مصر "العائدة " من ليبيا و "العالقة" فيها

"أدخلوها بسلام آمنين.. مصر بلد الطيبين"، هذه العبارة المعلقة على لافتات شاهقة تحت سماء مصر لم تحل يوماً دون الجدل القائم في نفوس المواطنين المصريين، مع توالي الأجيال، حول أيهما أكثر أمناً وكرامة: العيش داخل مصر أم خارجها؟ هل أصبح هناك من مجال، وسط ضيق العيش والفساد وفظاظة الجهات الأمنية للعيش آمنين داخل مصر، وهل لا زالت هي بلد الطيبين، أم أنها كلمة "بريئة" أكثر مما ينبغي،
2015-03-12

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
| en

"أدخلوها بسلام آمنين.. مصر بلد الطيبين"، هذه العبارة المعلقة على لافتات شاهقة تحت سماء مصر لم تحل يوماً دون الجدل القائم في نفوس المواطنين المصريين، مع توالي الأجيال، حول أيهما أكثر أمناً وكرامة: العيش داخل مصر أم خارجها؟ هل أصبح هناك من مجال، وسط ضيق العيش والفساد وفظاظة الجهات الأمنية للعيش آمنين داخل مصر، وهل لا زالت هي بلد الطيبين، أم أنها كلمة "بريئة" أكثر مما ينبغي، بحيث لا يمكنها أبداً ان تشمل الجميع؟ أم أن هذه العبارة لا تخص أصحاب الوجوه المرهقة وتقتصر فقط على من جاءوا بملابس نظيفة لرؤية مصر الجميلة في المتاحف والمنتزهات؟ طغى هذا الجدل للحظات حين ظهرت صور العمال المصريين العائدين من ليبيا وهم يخطون أولى خطواتهم فوق أرض مطار القاهرة بينما اللافتة العتيقة تعلو رؤوسهم.

العيش بالجحيم

عائدون هم من الجحيم بلا شك، لكن إلى ماذا عادوا؟ فهم يعلمون أنّه لو كان لديهم ما يوفر كرامة البقاء لما رحلوا. لكنهم وعلى الرغم من مرارة الخوف من المستقبل فلا يمكنهم إلا الاستسلام لحقيقة انه لا شيء يضاهي الحق في الحياة نفسها، ولا شيء أكثر بشاعة من مشهد "سكين فوق الرقاب" يلاحق الذاكرة.
لا توجد تقديرات رسمية مؤكدة حول أعداد المصريين في ليبيا، الى حد أن يتأرجح الرقم ما بين 200 ألف الى مليون مصري. وقد جاءت أرقام أخرى مؤكدة وصادمة، تلك الخاصة بأعداد المصريين العائدين من ليبيا ـ عقب مذبحة "شهداء لقمة العيش" التي حصدت أرواح 21 قبطيا مصريا على يد إرهابيي داعش. الأرقام الرسمية تقول أن من عادوا عبر المنافذ البرية في الشرق لا يزيد عن 11 ألفا و567 مواطناً مصرياً منذ بداية الأزمة وحتى الآن، اما من جاءوا من الغرب عبر الخطوط الجوية المصرية والتونسية فلم يتخطوا الـ 1050 مصريا.
كيف يتدبر العالقون هناك بأحلامهم سبل تأمين حياتهم؟ وهل الخوف من كابوس عدم القدرة على توفير حياة كريمة عند العودة يجعل شبح الموت مستأنساً رغم كل شيء؟ سؤال يردده الجميع في همس داخل سرادق العزاء على الشهداء. وفي لقاء أجرته وكالة "رويترز" سراً مع عدد من المصريين داخل المدن الليبية، قال شاب مصري يحمل مؤهل تعليم متوسط ويعمل في أحد المخابز بمدينة بني غازي "محدش فينا يقدر يخرج من مكان الشغل، الأوضاع في الشارع خطيرة جدا، والليبيين بيقولوا لينا أي مصري هيخرج للشارع رقبته هتطير". تزايدت هذه التهديدات عقب توجيه ضربة عسكرية مصرية لمواقع داعش ـ حسب البيانات الرسمية ـ وهي الضربة التي يختلف حولها الليبيون اختلافا يشبه انقسامهم السياسي بشكل عام ـ ورغم هذا لم يجد الحج محمود 53 عاماً من مفر من الاستمرار في العمل داخل مدينة سرت نفسها "المكان المرجح أن تكون عملية الذبح قد نفذت به"، فأرسل مع احد العائدين رسالة لزوجته قال فيها "صعب أخرج للشارع في ليبيا لكن صعب كمان ارجع مصر.. ادعوا لي، وهابعت لكم الفلوس في أقرب وقت".

أوجاع ما بعد العودة

اللافتة الواعدة بالأمان والطمأنينة لم تتمكن من استيعاب موقف العودة ككل أو أحلام العالقين بالرجوع، فرغم ما أعلنت الحكومة المصرية على لسان وزير العمل من توفير 33 ألف فرصة عمل للعائدين من ليبيا، فإن الشكاوى المريرة قد ظهرت على لسان الكثيرين منهم رغم دموعهم التي بللت التراب، فحكوا عن تعنت اجراءات الأمن في الدخول الى مصر وعن اجبارهم في اليوم الأول على الانتظار لمدة 24 ساعة داخل المطار حتى وصول وزير الخارجية لاستقبالهم رسمياً وسط الكاميرات، أما بعد رحيل الكاميرات وتبادلهم هم وحدهم أرقام الهواتف، فقد تراءى للعشرات منهم التحرك في اتجاه ميدان التحرير عقب مرور أسبوع على وصولهم، تحديداً أمام مقر الخطوط الجوية المصرية الليبية للتظاهر ومطالبة الحكومتين بالعمل على صرف تعويضات عادلة عن اضطرارهم لخسارة أعمالهم وعدم تمكنهم من تحصيل مستحقاتهم المالية بسبب الظروف السياسية.
ومن قلب القاهرة إلى أطراف الصعيد، حيث قرية "العورة" ذات النصيب الأكبر من الفجيعة إذ ينتمي لأرضها 17 من "شهداء لقمة العيش"، حيث صلى اقباط المدينة داخل كنيستهم من أجل القتلة، وفي لقاء تليفزيوني، تملك ملايين المشاهدين الرجفة والدهشة وسيدة عجوز هي أم أحد الشهداء تقول "هاقول ربنا يسامحهم ويهديهم. هادعي عليه مثلاً ؟! هيفيد بإيه.. ربنا يهديهم عشان لسه في مصريين كتير لسه هناك، ولسه غيرهم هيسافروا، هيعملوا ايه، لقمة العيش لها احكامها".
وكانت الحكومة المصرية قد أصدرت قرارا منذ منتصف كانون الثاني/ يناير الماضي بمنع سفر المصريين إلى ليبيا تحت أي سبب، إلا أن هذا لم يمنع السفر غير الشرعي عبر المراكب، وهو ما نتج عنه خطف 21 صيادا مصريا آخر لا زال مصيرهم مجهولا، بينما تتردد أنباء عن رؤيتهم بين يدي القتلة في استعراض داخل مدينة سرت الليبية، ومشهد الأهالي يتكرر داخل القاهرة حيث البكاء والغضب وتحميل الحكومة مسؤولية سلامتهم والعودة بهم.

.. يغرق بالجميع

عائدون وعالقون ليس لديهم وقت لمناقشة صحة مواقفهم، بينما ملايين المصريين زادهم مشهد الذبح انقساماً رغم توحدهم في الوجع. ففريق يؤيد موقف الحكومة المصرية من الصراع السياسي في ليببا ويجده أمرا لا بد منه لمواجهة خطر المد الإرهابي المتأسلم على مصر، والذي يكون بتوجيه ضربات جوية سريعة كفعل صحيح وقوي من دولة تستطيع اعطاء رسائل واضحة بامكانية المواجهة. بينما فريق آخر يرى ان توجيه ضربة جوية الى معسكرات في ليبيا، وما تردد عن سقوط ليبيين مدنيين أبرياء هو خط محفوف بالمخاطر، ويورط النظام المصري الحالي في دعم طرف سياسي في ليبيا ولا يدفع ثمنه غير المصريين هناك الذين لم يتم اجلاء إلا ما يعادل 10 في المئة منهم.
وما بين وجهتي النظر اللتين لا يخفى احتدام اصحابهما، صوت أوسع يتردد ويسائل الجميع الهدوء والاعتراف بأن من ذُبحوا ومن يمكن أن يأخذهم طريقهم للذبح قد تم ذبحهم معنوياً من قبل، عندما لم تستطع الحكومات المصرية المتتالية عبر العقود تحقيق تنمية حقيقية ووقف النهب والفساد، مما دفع بملايين المصريين ـ المحبين حسب علوم الانثروبولجيا للاستقرار ـ الى الترحال شرقاً وغرباً بحثا عن لقمة العيش.
هذا الصوت الممتلئ بالوجع والخوف من المستقبل، عبر عنه أحد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بعبارة أيدها الآلاف، وهي تنظر الى الاطراف المختلفة وتقول لهم "يستطيع كل فريق أن يجد في ما يحدث وجهاً للاستغلال ضد خصومه، لكن منطق البصيرة يقول إن المركب يغرق بالجميع".


وسوم: العدد 136

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...

مصر التي كسرت خاطري وتقيّد فمي

منى سليم 2023-11-03

هل يأتي يوم تُحرِّرنا فيه مصر من وجعنا المكلوم منها وبها وعليها، فأجد نفسي على حين غرة ملتحمة بملايين أعرفها ولا تعرفني؟ هل ترضى عنا الأيام؟ وهل سنمتلك حينها القدرة...