خفة ترامب التي لا تُحتمل

البارحة أعلن ترامب أنه "لولا السعودية لكانت إسرائيل في ورطة كبيرة"، ولكنه لم يستطرد في شرح هذا الحكم المقتضَب حتى الآن، والأمل أن يكشف أكثر في مقبِل الأيام.
2018-11-23

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
محمود الداوود - سوريا

الرئيس الأميركي يفتتح عهداً جديداً في علم السياسة تجعل من آراء مكيافيللي في "الأمير" (وسواه من نصوصه) لعب أطفال: هل قال الفيلسوف الذي عاش في عز إزدهار عصر النهضة الاوروبية "ما هو مفيد فهو ضروري"؟ ترامب يقول ذلك بشكل أوضح وبامثلة عملية تطبيقية! وبالتأكيد من دون أن يقرأ أعمال الفيلسوف الايطالي، وبالتأكيد من دون أن يملك ثقافته ولا عبقريته التي أقرّ بها فلاسفة عصر الانوار.

الرئيس الأميركي يقول إن مسؤولية محمد بن سلمان عن جريمة تصفية جمال خاشقجي ليست مسألة مهمة بنظره، وهو "ربما فعلها وربما لا!"، لكنه لن يُخْضع مصالح بلاده لهذه "المعايير المعينة التي لو اتبعناها فلن يتبقى لدينا حلفاء من أي دولة تقريباً". وأنه "لن يخسر صفقات تتجاوز قيمتها 450 مليار دولار" عاد بها من رحلته الى الرياض في العام الماضي (لم يتحقق منها حتى الآن إلا ما يقارب 10 في المئة)، وبالتالي فهل "يعرِّض مئات ألوف الوظائف للبطالة؟ هل تريدون ذلك؟". وكالعادة تكلم كثيراً عن وظيفة السعودية في المجابهة مع إيران.. بل وأن الرياض حليف ضد الارهاب، وأنها علاوة على ذلك إستجابت لطلبه الابقاء على سعر النفط منخفضاً. وهكذا تتمازج المصالح السياسية (ما يقال له استراتيجيا) مع تلك المالية (ما يقال له اقتصاد). ويعلن وزير خارجيته، مايك بومبيو، تبريراً للتخفف من تلك "المعايير المعينة"، أن "العالم قاسي وشرير، ولذا فعلى الولايات المتحدة تفضيل مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية".. مكره أخاك لا بطل!

مقالات ذات صلة

والبارحة أعلن ترامب أنه "لولا السعودية لكانت إسرائيل في ورطة كبيرة"، ولكنه لم يستطرد في شرح هذا الحكم المقتضب حتى الآن، والأمل أن يكشف في مقبِل الايام أكثر. فميزته أنه يصرح عن الاشياء بالتتابع، وهناك - على عكس ما يظهر كتناقضات وكقول الشيء وعكسه (مثلما في قوله أنه سيترك القرار بشأن بن سلمان للكونغرس) – ثوابت وخيط جامع، وإسرائيل على الرأس منها..

طرافة ترامب لا تقف عند هذا الحد. فهو لا يريد سماع التسجيلات عن مقتل الصحافي (وهي بحوزة سي أي إي) "حتى لا يتألم للتعذيب الذي تعرض له خاشقجي"!

وهو يُحمّل ولاية كاليفورنيا مسئولية الحريق الذي إلتهم تماماً بلدة "براديز" ("الجنة") في شمال الولاية (60 الف هكتار و13 الف بيت استحالت رماداً وأكثر من 86 ضحية ومئات المفقودين و26 ألف انسان هم كل سكانها يبيتون في الخيام والسيارات ومراكز إيواء هشة).. ويقول أنه "كان ينبغي قطع الاشجار"! وأنه قال لهم ذلك قبلاً. ويهدد خلال زيارته للمنطقة المنكوبة بمزيد من خفض حصة التمويل الفدرالي للولاية على خلفية "إدارتها السيئة" للغابات.

تأسف "وول ستريت جورنال" (وكذلك كل الصحف الكبرى والتلفزات – ما عدا فوكس نيوز بالطبع) لكلام ترامب عن الجريمة التي تلقي بظلالها على حكام السعودية، وتعتبره معيباً وفجاً. ويبتعد عن تلك الفجاجة اصدقاء له من بين الجمهوريين، فبعد ميت رومني المرشح الرئاسي السابق، والسيناتور ليندسي غراهام، ها هو بوب كوركر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ يعتبر أن "البيت الابيض صار وكالة علاقات عامة لبن سلمان"! وهؤلاء جميعهم من غلاة الحزب الجمهوري.. ولعلهم مجرد منافسين لترامب، وهو لا يبدو آبهاً بهم.

وفيما كان مكيافيللي يهدف الى فصل الحكومة عن الدين ويحارب الادعاء الاخلاقي الذي كانت تعتد به الكنيسة، ويرى أن لا شأن للسياسة به، وأن الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكينها من السيطرة على الناس، فترامب يعلن تمسكه بالدين ("أنا شخص مُتديّن وبروتستانتي وأنتمي إلى المذهب المشيخي، أذهب إلى الكنيسة وأحب الله وأحب كنيستي")، وقد صوت لصالحه في انتخابات الرئاسة 80 في المئة من البرتستنانت.. وإن بدا أنه كذلك لا يأبه كثيراً بهذا الجانب.

فبماذا يأبه ترامب إذاً؟ كان مكيافيللي يقول "حبي لنفسي قبل حبي لبلادي"، وهو ما يبدو أن ترامب يتبناه وإن كان يصرح بأن "امريكا أولاً"، وأنه جاء ليجعل "أميركا عظيمة مجدداً". وهو من فرط اعجابه بنفسه كان يرغب بتعيين ابنته ايفانكا (زوجة جاريد كونشنر مستشاره الخاص وصديق بن سلمان، وصاحب "صفقة القرن" ضد فلسطين التي حاكها معه) سفيرة لواشنطن في الامم المتحدة، وأنها "ستكون رائعة هناك".

بماذا يأبه ترامب؟ بنفسه أولاً وبالتأكيد، وبالبزنس ثانياً وأخيراً. وهو يملك الصفاقة ليقول ان "وحشية هذا العالم هي من قتل خاشقجي".. فيما هو يدعو لمعايير وحشية. ولعل الفارق الحاسم بين ترامب وبين مكيافيللي يكمن في هذه النقطة الاخيرة، فالفيلسوف الايطالي الذي امتدح الاحتيال على المحتالين كان صادقاً ومتطابقاً مع ما يعلن..

مقالات من السعودية

خيبة م ب س الاقتصادية

كان النزاع المدمر على سوق النفط، ودور السعودية - وبخاصة محمد بن سلمان- في تأجيجه، مقامرة وحماقة في آن. فإن كانت السعودية تخسر 12 مليون دولار يومياً مقابل كل دولار...

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...