ترافقت رئاسة عبد العزيز بو تفليقة في منتصف عام 1999 مع إطلاق استفتاء شعبي حول قانون "الوئام الوطني" (تلاه ميثاق "السلم والمصالحة") ايذاناً بخروج الجزائر من "العشرية السوداء"، وهي الأحداث الدامية التي بدأت في 1991، وكانت سبقتها تحركات اجتماعية كبيرة. وطرح الرئيس الجديد سياسة "شراء السلم الاجتماعي"، مستفيداً من تضخم العوائد النفطية التي أتاحها ارتفاع أسعار البترول. وهكذا جرى ضخ مبالغ كبيرة في ما سمي بمشاريع "الاستثمار العمومي" مستهدفاً ارضاء طلبات اجتماعية عديدة عرفت بانها رفع أجور الموظفين، وإنجاز مشاريع سكنية ومنشئات قاعدية، وتوظيف وتشغيل الشباب، والتكفل بالفئات الاجتماعية الهشة في المجتمع.. إلا أن ايقاع هذا النهج السياسي المطبق لسنوات طويلة لم يعد متاحا بسبب تراجع أسعار النفط الاخيرة. وهكذا بدأت اصوات شتى تُسائل السلطات العمومية التي سيرت فترة البحبوبة المالية عن مصير الاموال التي ضُخت في التنمية ومشاريعها الوطنية والمحلية، وهل أن ما تم انجازه فعلا يلبي التطلعات ويتماشى مع ما كان متاحاً من امكانيات مالية ضخمة، وهل نجح "السلم الاجتماعي" في الجزائر في تحقيق الحد الادنى من الرفاه الاجتماعي والتنمية الاقتصادية او الاجتماعية؟
هذه التساؤلات يرددها في الوقت الراهن ساسة وناشطون في مجال الحركة النقابية والجمعوية، وهي تثير سؤالاً هاماً في السياق: ماذا يعني "السلم الاجتماعي"، وماذا حقق للبلاد سياسيا واقتصاديا ؟
تململ الجبهة الاجتماعية
خرجت منذ بداية العام العشرات من النقابات المستقلة الى الشارع وهي تطالب بتحسين أوضاع مهنية وإجتماعية لفئات عمالية جلها في قطاع الوظيفة العمومية الذي يستوعب أكبر عدد من العمال والموظفين. اقدم اطباء وفئات مهنية في قطاع الصحة على تنظيم وقفات احتجاجية بالهندام الطبي أمام الوزارة الوصية متقدمين بعدد من المطالب الملحة. وبدوره قام "المجلس الوطني المستقل لمستخدمي التدريس للقطاع ثلاثي الأطوار للتربية" ("الكناباست") وهو ينشط كتنظيم نقابي مستقل في قطاع التربية الوطنية، باضراب موسع طال اكثر من محافظة تسبب في توقف الدراسة أشهراً عديدة . كما تلوح منذ مدة نقابات عديدة في قطاعات حيوية بتنظيم حركات احتجاجية اذا لم تتم تلبية المطالب الاجتماعية المرفوعة منذ سنوات. وقد بدا واضحا ان عدد الاحتجاجات التي تنظمها هذه النقابات في قطاع التربية والصحة والادارة يؤشر الى غضب مطلبي كبير دفع الحكومة الى "تحذير النقابات من تسييسه"، في رسالة بعث بها وزير الداخلية والجماعات المحلية، مطمئناً المحتجين الذين اعتبرهم "أبناء وطن سيتم التكفل بمطالبهم الاجتماعية في اطار قوانين الجمهورية".
مع انخفاض عائدات الريع النفطي، بدأت اصوات تُسائل السلطات العمومية التي سيرت فترة البحبوبة المالية عن مصير الاموال التي ضُخت في التنمية ومشاريعها الوطنية والمحلية، وهل أن ما تم انجازه فعلا يلبي التطلعات ويتماشى مع ما كان متاحاً من امكانيات مالية ضخمة
ولكن بعض الفعاليات السياسية المعارضة تعتبر ان الحكومة تسعى لربح الوقت وانها لا تبادر الى معالجة الامر باطلاق نقاشات وحوارات مع النقابات، وقد اهتدى البعض الى اقتراح تنظيم جلسة صلح بين "الكناباست" والحكومة يرعاها ائمة ورموز من الشخصيات العامة، ما استحسنه بعض النقابيين والسياسيين ولم يثر اعجاب البعض الآخر ممن رأى أن هناك عجز رسمي لمؤسسات الدولة في إدارة الاحتجاجات النقابية التي اعتادت على امتلاك هامش من المناورة الايجابية حيال المطالب الاجتماعية، اذ عرفت الجزائر في الفترة ما بين 2004 و2014 زيادات في اجور العمال ودعما اجتماعيا غير مسبوق لفئات اجتماعية هشة وتوظيفا في قطاعات عديدة لخريجي الجامعات..
ولكن سياسة شراء "السلم الاجتماعي" تلك تبدو وكأنها لم تحقق الكثير من النتائج الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، فنمط التسيير بعقلية "الاجتماعي" وليس "السياسي" الحامل لرؤية اضر بهياكل ومؤسسات الدولة المعنية بالاقتصاد الوطني الذي لم يتخلص ــ على الرغم مما أعلن عنه من "اصلاحات" عميقة في المنظومة المالية والاقتصادية ــ من تبعيته للبترول.
تؤكد الحكومة أن الانفاق على مطالب المواطنين والمعنون بصيغة "الدعم الاجتماعي" سيبقى، وأنه اولوية..علماً أنه يصطدم بحائط الامكانات بسبب تلك التبعية لريع لا تتحكم هي في اسعاره ولا في ايراداته، خاصة ان الاحتياطي النقدي يتضاءل.
التقشف.. الجرعة المُرّة
تروج الحكومة لسياسة أخرى، بعد فترة شراء السلم الاجتماعي، أسمتها "ترشيد الانفاق العام"، كسياسة تقشف تستدعي تراجعاً لا مفر منه عن ضخ اموال لانجاز مشاريع ذات طابع اجتماعي تقع في جدول مطالب الجزائريين الذين ما زال قطاع واسع منهم يعاني من أزمة سكن وشغل. وهكذا سرعان ما صبّح بعض الوزراء يتحدثون عن "إنفاق مدروس للمخصصات المالية"، وعن ضرورة تحمل الجماعات المحلية (مجالس الولايات والمحافظات والبلديات) مسؤلياتها في إدارة التنمية بالولايات التي لم تتحرك فيها التنمية كثيراً. بل أن "السلم الاجتماعي" اختفى من أدبيات وخطب المسؤولين، كما لم يكن موجوداً كمناخ عام في اللغة المطلبية لشباب جزائري يختار قطاع منه "الحرقة " (الهجرة السرية) لتجاوز مشاكله الاجتماعية. وأما لغة التطمين التي تعتمدها الحكومة بخصوص بقاء الدعم المعتاد للفئات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة فقد عراه في الواقع انهيار القدرة الشرائية لفئات واسعة من الموظفين والعمال.