العراق كلّه بلون الغرق

 ".. ضيق البلاد التي تكدست على صدرها الكوابيس"                                                                سركون بولص - ماذا تعمل؟ - باحث ومفكّر - بأي اختصاص؟ - باحث عن عمل،
2015-09-17

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
"أخ"، عمل مشترك بين تمارا عبد الهادي وسندس عبد الهادي-العراق

 ".. ضيق البلاد التي تكدست على صدرها الكوابيس"
                                                               سركون بولص
- ماذا تعمل؟
- باحث ومفكّر
- بأي اختصاص؟
- باحث عن عمل، ومفكّر بالهجرة.
هذه إحدى حوارات التعارف ـ الساخرة - بين شاب وفتاة جرى تداولها في الأشهر الأخيرة في العراق على مواقع التواصل الاجتماعي، دلالة على سيطرة فكرة الهجرة على الشبّان في بلاد ما بين النهرين، والمتزامنة مع أزمة اقتصادية إثر إعلان الحكومة العراقيّة التقشّف بسبب هبوط أسعار النفط، الذي يعتمد عليه العراق بشكل كامل في إدارة اقتصاده، وارتفاع كلفة الحرب على تنظيم "داعش" الذي يقضم ثلث مساحة البلاد.
وإن كان النازحون من المناطق الواقعة تحت سيطرة "داعش" هم الأكثر "حاجة" للوذ بجلدهم تمسكاً بالحياة، ويقدّرعددهم اليوم بـ3.3 ملايين فرد، إلا أن الهجرة باتت هاجساً اجتماعياً عاماً في السنة الأخيرة في أغلب المُدن العراقية، إذ أخذت سيرتها تدور على لسان الجميع، وكأنّهم على يقين بأن المستقبل الذي ينتظرهم هنا قاتم، ولا سبيل للعيش سوى الهجرة. هكذا يتقصى العراقيون اليوم جغرافية أوروبا وطُرقها، ويعرفون مسالك الوصول الأسهل كُلفة والأقل تعباً وخطورة إلى ألمانيا وفنلندا والنرويج وبلجيكا. يعرفون مسافات البحر بين سواحل تركيا واليونان، يشخّصون الفوارق في التعامل بين أجهزة الشرطة الأوروبيّة المنتشرة على حدود الدول، يعرفون حتى أين يكمن قطّاع الطرق، وما الذي يجب عليهم حمله، وما يحتاجونه من نقود زاداً لرحلتهم. يعطون نصائح بالتوقيتات الأفضل للهرب بالشهر واليوم والساعة، فضلاً عن ترتيب خارطة للنجاح والفشل بنسب مئوية.

الطفلان المظلومان!

هاجس الهجرة صَوَّب بصر وبصيرة العراقيين بعيداً عن مجتمعاتهم المنقادة خلف ثقافة المظلوميّة التي رسختها الأحزاب السياسية طيلة العقود الماضية، فما عادوا يسألون لماذا نهاجر.. بل متى ومن يأخذنا. ومع تدفق اللجوء السوري إلى أوروبا، تحضر ثقافة المظلومية إلى المشهد العراقي لتعبِّر عن غياب المهاجر العراقي من الصحافة العربية، والغرق الذي يسود مصير العراق منذ عقود، قبل الغرق الذي يطال العراقيين وغيرهم في رحيلهم إلى المنافي. هكذا تذمر العراقيون من إهمال أبناء جلدتهم في الحادثة التي مات فيها الطفل إيلان الكردي غرقاً، إذ تبيّن أن طفلين عراقيين غرقا إلى جانب إيلان. ضجّ الجميع بالحديث عن إهمال الطفلين العراقيين في وسائل الإعلام، والاهتمام بالطفل السوري. بيد أن أحداً في العراق لم يتساءل عن الأسباب التي دفعت بوالد للمجازفة بعبور البحر مع طفليه وزوجته؟ تتلخّص قصّة الوالد بفقدان كرامته ورزقه، فهو خريج جامعة لم يجد عملاً مما أضطرّه إلى الشغل كسائق تاكسي، إلا أن القوّات الأمنية العراقية اشتبهت بعائدية سيارته إلى مجموعات إرهابيّة فاعتقلته، فاضطّر إلى دفع مبلغ مالي للقوّات الأمنية لإطلاق سراحه على الرغم من أن التحقيق برَّأه من تلك التهمة!

الهجرة.. اليوم وأمس

ليست الهجرة بجديدة على العراق وأهله، ولكن سببها في الأصل كان سياسياً، منبعه الخوف من بطش الأنظمة الحاكمة. كان الجميع بانتظار سقوط تلك الأنظمة للعودة. كان لديهم أمل، ولم يكن خيارهم البحث عن أوطان بديلة، وإنما هي منافٍ يلتاعون فيها، يسمعون أغانيَ ويبكون. تصير مطارح هجراتهم مؤقتة حتّى تحين ساعة العودة، حتّى أنّهم لا يأخذون أسماءهم معهم ويحتفظون بجيوبهم بمفاتيح بيوتهم، فحين يخرجون من الحدود يحملون أسماء وكنى جديدة ينادون بها بعضهم بعضاً. بهذا الشكل، عاد الكثير من العراقيين بعد سقوط النظام الديكتاتوري في نيسان / أبريل عام 2003.
أما الهجرة اليوم، فواقعها مختلف تماماً، يخيّم غياب الأمل على الجميع. صحيح أن الموت المستشري في كل شوارع البلاد سببٌ في الكثير من الهجرات، لكن الصحيح أيضاً إحساس هؤلاء الشباب بأن بلادهم ليست لهم ما يتسبّب بالهروب الجماعي هذا: لقد سُرِقت البلاد من قبل الأحزاب والمجاميع المسلّحة، وهؤلاء يملكون سلطة الاستمرار، يهندسون القوانين وفق مقاساتهم لتسيير فسادهم والسيطرة على الموارد والأراضي والمنازل، بل والساحات العامّة والشوارع. هؤلاء يحتكرون حتّى الخطابات الوطنيّة والدين والصح والخطأ، ولهؤلاء دعم إقليمي ودوليّ يُبقيهم في مراكز إدارة البلاد وخنقها، وجعل سياستها التجويعية والترويعية للسكان ثابتة ولا متحرّك فيها.

اليأس بالأرقام

هذا اليأس الذي زرعته الجماعة السياسية الحاكمة في نفوس السكّان، يدفع 15 ألف عراقي كل يوم للحصول على جواز سفر، ويدفع كذلك نحو 3 آلاف شاب للهجرة إلى تركيا ومنها إلى بحر إيجه ومن ثَمّ إلى أوروبا، عبر 15 رحلة يومية تنطلق من مطارات العراق إلى تركيا وتحمل على متنها أعداداً من المسافرين يمثل الشباب نحو 70 في المئة منهم، بالإضافة إلى الرحلات البريّة عبر الحدود التركيّة مع أربيل. شباب حالمون بحال أفضل.. بمواطنة وبلاد لا تُفرّق بينهم على أساس طوائفهم ولا قومياتهم. ولا تقتصر هذه الهجرات على طائفة أو طبقة اجتماعية، إذ يسافر الشباب غير المتعلم أسوة بالمتعلم. هكذا حملت موجة الهجرة الأخيرة أغلب شبّان المسرح العراقي الذين حصدوا جوائز عربيّة وعالميّة. أرسلوا صورهم لنا - نحن الجالسين في المقهى - وهم على يخت يلبسون سترات نجاة ملوّنة ويؤشرون بأصابعهم إلى يابسة اليونان. هجرة الشباب تحديداً أدت الى تفكك الروابط الاجتماعية في العراق، وقضت على رغبة هؤلاء في بناء عائلة والاستقرار في بلادهم. العديد من الأشخاص طلّقوا زوجاتهم ويمموا وجوههم صوب بحر أيجه، وآخرون تركوا وعوداً لعائلاتهم بأنهم "سيسحبونهم" إلى دولهم الجديدة. يجري اليوم أيضاً تداول الرسائل التي تركها الشبّان لحبيباتهم المليئة بالوعود. وعد "لمّ الشمل" على وجه التحديد، ووعد الاستمرار بإرسال الهدايا حتى تحين ساعة الذهاب إلى أوروبا.. الحلم. الأمل يكبر في الخارج ويضيق في الداخل.
أما الأحزاب السياسية المشغولة بالتخطيط للإجهاز على التظاهرات التي تعم العراق منذ شهرين، فليس لديها الكثير لتقوله. لا تشغلهم البتّة الإحصائيات عن الهجرة أو تقصي مصائر مواطنيهم اللائذين في البحار. وأسهل ما يُمكن اللجوء إليه حيال هجرة كهذه، خاصّة أنها تشمل جميع الطوائف والقوميّات، هو تقديم نظرية المؤامرة بخصوص كل الأحداث التي أدت إلى احتضار بلاد ما بين النهرين: "إنه مخطط إسرائيلي لتفريغ العراق من مواطنيه الشباب".. وثمّة ما هو أسخف من ذلك. فهناك إشاعة مُررت في الشارع مفادها أن هذه الهجرة هي مخطط لتفريغ العراق من شبابه لتسهيل دخول تنظيم "داعش" إلى بغداد!
حال العراق اليوم هو الانسداد بعينه، فهل يستفيق الساسة، كما تقول طرفة متداولة، ولا يجدون أحداً ليحكمونه؟

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...