في الدقائق الأخيرة من مهرجان "نواحي النهر" الأدبيّ الذي عُقد في حيفا، وفي ندوة حواريّة بين كتّاب وشعراء وحضور، انحرف النقاش في القاعة الصغيرة خافتة الإضاءة عن الشعر أو الرواية. صار نقاشاً حول ما يُمكن أن نسمّيه البنية التحتيّة للثقافة: المؤسسات والأطر، بناء المشاريع الثقافيّة، والتنافس بينها (إن وُجد)، ومصادر تمويلها وكيف تطوّرت، تأثير التجارب والمبادرات العابرة في المدينة، وهل من الممكن أصلاً أن يصمد مشروع ثقافي لسنواتٍ أو عقودٍ في البلد؟ أُخذت الصور الشعريّة والرؤى النقديّة خطوةً للوراء لتُفسح المجال لكشف الارتباط الوثيق والبنيوي بين فضاء النصّ الأدبي الواسع من جهة، والظرف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي العميق الذي نحاول أن ننحت فيه مشهداً ثقافياً. فمثل هذا المهرجان، على صغر حجمه، يشكّل تجربةً تثبت لدى الأدباء فكرةً بسيطة وأساسيّة: أن العمل الذي نؤلّفه لا يُمكنه العيش من دون حركةٍ تُحيط به، وأن القارئ ليس فرداً مجرّد، إنما أفراداً يؤلّفون، بدورهم، مجتمعاً.
سؤال المؤسسة
يشغل السؤال ذو البعد التنظيمي معظم المهتمين والمنخرطين بالحقل الثقافي الفلسطيني. وهو سؤال موجود في كل دول العالم، تتصاعد أهميّته بعلاقة طرديّة مع توتّر العلاقة بين السلطات والمجتمع، ولذلك فربما يكون بأقصى تعقيده تحت ظرف استعماري قائم على الشرذمة وتعدد أشكال السلطات، بين احتلال عسكريّ واحتلالات تتخذ أشكالاً متفاوتة. يشغلهم أولاً وقبل كلّ شيء، لأنّ مصيرهم الإبداعي والمهني مرتبط بالمؤسسات، ومهدّد بالتبدّد أو بألّا يحقق الحدّ الأدنى من مجمل الطاقات الكامنة فيه. أما في فلسطين فيتخذ السؤال جوانب سياسيّة حرجة تجعل العلاقة بين المثقّف والسلطة مسألة لا يُمكن تجاهلها، بل وتُحدد طبيعة العلاقات بين المُبدعين أنفسهم وبين الدوائر المختلفة للإنتاج الثقافي، فينشأ مثلاً شرخ في داخل أراضي 1948 بين من يُنتج ثقافةً برعاية إسرائيليّة ومن يُنتج ثقافةً قائمة على رفض أي علاقةٍ بإسرائيل. والعلاقة بين الطرفين ليست ثنائيّة متحاربة، بل علاقة مركّبة ومتفاوتة، متفهمة تارةً ومتنافرة تارةً، وتخضع لمساحات رماديّة شاسعة نتيجة الظرف التاريخيّ لفلسطينيي الداخل. مثل مسرح الميدان (أكبر مسارح الداخل) الذي يتلقّى تمويلاً حكومياً إسرائيلياً من جهة، لكنّه يرفض الخضوع للتدخّل الاسرائيلي في مضامينه السياسية المسانِدة للأسرى الفلسطينيين مثلاً، وهو يواجه اليوم خطر الإغلاق لهذا السبب. ويزداد الموضوع تعقيداً في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، حيث تنشأ تيّارات أكثر ارتباطاً بسلطة أوسلو والريع الأمريكي، مقابل تيّارات أكثر اعتماداً على الريع الأوروبي أو رجال الأعمال الفلسطينيين، أو لها ارتباطات بدول الخليج، وبعضها يتمسّك بالاستقلاليّة التامّة.. والمساحات هنا أكثر تداخلاً وتشابكاً حتى يكاد ينعدم الأبيض والأسود فيها.
مثل هذا المهرجان، على صغر حجمه، يشكّل تجربةً تثبت لدى الأدباء فكرةً بسيطة وأساسيّة: أن العمل الذي نؤلّفه لا يُمكنه العيش من دون حركةٍ تُحيط به، وأن القارئ ليس فرداً مجرّد، إنما أفراداً يؤلّفون بدورهم مجتمعاً.
عكس مهرجان "نواحي النهر" للأدب ــ والذي جمع كتّاب فلسطينيين من جانبيّ الخط الأخضر صدرت أعمالهم عن دار "الأهليّة" للنشر والتوزيع ــ جوانب كثيرة من هذه الأسئلة. نترك جانباً التعقيدات المعتادة التي واجهها المهرجان، وأهمها تضييقات الإسرائيليين التي كادت تُلغيه، فأُعلن عن تأجيله ثم أُعيد لموعده يوماً قبل الانطلاق. الأهم هو شكل المؤسسات التي عملت على هذا البرنامج، وهو ما يعطي لمحة عن بعض الأطر والدوائر التي ينبني داخلها المشهد الثقافي اليوم داخل فلسطين. فقد كان "نواحي النهر" تعاوناً بين ثلاث مشاريع لكل منها شكل تنظيمي وهدف مختلف تماماً: مقهى فتّوش، دار الأهليّة للنشر، ومسرح خشبة. مشاريع تتراوح على سلم بين الثقافيّ والربحي: من مشروعٍ تجاري خالص يحمل هماً ثقافياً انطلاقاً من مسؤوليّة فرديّة لأصحابه، ودون أن يُلزمه شيء بذلك (فتوش)، ومشاريع ثقافيّة بجوهرها إنما تعتمد نموذجاً ربحياً في عملها (الأهليّة)، ومشاريع ثقافيّة غير ربحيّة تناضل للبقاء اعتماداً على صناديق وتبرّعات (مسرح خشبة).
ربحيّ يتحمل مسؤولية ثقافيّة، وثقافيّ يتبنى نموذجاً ربحياً
مقهى فتّوش الذي تأسس في العام 1998 هو أوّل المقاهي التي افتُتحت في "الحيّ الألمانيّ" في حيفا (والحيّ هو المنطقة التي استعمرتها حركة دينيّة بروتستنتيّة ألمانيّة تُسمى "التمبليريّة" نهاية القرن التاسع عشر، وهي التي بنت وخطّطت المنطقة)، وقد صارت المنطقة اليوم مركزاً اجتماعياً وسياحياً من حيث مرافقه الحيويّة وقربه لضريح "الباب" والحدائق المعلّقة (وهي الأماكن المقدّسة في الديانة البهائيّة والتي تجذب السياحة). وقد نجح هذا المقهى في أن يتحوّل خلال عقدين من الزمن مركزاً ثقافياً مساهماً في الطابع الاجتماعيّ المدنيّ، إذ تُعقد فيه الندوات، وتُستخدم إحدى غرفه كصالة عرض للفنون البصريّة، وتشكّل في أحيان كثيرة نقطة انطلاق وانكشاف أولى لفنانات شابّات وفنّانين شباب. وقد حقّق "فتّوش" قفزةً نوعيّة مؤخراً مع افتتاح مساحات إضافيّة يُستخدم بعضها لعقد اللقاءات الثقافيّة وتوقيع الكتب والندوات، ونُظّم فيه معرض للكتاب ومهرجان للحكواتيين، إضافةً إلى افتتاح متجر للقطع الفنيّة التي ينتجها فلسطينيّون، ودكان كتبٍ هو الوحيد في مركز المدينة (هناك دكان واحد آخر فقط، وهو في حيٍّ ناءٍ ومنطقةٍ غير حيويّة). ولكن، وفي نهاية المطاف، فإن المجهود الثقافيّ الهائل لا يعتمد إلا على المقهى والمطعم الذي يجتذب حركة سياحيّة مُلفتة تضمن له مصدر تمويلٍ ثابتٍ لم تكن الفعاليّات الثقافيّة ممكنة من دونه.
اقرأ أيضاً: الحركة المثلية في فلسطين ومقارعة الخطاب الإسرائيلي
وتربط "فتّوش" شراكة قويّة مع مؤسسة أخرى هي دار الأهليّة للنشر، والتي تصدر كتبها من عمّان وبيروت، وسط تشديدٍ كبيرٍ على الأدب الفلسطينيّ واهتمام مُلفت بالأدب الشاب في فلسطين، فإصدار الكتب الفائزة بمسابقة "الكاتب الشاب" التي تنظّمها واحدة من أهم المؤسسات الثقافيّة الفلسطينيّة – مؤسسة عبد المحسن القطّان. وتلعب "الأهليّة" داخل أراضي 1948 دوراً ليس في نشر كتّابها فحسب، بل بتوزيع مئات الكتب من دور نشرٍ أخرى في الوطن العربي قلما تصل إلى هنا، مثل دار المدى، ناشرون، دار الجمل، المركز العربي للأبحاث وغيرها الكثير، إضافةً لكتب الأطفال، خاصةً تلك الصادرة عن مؤسسة "تامر" الفلسطينيّة.
خشبة: التفكير بالمستقبل رغم الصراع على الحاضر
أما مسرح "خشبة" فهو تأسس عام 2015 بعد أن عمل مؤسسوه بدايةً كفريق مسرحيّ مهتم بالمسرحيّات القصيرة المصوّرة. وقد بادروا إلى استئجار مبنى على أطراف حيّ وادي الصليب، وهو أحد الأحياء المهجّرة في حيفا التي تسعى إسرائيل الآن (بل صارت في آخر المراحل) لهدم مبانيه الفلسطينيّة أو بيعها للترميم والاستخدام الإسرائيليّ. وقد افتُتح المسرح بجهودٍ تطوّعيّة هائلة للمسرحيين القائمين على المشروع، بدءاً من ترميم المبنى بأيديهم، وتجنيد المتطوّعين لتنظيفه وتجهيزه، والتنقيب عن مصادر تمويلٍ وإن شحيحة لتمكين إنتاج الأعمال المسرحيّة التي أرست للمسرح طابعاً فنياً خاصاً (تجريبياً ومختلفاً بعض الشيء) على الرغم من الوقت القصير على إقامته. واستخدم المسرح التمويل الجماعيّ عبر الانترنت لبناء مدرّج المسرح المتواضع.
وعلى الرغم من الظروف الماديّة المزرية التي تُهدد بإغلاق المسرح، إلّا أن "خشبة" أصدر الشهر المنصرم برنامجاً سنوياً غاية في الأهميّة، وسيكون من الخطأ التعامل معه كمفهوم ضمناً. فمعنى أن يطرح برنامجاً سنوياً، هو أن هذا المسرح يُصر ألّا يعيش يوماً بيوم، وأن يصقل رؤية استراتيجيّة وخطة متكاملة.. أن يتصرف كما تتصرّف مؤسسة راسخة باقية وثابتة، توحّدها رؤية وعنوان للمضامين التي تسعى إلى طرحها. وعنوان هذا العام هو "أشخاص غير المرئيين"، أي المجموعات المهمّشة بفعل هويّتها الاجتماعيّة أو الوطنيّة أو الجندريّة ــ وتُعبّر عنها بلغةٍ بصريّة موحّدة وخاصّة (عمل الغرافيكي السوريّ نهاد عويدات) وتستخدم وسائط متعددة غير المسرح، كالموسيقى والأفلام والمعارض والندوات والأدب لتعوّض عن شحّ إمكانات الإنتاج المسرحيّ الذي تطمح إليه.
نتناول تجارب نعتبرها نضاليّة من حيث رفضها للقائم وقلقها اتجاه المستقبل، ووظيفتنا أن نشخّص ظرف النشوء ومكامن القوّة والضعف، أن نُحيّي الجمال ونجادل الإشكالي.
بكلمات أخرى، فإن هذا المسرح يتعامل مع نفسه بدافع البناء المؤسساتي حتّى وإن كان يناضل (يناضل فعلاً) للبقاء حتّى آخر الشهر أو السنة، ويرى مهمّته الثقافيّة أوسع من مجرّد الإنتاج المسرحيّ. ويوازن بين الحفاظ على نشر ذائقة مؤسسيه الفنيّة المتميّزة (والتي قد لا تعجب الكثيرين) وتطويرها من جهة، وبين بناء شبكة تعاون وتفاعل مع عدد كبير من المُبدعين الفلسطينيين والعرب والأجانب من أصحاب التوجّهات المغايرة.
إن هذا الشكل من التعاون بين المشاريع الربحيّة التي تحمل مسؤوليّة وطنيّة، وبين المؤسسات الثقافيّة التي تناضل لبقاءها على قيد الحياة، هو نموذج يصعب توسيعه واعتماده كبرنامج عملٍ أساسي. وهو يعتمد، إلى حدٍ بعيد، على النوايا الشخصيّة لأصحاب المشاريع الربحيّة. ومعظم الأعمال الفنيّة المستقلّة في الداخل تعتمد على المصالح التجاريّة الداعمة. وهذا، على إيجابيّته، لا يُمكنه وحده أن يثبّت بقاءً آمناً لمؤسسات ثقافيّة تتطلّع إلى عقودٍ مستقبليّة. لا بل قد يتحوّل خطيراً أحياناً حين يكون المموّل شركة لا يهمّها إلا الربح ولا تكترث إلا بالدعاية فتتدخّل بالمضامين بشكلٍ فظ. إنما وسط القتل الإسرائيليّ للاقتصاد الفلسطينيّ، والخلل الاجتماعيّ المرعب الذي لا يترك للناس رفاهية تعاطي الثقافة فيُضيّق دائرة مستهلكي الثقافة، والدور السياسيّ غير البريء الذي تلعبه معظم مصادر التمويل غير التجاريّة.. وسط هذا كلّه تضيق المساحة، وتبقى تعاونات موضعيّة وصغيرة، لكن هامّة، تحاول أن تفسح المجال للإنتاج المعرفيّ.
قوسٌ من تحت الردم
هذه قطع من لوحةٍ ثقافيّة واسعة في فلسطين، وهي تحاول أن تعوّض عن الحالة السياسيّة البائسة التي وصل إليها المشروع الوطني الفلسطيني، فنراها تسبق السياسي بكثير. ويجب تتبّعها على حسناتها وسيئاتها دون التوهّم بأنّها تشكل بديلاً للعمل السياسي التحرّري كما تسوّق التيّارات السياسيّة التي تسعى لتقويض العمل الجماهيري. ونزيد أن هذه الحالة الثقافيّة ليست مثاليّة البتّة، لكنّها أعشاب خضراء تنبت من تحت ركام الهزائم. وليست كلّها إيجابيّة لمجرد كونها ثقافة، فالشوك أيضاً يُمكنه أن ينبت تحت الردم. وهناك في فلسطين ثقافة هدّامة أيضاً، ومتواطئة أو رجعيّة أو عنصريّة أو رخيصة أو سلطويّة.. كما في كلّ مكانٍ في العالم. ولكنّنا ههنا نحاول أن نتناول تجارب نعتبرها نضاليّة من حيث رفضها للقائم وقلقها اتجاه المستقبل، ووظيفتنا أن نشخّص ظرف النشوء ومكامن القوّة والضعف، أن نُحيّي الجمال ونجادل الإشكالي.
ومن هذا المنطلق يهتم "السفير العربي" بمثل هذه التجارب، وسيتابع عن كثب خلال الشهور القادمة بعض فعاليّات البرنامج السنوي لمسرح خشبة حول "غير المرئيين". فهذه ملامح معركة ثقافيّة ضد ظرفٍ أنشأه الاستعمار المباشر والبنيوي، وهي تبني وتؤسس معرفة بمعزل عمّا سينتهي إليه المسرح كمؤسسة.. على أمل ألّا تنتهي.