تتلخّص المصيبة الحقيقيّة التي وقعت في الخامس من حزيران/ يونيو 1967 بأنّها تثبيت لنتائج النكبة. هزيمة مشروع سياسي نهضويّ الملامح يرفض التسليم بنتائج التطهير العرقي الذي وقع لفلسطين في العام 1948. قبلها، كانت اللحظة التاريخيّة المسمّاة بالنكبة لا تزال مفتوحة، أما بعد احتلال شرق القدس والضفة الغربيّة وقطاع غزّة وسيناء والجولان، فقد تحوّل هاجس الرجوع عن نتائج "النكسة"، والمطالبة بالانسحاب الإسرائيلي من "المناطق المحتلّة"، إلى إرادة سياسيّة ومشروع سياسي بحد ذاته، حاولت الأنظمة السياسيّة العربيّة "الثوريّة" أن تمضي فيه رداً على الصفعة التاريخيّة التي تلقّتها وهزت قاعدتها الشعبيّة.
حوّلت الهزيمة الواقع الفلسطيني الناشئ بعد التطهير العرقيّ من حالة مؤقّتة إلى معطى ثابت في المعادلة السياسيّة والعلاقة مع إسرائيل. وبطريقها، أنشأت حالة فيها عالمين متوازيين داخل وطن واحد وتحت سلطة واحدة، بينما تختلف في كلّ واحد منهما الظروف الاجتماعيّة، والمكانة القانونيّة للناس، وهويّة "الأغلبيّة"، وأدوات القمع والإرادات السياسيّة لأبناء الشعب ذاته. عالمان متوازيان يختلف الواقع فيهما بحسب سنة البداية / سنة التكوّن / سنة الاحتلال.
يفصل بين هذين العالمين خط أسمه الخطّ الأخضر. على بعض صفحات الانترنت نجد هذا التعريف البسيط: "هو الخطّ الفاصل بين الأراضي المحتلّة العام 1948 والأراضي المحتلّة العام 1967". تعريف بسيط وواضح وصحيح من حيث توصيفه للواقع. لكنّ كتّابه لم ينتبهوا، على الأرجح، لما يحمله التعبير من غرابة، إذ يمكن له أن يفتح نافذة إلى ما هو أوسع من السياسة. "الحدود الفاصلة بين أراضي 1967 وأراضي 1948" جملة لا ينقصها أي شيء لتدخل في أحد كتب الخيال العلمي التي تتناول فكرة الترحال عبر الزمن.. وهذه ليست صدفةٌ.
الآن المنتصِر
نهاية القرن التاسع عشر، كان الاستعمار الأوروبيّ في ذروة وعيه لنفسه. في العام 1884 كان جول فيري رئيساً لمجلس الوزراء الفرنسي (ووزيراً للفنون الجميلة) حين أشهر تصريحه في عز بهاء الجمهوريّة الفرنسيّة الثالثة: "للأعراق الأسمى أحقيّة على الأعراق الأسفل، وعليهم واجب تمدين من هم أدنى منهم". هذه هي أيديولوجيّا الجريمة الاستعمارية بكلمات بسيطة، ولها علاقة قد تكون غريبة بما حصل في فلسطين العام 1967.
ولأنها ذروة وعي الأوروبيّ لاستعماره، كانت لنهاية القرن التاسع عشر الحصّة الأهمّ في تطوّر كلّ ما يتعلّق بفكرة الترحال عبر الزمن في الحيز الأدبيّ. كانت آلات الثورة الصناعيّة تقوى على كلّ شيء، وكانت قدرتها على اختصار الوقت في كل ما يفعله الإنسان تطرح بقوّة أسئلةً عن قدرة الميكانيكيّات على تحدّي الزمن والتغلّب عليه، سباقه نحو المستقبل وإعادة استخدام ما مضى منه. في تلك السنوات، صدرت ثلاث روايات هامّة في هذا المجال: في العام 1887 أصدر الإسباني ريمباو رواية "El Anacronópete"، وهي أوّل رواية تعتمد حبكتها على آلةٍ للسفر عبر الوقت. بعدها، في العام 1889 أصدر مارك توين روايته الساخرة "يانكي من كونيتيكت في بلاط الملك آرثر"، ثمّ في 1895 صدرت الرواية الأشهر من بين الثلاث، "ماكنة الوقت" لهربرت جورج ويلس.
تشترك هذه الروايات الثلاث في أمور كثيرة، لكنّ الأهمّ من بينها هو اعتمادها على أرضيّة زمنيّة صلبة تبدأ منها الأحداث. لا تبدأ الحبكة من فراغٍ زمنيّ ولا من احتمالات غير مؤكّدة. مهما كان الترحال في الزمن مشاكساً وعنيفاً ومتطرّفاً، فهو يعتمد دائماً على "الآن" المُطلق التأكيد، "الآن" المُنتصر: نقطة ما في التاريخ ثابتة لا إمكانيّة للتشكيك في وجودها، بينما من الممكن التشكيك في مكوث الشخصيّات في الماضي أو في المستقبل. ينطلق مارك توين (ويبدأ) من شجار بين مهندس وعامله في المصنع، أما بطل "آلة الزمن" فيبدأ رحلته إلى العام 30 مليون من مائدته المتخمة في ريتشموند نهاية القرن التاسع عشر. لكنّ التعبير الأقوى عن حضور "الآن" المنتصِر والمطلق التأكيد في الرواية فهو لريمباو. المجموعة التي يبعث بها المؤلف إلى القرن الثلاثين قبل الميلاد، تنطلق من أقوى رمزيّات الحاضر في ذلك الزمان: المعرض العالمي في باريس 1878، حدثٌ تاريخيّ عملاق احتوى عصارة الحداثة، احتفل فيه الفرنسيّون بنهضة الجمهوريّة الثالثة (وعرضوا فيه رأس تمثال الحريّة). لقد اعتبروا هذه السنوات حجر الأساس في روايتهم، ومنها انطلقوا إما ليعيدوا كتابة التاريخ وإما ليؤكّدوا سير المستقبل. للمصادفة، في العام 1878 ذاك، شُيّدت أول مستعمرة صهيونيّة على أرض فلسطين.
تعتمد هذه الأعمال الأدبيّة بالأساس على التوتّر بين اللحظة الزمنيّة الأكيدة واللحظة الزمنيّة المحتملة. التشكيك في إمكانيّة السفر عبر الوقت حاضر دائماً، والتشكيك في حقيقة التواجد في أزمنة أخرى حاضر دائماً، وهو جوهر الصراع في الحبكة. أما المكان الأوّل فلم يكن فيه شكّ، كان منتصِراً ثابتاً. ومثلما يربط جول فيري بين سموّ العِرق ومصدره الجغرافيّ، يرتبط السموّ في الأعمال الأدبيّة هذه على الزمان المنتصِر. مارك توين الساخر مهمّته الأساسيّة أن يعلّم (تماماً مثلما يريد فيري) أهل القرن السادس أسرار الصناعة الحديثة، وهربرت ويلس يفكّر كيف يعلّم "وينا" التعيسة المتخلّفة طرق التأقلم مع قرنه التاسع عشر، ليأخذها معه وينقذها من آكلي لحوم البشر.
الآلة الصهيونيّة للسفر عبر الزمن الفلسطينيّ
في الخامس من حزيران 1967 سافر الصهاينة عبر الزمن. اجتازوا الحدود مثبّتين بهذا مكانهم وزمانهم الأوّل – 1948 – في آنٍ كمُطلق التأكيد، حين هزموا المشروع السياسيّ المناهض للنكبة ولإقامة كيان سياسيّ صهيونيّ في فلسطين. في تلك اللحظة، تحوّل الكيان القائم على الأراضي المحتلّة العام 1948 من "مستعمرة" للأوروبيين، إلى دولةٍ قائمة بحدّ ذاتها، تملك مستعمرة لها خلف حدودها "مطلَقة التأكيد"، في مناطق تُسمى الضفّة وغزّة والجولان وسيناء. الخطّ الأخضر الذي كان يُسمى خط وقف إطلاق النار أو خطّ الهدنة، صار حدوداً رسميّة شرعيّة تُطالَب إسرائيل بالعودة إليها كتنازلٍ سياسيّ. لم يعد أحد يذكر أنها حدود "الهدنة" المعلنة في 1949، وطلّق الاحتلال علاقته بالنكبة، والهدنة تلك صارت قدراً. هزيمة حزيران هي اللحظة التي تحوّلت فيها إسرائيل الى دولة كلاسيكيّة "مُطلقة التأكيد" من منطلق تشبّهها بالاستعمار الكلاسيكي لدولة أوروبيّة طبيعيّة. وصار الشأن شأن انسحاب إسرائيل والتزامها بأن تتواجد في المكان / الزمان الأصليين – الأراضي المحتلّة العام 1948.
فالمطالبة بالانسحاب تعني التسليم بشرعيّة وجود المُنسحِب بالمكان الذي ينسحب إليه. هكذا تحوّلت القضيّة الفلسطينيّة، في الخامس من حزيران 1967، إلى صراعٍ على الحدود بدلاً من أن تكون صراعاً على أصل وجود مشروع عنصري واستعماري في فلسطين يجب أن يُفكك حتّى لو لم يكن لديه مطامع بالسيادة على الأرض والجغرافيا. فالكيان الصهيوني يجسّد، أولاً وأخيراً، أيديولوجيّة أوروبيّة استعماريّة بمعزل عن كميّة مساحة الأرض التي استولى ويستولي عليها. هنا، يجب علينا استبدال الفهم المكانيّ لإسرائيل بالفهم الزمانيّ. علينا الآن أن نضع الخرائط والجغرافيا جانباً، ونركّز في لحظة تكوّن كيان سياسي عبر عمليّة طويلة من بناء المؤسسات - اللحظة التاريخيّة التي تحوّلت فيها الأيديولوجية العنصريّة إلى دولة.
اعتبار القضيّة الفلسطينيّة قضيّة النضال لتحرير الأرض من السيطرة الصهيونيّة سيُفضي بنا بالضرورة إلى جدل التنازلات، والنسب المئويّة من المساحات، والانسحابات، وتبادل الأراضي، وتصوّر عسكريّ منزوع الفكر لهزيمة الصهيونيّة باعتبارها استرداد الأرض ممن سرقها. إنما اعتبار النضال الفلسطيني نضالاً ضد تحوّل العنصريّة، بمفهومها الاستعلائي الاستعماريّ، لمؤسسة ذات سيادة هو ما يجعلنا نقرأ النضال الفلسطيني كنضال لتحطيم منظومة عمل تنتج عنها سرقة الأرض بشكلٍ حتميّ، كحاجة تعزيز ماديّ لحسّ الاستعلاء العنصريّ عبر السيطرة على الموارد.
الاستعمار يبدأ التاريخ
بسبب الهزيمة، نجح الكيان الصهيونيّ في حصر الجدل حول شرعيّته بحدود المناطق التي احتلّها في العام 1967. ساهم بذلك إبقاء الفلسطينيين في الضفة وغزّة من دون مواطَنة بينما فُرضت المواطنة على فلسطينيي الداخل، ضمّ القدس، استمرار مسلسل الأحداث على الجبهة المصريّة من حرب الاستنزاف حتّى كامب ديفيد مروراً بحرب أكتوبر، الانتفاضة الأولى التي تركّز مُطلق خطابها على الاستقلال الفلسطيني في الضفة وغزّة، وصولاً لاتفاقيّة أوسلو. هذه الأحداث كلّها أبقت 1967 في مكانة اللحظة الزمنيّة المحتَملة والمتراوحة وغير المؤكدة، بينما مكانة 1948 هو في اللحظة الزمنيّة الأكيدة.. النكبة التي لا يمكن نفيها. واعتماداً على هذا التوتّر، صاغ الإسرائيليّون روايتهم، ومن هذه النقطة هم يفعلون ما يفعله المسافرون في الزمن: يكتبون التاريخ الذي يريدونه، ويفرضون سطوتهم على احتمالات المستقبل.
قوّة الاستعمار الاستيطاني تكمن في أن يختار النقطة الزمنيّة التي يبدأ منها التاريخ. من هنا تبدأ الحقيقة. ومن هذه النقطة يبدأ القانون بتطبيق نفسه. ففي إسرائيل، خلافاً لأنظمة فاشيّة أخرى، انتهى التحريض الشعبوي العنصريّ إلى قوانين نظام سياسيّ فاشيّ، وقوانين النظام السياسيّ الفاشيّ تحوّلت إلى إبادة جماعيّة وتطهير عرقيّ. أما في فلسطين فقد أتت القوانين والنظم الإداريّة لتثبّت حالةً من التطهير العرقيّ بشكلٍ لا يعود فيه التاريخ إلى الوراء، وكان العام 1967 هو نقطة التحوّل في تثبيت إسرائيل كدولة تسمح لنفسها بأن تناقش احتلالها. تتحرر من القلق على أسباب وجودها، فتتمكن من التناقش في داخلها على الامتيازات الزائدة كالاستيطان في غزّة أو سيناء مثلاً. أما الاستيطان في يافا فقد انتهى النقاش حوله إلى غير رجعة. هذه اللحظة التي ولدت فيها، إضافةً إلى تكوّن العنصريّة كنظام سلطة، قدرة الإنسان الإسرائيلي على أن يتحرر من كونه فرداً من مجتمع مستعمِر، وأن ينشئ نقاشاً بين أطياف الوجود الاستعماري ليس على جوهر امتيازاته إنما على حدودها. أما نحن فورَّطتنا هزيمة حزيران بالأسئلة المتعلّقة بالأرض كمساحة وليس كمادة للفعل الإنسانيّ، وأودت بنا إلى استجداء نصف دولة على عُشر وطن، متفاعلين بهذا مع العدو في نقاشه حول الحدود الجغرافية لامتيازاته، بدلاً من صراعه على جوهر امتيازاته العنصريّة.