أهرول في الصباحات الباردة لمدينة براغ، في محاولات عبثية للحاق بالمترو أو بالحافلة. تنطلق الحشود من كل فج، ولا يلفت نظري غير السيدات كبيرات السن المتأنقات دوما بقبعاتهن العتيقة وبالنظرة الثابتة لإمرأة تعرف حجم الآخرين وحجم العالم. وتنقسم ذاكرتي لشاشتين كبيرتين، فالسيدة بيضاء الشعر بقبعتها الفرو بعمر الأبد وخواتمها المتعددة قد تكون جدتي "لول"، خالة أبي، الأرملة التي مؤخراً أصابها الخرف، والتي كانت من أقوى النساء اللاتي عرفتهن، لسانها سليط بذيء ولم تكن لتغفر تعالي الذكور عليها. وهذه السيدة بحواجبها المزججة الدقيقة وأناقتها المبالغ فيها قد تكون السيدة "فَخّار"، فاطمة صانعة الفخار التي أنجبت أولاداً يعانون من قصور عقلي وزوج لم يكن ليجد عملاً، وظلت متأنقة على الدوام تجوب القرى بمباخرها و"أكواز" الماء الأنيقة وتنانير الخبز الفخارية حسب الطلب. أما هذه "الليدي" التي تباغت الآخرين بنظرتها المتعجرفة والمقزِّمة، فهي ولا شك جدتي "سعيدة"، زوجة عم أبي، والتي كانت منزلها مباشرة بجوار دارنا، السيدة التي كانت عمدة قريتنا، وصوتها الجهوري إن تتطلب الأمر مناديا للقرى الأخرى، وحارس القرية في ليالي الشتاء المخيفة، حيث إذا نبح الكلب نباحه صارخاً بوجود غريب، أطلت هي برأسها الرمادي وسألت بصوت كالهزيم: من هناك، من العابر؟
صنعتْ النساء ذاكرتي، صنعنها منذ دهشة الطفولة الأولى. وعلى إختلاف التفاصيل، كنّ دوماً قصصاً مذهلة. ولأني نشأت في القرية، حيث المجتمع أكثر انفتاحاً، والقصص متاحة للتداول بتفاصيلها الأكثر صغراً وإثارة، لذا كنت في حالة حلم مستمر بأن أكون كل أولئك مجتمعات، أتذكر كيف كانت تسحرني وتطير النوم من عينيّ قصص حب المراهقات، ومغامراتهن مرعبة العواقب، الرسائل المخبأة تحت الأحجار بجانب عيون الماء في الأودية، قصص العشق بين رعاة الأغنام في الجبال، الفتيات المخطوبات المنتظرات منذ الأزل للعائدين من المدن.. لكن بشكل أكبر قصص النساء القويات، بذيئات الألسنة، محطمات القوالب، اللواتي لا يخشين اقتحام مجالس الرجال والحديث بلغتهم الفجة، اللواتي يُجدّن استخدام الكلاشينكوف في الأعراس، النساء اللواتي يذبحن أضحية العيد بأنفسهن لأن أزواجهن لم يعودوا من المدن البعيدة، الأرامل المسئولات عن دزينة أولاد وجميعهم يذهبون إلى المدارس، المطلقات اللواتي يحظين بحياة المرح، قصص الخائنات لأزواجهن المتزوجين أخريات في الخليج، النساء المستمعات إلى الإذاعات، المشاركات في الجدل السياسي، النسوة اللواتي لم يعرفن أبداً كلمة نسوية وحقوق، لكنهن يدركن ذلك بوعيهن الغائر في عمق بساطته.
صنعتْ النساء ذاكرتي، صنعنها منذ دهشة الطفولة الأولى. وعلى إختلاف التفاصيل، كنّ دوماً قصصاً مذهلة. ولأني نشأت في القرية، حيث المجتمع أكثر انفتاحاً، والقصص متاحة للتداول بتفاصيلها الأكثر صغراً وإثارة، لذا كنت في حالة حلم مستمر بأن أكون كل أولئك مجتمعات، أتذكر كيف كانت تسحرني وتطير النوم من عينيّ قصص حب المراهقات...
في يوم المرأة، وفي كل عام، أهدي حبي وإمتناني لكل نساء بلادي، لنساء عائلتي، أمي التي لم تغفل عن أي قيمة إنسانية إلا وأرضعتنا إياها، جدتي كلثوم، المرأة الجبارة أم لعشرة أولاد جميعهم ناجحون بارّون، صديقاتي بلا استثناء، وكل صديقاتي نساء جديرات بانحناء الهامة لهن، فتيات خضن حروباً لا نهاية لها لنيل حقوق لا يمكن حتى التفكير بأنها ممنوعة في عوالم أخرى، حقوق الذهاب إلى المقهى، ارتداء حجاب ملون، خلع النقاب، وضع الكحل خارج البيت، أو طلاء الأظافر، شراء فساتين قصيرة لمناسبات الأعراس ــ التي تحضرها نساء فقط ــ، مشاهدة قنوات الأفلام والأغاني والمسلسلات التركية المحظورة حفاظاً على أخلاقهن، الذهاب إلى المدرسة أو الجامعة، دراسة تخصص غير التربية، العمل في بيئة مختلطة، السفر وحيدات بدون ذكر، اختيار العريس، اختيار الطلاق، امتلاك حساب على الفيسبوك، وضع الصورة الشخصية على بروفايل الواتساب، إشهار الاسم في دعوات الزفاف، "حيث تدعوكم أم محمد لزفاف ابنتها المصون".. صديقاتي وغيرهن من اللواتي ما فتئن يكسرن قيداً وراء آخر، ويمحين عقبة تتلوها أخرى، اللواتي لم يخترن أقدارهن، لكنهن على عكس كثيرات، لم يستسلمن، أولاء اللواتي ولدن في مجتمع قلما يهب حرية ودوماً ما يبتلع حقوق.
وليس من حديث يمكن أن يغطي هذا أو يصفه. وحيث المرأة اليمنية تقف على جثة العالم، يصبح من السخيف والرفاهية عليها أن تشتكي من أنها تتعرض للتحرش مثلاً، لأن الملايين من حولها تموت من الجوع. تستمر عملية "تستطيح وتسخيف" كل حقوقها وكل مشاكلها، لكنها تمضي. ولدي من الأمثلة ما لا يعد ولا يحصى، نساء انتزعن حياتهن انتزاعاً، فتيات أٌلبِسن النقاب منذ العاشرة، وكن ممنوعات من مغادرة المنزل بدون ذكر، فتيات تعرض للضرب والنبذ، ثم أصبحن ما هن عليه اليوم: زاهيات بألوان حجاباتهن وعباياتهن، مستقلات بأعباء حياتهن، قويات في مواقع عملهن، حاملات لمسئوليات عائلاتهن، فتيات أثبتن للآباء والأمهات أنهن أقدر وأقوى من ذكورهم المفضلين، وأنهن تماماً يعرفن الحدود التي يجب ألا تٌجتاز دون تدخل من كلمة الذكر أو حمايته، فتيات قطعن كيلومترات عديدة كي ينهين دراستهن، وتحملن عبء الفقر والتعب وكلام الناس، فتيات وقفن في المحاكم مدافعات عن أنفسهن وعن حقوقهن أمام زوج معتد أو أخ ظالم، رغم أنهن لا يجدن القراءة ولا الكتابة ولم يلتحقن يوما بمدرسة، نساء أوقعتهن الظروف في الخطأ فخرجن من السجون أقوى.
يومهن؟ أيامهن!
08-03-2018
ونساء بلادي أيضا مأساة الزمان، نساء يعشن في أسوأ الأماكن على الأرض كما وصفت الأمم المتحدة اليمن، يحاولن ما استطعن أن يتمسكن بتلابيب الحياة التي تغادرهن مسرعة، تسرق أعمارهن وأعمار من يحببن، حياة لم يعد فيها أي تفصيل يمكن أن ينتمي لحياة اليوم. النسوة التي كانت حياتهن صعبة في الأساس ثم أحالتها الحرب إلى مستحيلة.. هؤلاء النساء التي لا يعرف الآخرين تفاصيلهن، عذاباتهن وأحلامهن، يمنحن الرائي عيونهن الحزينة الظاهرة من خط النقاب، النسوة اللواتي تتقرح أياديهن بفعل كومات الغسيل والمياه الباردة، ويجبن الشوارع حاملات اسطوانات الغاز وعلب الزيت الضحمة الملوءة بماء المساجد على روؤسهن، النساء اللاتي تقطعت بهن السبل وتُرِكن في مواجهة فظاعة الحرب: الجوع واتعدام الموارد وكثرة الأفواه، فإن وجد الطحين اختفى غاز الطبخ، وإن المؤونة وجدت اختفت مياه الشرب، وإن وجد المنزل اختفت الوظيفة، وإن وجد ما سبق اختفى الأمن والأمان، وكم من الملايين من النسوة وجدن أنفسهن في مواجهة مع إنعدام كل ما سبق، يجب أن يتدبرن أمورهن من منطلق مسئولية الأمهات.
كل يوم هو يومهن، هو ألمهن الكبير ونضالهن الدائم، تطلعاتهن وأحلامهن، رغبتهن الملحة في حياة طبيعية، أقل قتامة وأكثر ألواناً، وعلى الرغم من هذا، كل يوم يقوى اعتقادي بأن المرأة اليمنية هي أقوى نساء الأرض، المحارِبة الأكثر صلابة واستعداداً للصمود منه للانتحار، فسلام عليكنّ، في الحقول والجبال والشوارع وأماكن العمل، في مخيمات النزوح أو في المنافي، سلام عليكن وأنتن تحملن عواقب ما جنى غيركن!