"القدس عالية فلماذا يجب أن يبتلعها الطوفان؟"
سداسيّة الأيام الستّة، إميل حبيبي
"تسع سنوات.." كان هذا الحكم في قضية الستّ السبعينية فاطمة ك. الذي أصدرته المحكمة المركزية الإسرائيلية في القدس، الواقعة في نهاية شارع صلاح الدين الأيوبي، بطل يوم موغل في البعد. على مقاعد خشبية في قاعة صغيرة، جلست الستّ فاطمة تتابع جلسة المحكمة الجارية باللغة العبرية وهي تتمتم بآيات قرآنية كمن ينتظر حكماً في قضية اعدام، بدت عيناها غائرتيْن لم تعرفا النوم منذ أيام. شعار شمعدان دولة اسرائيل المعلق خلف مجلس القضاة كان مائلاً قليلاً إلى اليمين.. ديكور المحكمة متروك للصدفة. يعود ثلاثة قضاة من استراحة الغداء، ليحكموا بأن تسع سنوات كافية لأن تقضي الستّ السبعينية ما تبقى من عمرها في البيت، أيّ الغرفتان الصغيرتان المغطاتان بألواح زينكو الواقعتان في أحد أحياء القدس "الشرقية"، في قضية اخلاء "رفعتها اسرائيل ضدها باعتبارها متعدية على أملاك الدولة".
الادعاءات القانونية كلها لن تؤتي أُكْلها، كون الستّ فاطمة "متعدية" على البيت، بقدر ما سيفعل استعطاف هيئة المحكمة، ما يحدو بمحامي الدفاع إلى التمسك بكون المرأة مريضة وأرملة ومتقدمة في العمر، مستعيناً باحصائيات تشير إلى أن معدل عمر المرأة في اسرائيل هو أربع وثمانون عاماً، عليه فلم يبق لها الكثير من العمر.. حرام أن يخرجوها الآن! لنتخيل للحظة أن تقف إحدانا أمام ثلاثة رجال لا يتقنون لغتها يعاينون غضونها للتأكد من عمقها ويقلّبون عمرها كمن يتفحص نعلاً بكفيه ليجسّ صلابة جلده! حينما ترجم المحامي لها مفاد الجلسة قالت: "تسع سنوات! بزيادة! يكثّر خيرهم.. لا أحتاج أكثر لكي أقضي هالعمر" وكأن الحياة واجب تؤديه صاغرة.
القانون لا يقتل - أي أن عنفه لا يتمثّل بالضرورة بهذا السيناريو- لكن القانون ولا شكّ يقصّر العمر.. ذاك هو زمن الناس الذي يقيسونه بوجودهم في المدينة المحتلة. لذلك فتسع سنوات باتت تعدّ انتصاراً – هائلاً - في مدينة فارعة التاريخ كالقدس. إذ في بيت يبعد مئة متر عن بيت الستّ فاطمة كان الانتصار أضيق.. ثلاث سنوات. وكذا هو مصير البيت الذي يجاوره والذي سينتهي زمنه مع قدوم الربيع في آذار/مارس القريب. هناك، بعيداً عن مراسم احياء ذكرى النكبات والنكسات المتراكمة، يقف الفرد يعدّ زمانه تحت الاحتلال وحيداً.
الماء منبعاً للسيادة
ولكن أين يتربص الزمن في القوانين التي "تحسّن" ظروف المقدسيين تحت الاحتلال؟ ولماذا يهمنا هذا السؤال؟ عند دراسة القانون أو نقده، غالباً ما نتطرق إلى القوانين التي تنهينا عن فعل هذا أو ذاك، وتحديداً حينما تمسّ بحق ما، ولكن نادراً ما نتطرق إلى ما يتيحه لنا القانون. وذلك هو الوجه الآخر لعملة السلطة حيث تكمن القوة التي تحرك المجتمع.. فما بالكم بالمجتمعات الاستعمارية!
حينما احتلت اسرائيل الضفة الغربية وغزّة في العام 1967، وقفتْ أمام خيارين بالنسبة للقدس: إما اعلانها منطقة محتلة أسوة بباقي المناطق المحتلة فيطبّق فيها القانون العسكري، أو تُعلن كجزء من اسرائيل التي سبق واعترف العالم بسيادتها كدولة في العام 1948، وبذلك لا يُخشى من خسارة القدس "مرة أخرى" في المستقبل. ظلت القيادة الإسرائيلية ثلاثة أسابيع حائرة في كيفية الاستيلاء على القدس، فليس من السهل "لهف" مدينة بشهرة ومكانة القدس من دون ضجيج. في 27 تموز/يوليو، جاء الحلّ ببند مؤلف من خمس عشرة كلمة، تم ادخاله على القانون الذي أعلن سيادة القانون الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلة العام 1948، ليعلن مرة أخرى تطبيق القانون المدني الإسرائيلي هذه المرة على القدس العربية التي كانت واقعة تحت السيادة الأردنية، بالإضافة إلى قرابة 70 ألف دونم من القرى والمناطق المحيطة.
تحضّر الإسرائيليون للرد على أي احتجاج قد يأتي، فقامت هيئة الرقابة الصحافية الإسرائيلية بمنع الصحف من التطرق إلى تعديل القانون قبيل سنّه، وطولبت بعدم اثارة أي ضجيج حول تعديل القانون والاكتفاء بالإشارة إليه بأحرف صغيرة منزوية في صفحاتها. ولمّا احتجت الأمم المتحدة وأدانت ما اعتبرته "تغيير الوضعية السياسية للقدس"، ردّ الإسرائيليون برسالة في العاشر من تموز/يوليو 1967 أبرقها وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك آبا ايبين، مفادها أن كل الذي حدث هو أن القدس العربية قد أصبحت في حفظ وصون بلدية القدس الإسرائيلية، وذلك لتسيير شؤون أهلها الذين فرّق الزمان ما بينهم وبين الشقّ الغربي لمدينتهم!
كانت إحدى ادعاءات ايبين بأن القدس عالية تقبع على جبال "يهودا" وبذلك فهي تعاني نقصاً مستمراً في الماء، وعليه فإن توحيد البلدة القديمة مع الشق الغربي قد مكّن من مدّها بضعفيّ كمية المياه التي وصلتها في السابق! هكذا وتحت عنوان الخدمات المدنية، أسهب ايبين في تعداد الخدمات الحياتية التي ستحرص بلدية القدس على توفيرها لأهل المدينة "الموحدة"، من مستشفيات وعيادات مروراً بمخصصات الضمان الاجتماعي التي "ستُمنح لأهل المدينة لأول مرة"، وانتهاءً بالمدارس التي تعدّ الأيام لتُفتح أبوابها في مطلع السنة الدراسية القادمة على الأبواب، ناهيك أن التعليم الإلزامي صار فرضاً على الجميع.
لمّ يأت ايبين على ذكر بلدية القدس العربية برئاسة روحي الخطيب، والذي أحضره الإسرائيليون بعد ثلاثة أيام من سنّ التعديل إياه إلى فندق غلوريا المجاور لمبنى البلدية العربية ليعلموه بقرار "حلّ" البلدية واحلال صلاحية البلدية الإسرائيلية مكانها. وعندما طلب الخطيب قراراً مكتوباً، تناول أحد الساسة الإسرائيليين والذي كان يتقن العربية منديلاً ورقياً وكتب له بالعربية النص الشفوي وأعطاه إياه!
كما تفادى الإسرائيليون في مراسلاتهم تلك ذكر السيادة الإسرائيلية، إذ ما حاجتها ما دامت تمارس يومياً مراهِنة على أن الزمن كفيل بفرض حقائق على الأرض بفعل سلطة القانون التي تمنح صلاحية لأي موظف عابر في بلدية القدس الإسرائيلية أو محاكم القدس أو مراكز شرطتها أو أي سياسي مثل ايهود أولمرت رئيس بلدية القدس الإسرائيلية السابق (المُدان بقضايا رشى واختلاسات من العيار الثقيل تتعلق بمشاريع عمرانية عملاقة بالقدس)، للسيطرة على الواقع المعيشي اليومي، وبذلك تغيير تقاسيم المدينة وملامح مجتمع فلسطيني إلى الأبد.
غاية المفرط في سلمه.. كغاية المفرط في حربه (المتنبي)
"من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس، اللاجئين، المستوطنات، الترتيبات الأمنية، الحدود، العلاقات والتعاون مع جيران آخرين، ومسائل أخرى ذات الاهتمام المشترك" – المادة الخامسة لاتفاقية أوسلو، أيلول/سبتمبر 1993.
إذن هكذا جُردت القدس – واللاجئين بجموعهم - تماماً من ملامحها كمجتمع قائم ينتج ويستهلك ثقافة وسياسة وقيماً ومادة، لتؤجل كمن يؤجل فروضاً مستعصية. بلى.. ذكرت الاتفاقية أهل القدس في ملحقها الأول، حيث تتيح لسكانها الفلسطينيين المشاركة في عملية الانتخابات التي ستجريها سلطة "الحكم الذاتي" بموجب اتفاقية أوسلو للمجلس التشريعي الفلسطيني.
وحينما حلّ موعد الانتخابات الأولى للمجلس التشريعي الفلسطيني العام 1996، بدأ الإسرائيليون والفلسطينيون بالتشاور في كيفية تسيير العملية الانتخابية. فما كان من إسرائيل - التي كان من المفهوم أنها ستعرقل سيرورتها تثبيتاً لسيادتها الفعلية في المدينة - إلا أن اشترطت أن يصوت المقدسيون عبر وضع مغلفاتهم في مكاتب البريد الإسرائيلية القائمة في القدس. إمعاناً في ذلك، رفضت أن تُدعى الصناديق التي تلقى بها المغلفات بـ"صناديق اقتراع" وانما بـ"حاويات"، ثم اشترطت أن يكون الشقّ الذي يُلقى المغلف عبره في واجهة الصندوق بدل أن يكون من الأعلى، لكي يبدو كصندوق بريد لا صندوق اقتراع! في النهاية جُعِل الشقّ من أحد الجوانب لتبديد ملامح كلا الخيارين!
إذاً ما يقبع في لُبّ الخطاب السياسي الفلسطيني هو المنطق الناظر إلى القدس كمكان ثابت لا متغير، كأنما مقولة "القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية" المردَّدة في كل مناسبة وعلى كل منبر تحصّنه كحرز من كل شر. هكذا غابت عن الاتفاقية التفاصيل التي تصوغ حياة المقدسيين تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 1967، وعلى رأسها ألوف البيوت المهدّمة وإلغاء صلاحية آلاف هويات الاقامة للمقدسيين وطردهم من المدينة، ناهيك عن النسب العالية جداً من الفقر والبطالة والتسرّب من المدارس، علماً بأن المعلومات كانت قائمة وحاضرة لمن يشاء. ولكن أسوة بكل ما يتعلق بأوسلو ومفاوضيها، فالتفاصيل على الأرض لم تكن مهمة، ولا حاجة لخرائط أو احصائيات سكانية واقتصادية وغيرها. كذا كان مصير القدس التي ما كان لمثل هذه الاتفاقية أنّ تبدل من حال أهلها أو اللاجئين المؤجلين، وحال من شملتهم الاتفاقية ليس بأفضل.
لم يتدفق أهل القدس زرافات زرافات إلى صناديق الاقتراع، لا الفلسطينية منها ولا الإسرائيلية، وهم الذين "يمتازون" بحقهم بالتصويت لسيادتين: بلدية القدس الإسرائيلية والمجلس التشريعي الفلسطيني. أما الأولى فحاضرة تكتم أنفاسهم في مدينتهم، وأما الثانية فتلوح من بعيد وأعضاؤها ممنوعون من الوصول إلى المدينة. بدلاً عن ذلك، تحافظ السلطة الفلسطينية على رمزية القدس عبر فعاليات شتى تقوم بها في رام الله، مثل اللقاء مع قناصل تقع مقراتهم في القدس ومنح وسام القدس لمختلف الشخصيات وسنّ قانون القدس الفلسطيني الذي يقرّ أن المدينة هي مكان الاقامة الدائم للسلطات الثلاث.. ذات يوم.
القدس ليست كليشيه
عندما خرجت الستّ فاطمة ك. من المحكمة ذلك اليوم، قالت للمحامية الإسرائيلية التي ترافعت ضدها، بعبرية مكسرة لملمتها من شظف الحياة تحت الاحتلال: "أنا كنت في بيتي قبل اسرائيل". إن هذا الزمن الذي "حوّشته" الستّ فاطمة وآلاف غيرها، هو القشة التي يقبض عليها الناس في هذا الطوفان، والذي لا يستطيع أي قانون الامساك به، إذ لا يتقاطع مع أي زمان سياسي.
زمن الناس الأصيل لا يعترف بالسياسة ولا بالقوانين ولا بالاتفاقيات الواهية.. إنه أشبه باليقين الذي هو وحده القادر على شرح منطق الوقوف في وجه كل هذا الكمّ من الظلم كل يوم. بعيداً عن الشعارات الرنانة والبطولات والكليشهات التي أنست العالم أن القدس، سواء كانت تلك المحتلة أم تلك المقدسة، مكان يعيش فيه ناس. حينما يقول لكِ أحدهم – وقد فعل - "لو هدموا البيت بنْصُبْ بيت شَعَر وبقعد فيه"، فهو لا يقول ذلك للكاميرا، بل لنفسه.. حتى لا يأتي زمن ينظر فيه إلى الوراء متحسراً على تبديد ولو يوم واحد في مدينة اسمها القدس.