على الشارع ذاته، كان الممثلون يتحركون، يتبادلون جُملهم الحوارية، والمشاهدون يحيطون بهم منْصتين متابعين. كان عملاً مسرحياً توعوياً عن قانون الإنتخابات، أبطالُه وجمهورُه من المعتصمين النجفيين...
الشارع ذاته تحوّل في ليلة 27 تشرين الثاني/نوفمبر إلى مضمار حرب، يتسابق متظاهروه للخلاص من الرصاص بعد أن اشتعلت النيران في المقر القديم للقنصلية الإيرانية في المحافظة. 33 يوماً كاملة منذ بداية الإعتصام في 25 تشرين / أكتوبر، تميزت خلالها تظاهرات النجفيين بأنها الأكثر انضباطاً وهدوءاً. حتى أن المعتصمين هناك كانوا يتصدون لأي هتاف يدعو للعنف أو الكراهية. فجأة، في ليلة واحدة، تحوّل المشهد إلى جحيم بعد احتراق القنصلية على يد مجهولين لم يكونوا من المعتصمين، حسب ناشطين نجفيين.
دفعت النار قادة فصائل الحشد الشعبي إلى ارتجال موقف غريب: إدّعوا أن المرجع الأعلى علي السيستاني مهدد وتبرعوا بحمايته.. في وقت لم يقترب أحد من مكتب المرجع أو منزله. ثم توالت التهديدات وليدة "خيال" هؤلاء القادة (أو اكاذيبهم، لا فرق)، فارتفعت حدة الرصاص وعاد القنّاص للظهور من جديد عند ساعات الفجر الأولى. في النجف، وعلى جسر الأحرار في بغداد. لكن الأمر الأكثر بطشاً جرى في محافظة ذي قار ومركزها مدينة الناصرية. طلعت الشمس هناك لكن البنادق لم تقف: 16 شهيداً ونحو 200 جريح، وهي حصيلة قابلة للزيادة حسب تلفزيون الناصرية، جميعهم عُزّل. اكتظّت مستشفيات المحافظة بهم واصطبغت أرصفتُها بدمائهم.
كانت الناصرية مدينة ساخنة منذ الأول من تشرين الاول /اكتوبر. سقط شبابها برصاص القنّاصة وهشمت قنابل الغاز جماجمهم، وغيّبتهم عمليات الخطف، واحترقت مقار الأحزاب على يد الغاضبين كردة فعل على القتل والقمع. وكادت الأمور في أكثر من مرة تخرج عن السيطرة، فتم عزل قائد عملياتها وتعيين "أبو الوليد" بدلاً عنه. وفي عهده الذي لم يدم أسبوعاً لم يتأخر القمع ، فتم استبداله "بجميل الشمري"، ولم يتغير شيء، حتى أن محافظ ذي قار، عادل الدخيلي، وفي صبيحة اليوم – ونحن في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر - طالب رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بعزله وفتح تحقيق معه وبقية القيادات الأمنية بعد المجزرة التي شهدتها المحافظة. ولم تكن الحال في بغداد وبقية المحافظات المنتفضة أفضل من ذي قار: اعتصامات سلمية يقابلها القمع والرصاص.
في تكرار لمشاهد الإعدام الحية، اخترقت رصاصة رأسَ رجل كبير في السن في شارع التربية في الناصرية فجر اليوم 28 تشرين الثاني/ نوفمبر. كان يحاول تهدئة قوات مكافحة الشغب والتحدث اليهم. وينقل شهود عيان أنهم ردّوا عليه بالرصاص مباشرةً فأردوه قتيلاً.
جرى تخوين التظاهرات - التي مضى عليها اليوم شهران - واتهامها بالعمالة لدول الغرب. كانت تلك ذريعة لإطفاء شُعلتها. وكان كلما ينتهي مفعول اتهام يُخلق آخر جديد، فصارت أحزاب السلطة "حريصة على مستقبل الحركة التعليمية المتوقفة"، على الرغم من تدني مستوى التعليم وخروج العراق من أي تصنيف دولي معترف به، وذلك منذ 2003. ثم أصبح حرق إطارات العجلات "عبثاً بالبيئة وتخريباً للمال العام".. وآخر ما جادت به صناعة المبررات هو تهديد المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني.
ليس سهلاً على الأحزاب التي تقتسم مغانم العراق التخلي عنها. وهي في الغالب أحزاب تمتلك أجنحة مسلحة وتشترك في العملية السياسية بمختلف سلطاتها. يمتلكون أيضاً الإستعداد الدائم على إعادة خلق صدام حسين بنسخة "ديمقراطية" مدّعاة، فيعيدون إحياء أساليبه التي يتحججون بمعارضتها. تكرر غلق بعض القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام التي نقلت جانباً من أحداث التظاهرات: هي تحرف الحقيقة! بينما أبقت السلطات على قنوات أخرى - كقناة الأنوار 2 - على الرغم من تحريضها على قمع التظاهرات واستخدامها مصطلحات "غوغاء/ مخربين/ تخريبيين" ألخ.. لوصف المتظاهرين.
وفي تكرار لمشاهد الإعدام الحية، اخترقت رصاصة رأسَ رجل كبير في السن في شارع التربية في الناصرية فجر اليوم 28 تشرين الثاني/نوفمبر كان يحاول تهدئة قوات مكافحة الشغب والتحدث إليهم. وينقل شهود عيان أنهم ردوا عليه بالرصاص مباشرةً فأردوه قتيلاً. المشهد دفع الناشط والشاعر عمر سعدون إلى محاولة إنجاد الرجل المُسن، فتلقى رأسُه رصاصة أخرى...
مرة أخرى، تفشل المبررات التي يطلقها الطارؤون على السياسة والحياة في إنهاء الإحتجاجات الشعبية في العراق. مرة أخرى ينقلب مفعولها فتزداد أعداد المحتجين والمتضامنين مع الضحايا.
ليس طالب المرحلة الثانية في كلية الإعلام عمر سعدون إلا امتداد لضحايا القنّاص الذين سقطوا في ساحات التحرير والطيران والحبوبي بداية تشرين الاول/ أكتوبر. وما الرصاصة التي ثقبت رأسَه وفجعت أهله وأصدقاءه إلا جزء من أسراب الرصاص الحي التي تطير باتجاه رؤوس الأبرياء، فقط لحماية مصالح تلك الأحزاب المقدّسة، التي تعرّت من قدسيتها مع أول تخوين للشباب المنتفض صدر من قادتها.
مرة أخرى تفشل المبررات التي يطلقها الطارؤون على السياسة والحياة في إنهاء الإحتجاجات الشعبية في العراق. مرة أخرى ينقلب مفعولها فتزداد أعداد المحتجين والمتضامنين مع الضحايا. ولا شيء معلوم في غد الحياة العراقية، غير أنهم سيعيدون الكرّة ويصنعون ذرائع جديدة لقتل الناس. وما على المحتجّين إلا الموت في "العراق الجديد"، عراق أمراء الطوائف وتجار الفساد.
بالمقابل، يهدر نهر الشباب في العراق بنشيد "موطني". هؤلاء هم طلبة جامعات بغداد، قرروا منذ أيام الانضمام الى المنتفضين في ساحة التحرير فساروا باتجاهه، معلنين أنهم جزء من المجتمع... الجـلال والجـمال والســناء والبهاء فـــي ربــاك فــي ربـــاك، والحـياة والنـجاة والهـناء والرجـاء فــي هـــواك فــي هـــواك!