإحصاء الأخير للسكان سنة 2014)، مما جعل المغرب يحتل مراتب متأخرة في التمدرس والتعليم في المنطقة العربية عموماً والمغاربية كذلك.
لم يكن بإمكان اقتصاد مفكك، تابع وريعي، تهيمن عليه الشركات الأجنبية والاحتكارات المحلية المرتبطة بالسلطة - مثلما هو حال الاقتصاد المغربي - أن ينتج سوى البطالة والفقر والتهميش.
وقد دفعت هذه الاختيارات بملايين المواطنين المحرومين من الحق في التعليم والشغل القار إلى امتهان أنشطة هامشية أو إنشاء مشاريع "رأسمالية" صغيرة خارج القانون، أي نحو الاقتصاد غير المهيكل. وقد نما هذا الأخير بشكل كبير خلال عشرية تطبيق برنامج التقويم الهيكلي 1983-1993 التي عرفت انفجارا للبطالة و انتشارا أكبر للهشاشة مع تراجع الاستثمار العمومي والحد من التشغيل في القطاع العام وتدهور القدرة الشرائية لفئات واسعة من الطبقات الوسطى والشعبية. فحسب البنك الدولي، نتجت حوالي 70 في المئة من مناصب الشغل المحْدثة بين 1986 و1990، عن التوسع الذي عرفه الاقتصاد الموازي(1).
أرقام حول القطاع غير المهيكل
لا توجد في المغرب إحصاءات تقارب الاقتصاد غير المهيكل في شموليته. تتعلق الأرقام الرسمية المتوفرة بالوحدات الإنتاجية غير الفلاحية التي لا تتوفر على محاسبة(2). لذا ليس لنا من خيار سوى الاعتماد على هذه الأخيرة.
في نهاية التسعينات (1999)، كان القطاع غير المهيكل يشغل حوالي 39 في المئة من العاملين خارج القطاع الفلاحي (قرابة المليوني شخص)(3). وفي سنة 2007، بلغت هذه النسبة 37.3 في المئة (116 216 2 شخصا)(4) لتتراجع بنقطة واحدة 7 سنوات بعد ذلك أي سنة 2014 (36,3 في المئة) على الرغم من تزايد عدد العاملين فيه (2 375 922 شخصا)(5)، بينما ارتفع عدد الوحدات المكونة للقطاع من 1.23 مليون وحدة سنة 1999 إلى 1.68 مليون سنة 2013، أغلبها لا يتوفر على مكان للعمل (51.4 في المئة)(6).
نما الاقتصاد غير المهيكل بشكل كبير خلال عقد تطبيق برنامج التقويم الهيكلي 1983-1993 الذي عرف انفجاراً للبطالة وانتشاراً أكبر للهشاشة مع تراجع الاستثمار العمومي والحد من التشغيل في القطاع العام وتدهور القدرة الشرائية لفئات واسعة من الطبقات الوسطى والشعبية.
ويعتمد تمويل "الاستثمار" في هذا القطاع بشكل أساسي على التمويل الذاتي: 82.2 في المئة من مسيري هذه الوحدات، بينما 9 في المئة فقط اتجه نحو الاقتراض من البنوك(7). ويمثل القطاع 11.5 في المئة من الناتج الداخلي الخام. وتتجه 77.8 في المئة من مبيعات وحداته نحو الأسر.كما يهيمن عليه المشتغلون لحسابهم الخاص حيث لا يمثل الأجراء سوى 17.2 في المئة من مجموع العاملين فيه.
الاقتصاد الموازي: مجتمع مضاد أم طريقةُ حكم؟
24-05-2018
يتضح إذن بأن القطاع غير المهيكل قد حافظ عموماً، خلال 15 سنة (1999-2014) على وزنه الاقتصادي والاجتماعي على الرغم من الإجراءات التي سُنّت لدمجه في "الاقتصاد المهيكل". فوجوده مرتبط بـ"نمط التنمية الرثة" الذي عرفه ويعرفه المغرب و يغذيه تطبيق السياسات النيوليبرالية منذ 35 سنة. ويتشكل القطاع أساساً من التجارة الصغيرة (خاصة تجارة الرصيف) والمشروعات الصغيرة في الصناعة والخدمات والعقار، مما يجعله أساساً مجالا لنشاط الجماهير الواسعة من أشباه البروليتاريا الحضرية وبعض الأقسام من الطبقة العاملة الأشد هشاشة وتعرضاً للاستغلال.
الوظيفة السياسية: نمط مقاومة أم صمام أمان
ما هي "الوظيفة السياسية" للاقتصاد غير المهيكل في المغرب؟ تتوزع الإجابات على هذا السؤال بين صنفين من المقاربات:
1- الأولى تعتبر أن "الوظيفة التي يشغلها تواجد أنشطة الهشاشة"(8) تتمثل "في تأمين ردة فعل القوة الاحتجاجية، والتخفيف من حدة التوترات الاجتماعية"(9)، وأن القطاع غير المهيكل يشتغل في هذه الحالة "كآلية اجتماعية وقائية"(10). فهو يلعب دور صمام أمان للوضع القائم. ولعل ما قد يشي بصحة هذه المقاربة هو دور الباعة المتجولين مثلاً أثناء الاحتجاجات التي عرفها المغرب سنة 2011. لقد سمحت السلطة السياسية لهم بحرية نشاط أكبر مقابل عدم انخراطهم في "حركة 20 فبراير". وما إن خف وهج هذه الأخيرة حتى عادت السلطات إلى الحد من حركتهم مستغلة تبرم المارة والتجار. ينطبق الأمر نفسه على التسامح خلال الفترة نفسها مع تشييد مساكن غير قانونية قبل هدمها واعتقال من شيدها. هكذا يتحول ضبط نشاط الاقتصاد غير المهيكل إلى وسيلة لإقامة حواجز بوجه تلاقي النضالات وتأجيج التناقضات في صفوف الشعب.
2- الثانية ترى في الاقتصاد غير المهيكل شكلاً من أشكال المقاومة ضد سلطة الدولة النيوليبرالية ونموذج تنميتها. إن منطق اشتغال جزء هام من الاقتصاد غير المهيكل باعتماده على علاقات القرابة وأنماط التضامن القبلي و/أو المناطقي لتعبئة الموارد المادية والرمزية الضرورية من أجل الاستمرار، هو مناقض لمنطق السوق المعمَّم النيوليبرالي. كما أن "تجاوز" و"تجاهل" الترسانة القانونية التي تنتجها الدولة النيوليبرالية وتملّك المجال العام، تشكِّل كلها، بتعبير آصف بيات، "تجاوزات هادئة للناس العاديين تمكّنهم من تحقيق مصلحتهم على حساب المالكين والمسيطرين في سعيهم للبقاء وتحسين ظروف عيشهم، ويمكن لهذه الممارسات السياسية في جوهرها أن تجد ترجمتها بشكل عرضي في فعل جماعي أي في نضالات مفتوحة وعابرة دون قيادة واضحة أو تنظيم مهيكل"(11). و لعل الانتفاضات المدينية التي عرفها المغرب (1965، 1981، 1984، 1990) والتي شكلت هذه الشرائح وقودها، قد تشي بصحة هذا النوع من المقاربات.
يشتغل هذا الاقتصاد كآلية اجتماعية وقائية، ويلعب دور صمام أمان للوضع القائم: التسامح خلال فترة إنفجار تحرك 20 فبراير مع الباعة الجائلين، ثم العودة الى ضبط حركتهم بنهاية التحركات، أو مع تشييد مساكن غير قانونية قبل هدمها واعتقال من شيدها.
يشكل التعارض بين هذين الصنفين من المقاربات تعبيراً عن التناقض بين رؤية تنظر بارتياب لكتلة البروليتاريا "الرثة" وأخرى ترى في هذه الأخيرة قوة الثورة الرئيسية. إنه صدى لنقاش قديم عرفته الحركات الثورية، خاصة في مجتمعات المحيط (الطرَفية) حيث جماهير "المهمشين" تمثل قسما واسعا إن لم يكن السواد الأعظم. ولعل السياسات النيوليبرالية، بآثارها المدمرة، قد فتحت الطريق نحو التفكير في تجاوز هذا التناقض. إن تعميم الهشاشة وانعدام الأمان الاقتصادي الذي أصبح يهدد الفئات الاجتماعية التي كانت تعرف نوعاً من الاستقرار في العمل يسمح بانتقال تجارب وخبرات التنظيم والتعبئة بين المضطهَدين. إذ يشكل امتهان عدد من خريجي تجارب النضال الطلابي أو العمالي لأنشطة الاقتصاد غير المهيكل فرصة لنقل خبرة تنظيمية هامة الى شرائح أوسع. واحتجاجات "الريف" و"جرادة"، ومحاولات تنظيم الباعة المتجولين، هي نتاج جزئي لهذا الانتقال في الخبرات.. ولعله أحد النتائج غير المتوقعة للسياسات النيوليبرالية.
________________
1- Banque Mondiale, Poverty, adjustement and growth, Kingdom of Morocco, 1993 cité in Mejjati Alami Rajaa, « L’ajustement structurel et la dynamique de l’emploi informel au Maroc », Critique économique n°2, Eté 2002 p. 85-86
2- يقصد بالمحاسبة، نظﺎم اﻟﻤﺤﺎﺴﺒﺔ اﻟﻤﻌﺘﻤد ﻟدى اﻟﺸرﮐﺎت واﻟذي يواﻓق اﻟﻨظﺎم المحاسباتي اﻟﺠﺎري به اﻟﻌﻤل ﻓﻲ اﻟﻤﻐرب.
3- Direction de la Statistique, Enquête nationale sur le secteur informel non agricole 1999-2000, Ministère de la Prévision économique et du Plan, Rabat, 2003
4- Haut Commissariat au Plan, Enquête nationale sur le secteur informel 2006-2007, Rabat, 2009
5- Haut Commissariat au Plan, Présentation des résultats de l’Enquête Nationale sur le Secteur Informel 2013/2014, Rabat, 2016
8- محمد العودي، "شرائح الفقر بالقطاع غير المهيكل والإرهاصات الاجتماعية"، التحرر، العدد الأول، شتاء 2014 ص. 122
11- Bayat Asef, Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East, Stanford University Press, Palo Alto, 2009 p : 90
محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.