في جذور الأسباب البنيوية للانتفاضة السورية

للانتفاضة السورية الحالية أسباب ببنيوية تتجاوز العامل المستمر، أي القمع. ترتبط هذه الاسباب بالمعطيات السياسية ــ الاقتصادية التي اجتاحت سوريا منذ العام 1986، عندما بدأ النظام عملياً في تحويل تحالفاته الاجتماعية والسياسية من العمال إلى الأعمال. والاشارة تحديداً تخص العلاقة المتصاعدة في العقود القليلة الماضية بين النخبتين السياسية والاقتصادية في سوريا، وتداعياتها على تحديد السياسات على مدى يقرب من
2012-11-14

بسام حداد

أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج مايسن ـ واشنطن، ورئيس تحرير موقع «جدلية»


شارك
| en
عزّة أبو ربعيّة - من صفحة "الفن والحرية".

للانتفاضة السورية الحالية أسباب ببنيوية تتجاوز العامل المستمر، أي القمع. ترتبط هذه الاسباب بالمعطيات السياسية ــ الاقتصادية التي اجتاحت سوريا منذ العام 1986، عندما بدأ النظام عملياً في تحويل تحالفاته الاجتماعية والسياسية من العمال إلى الأعمال. والاشارة تحديداً تخص العلاقة المتصاعدة في العقود القليلة الماضية بين النخبتين السياسية والاقتصادية في سوريا، وتداعياتها على تحديد السياسات على مدى يقرب من الـ25 عاماً. يسود هذا التفاعل الجديد للسلطة معظم الاقتصادات السياسية العالمية، لكنه يولّد آثاراً مؤذية بحسب السياقات المحددة. في العديد من البلدان النامية، ومن ضمنها سوريا، ترتبط تلك الآثار بالسيرورة الطويلة لتفكُّك الاقتصاد الذي تسيطر عليه الدولة، والذي يشكّل أيضاً أساس سياسات إعادة التوزيع التي تعتمد عليها الجماهير في ظل غياب النمو الاقتصادي. يجدر التحذير بالوقت نفسه من مغبّة اعتبار أن هذه العوامل هي الأسباب الحصرية للانتفاضات، أكان ذلك في سوريا أم في أي مكان آخر. وعوضاً عن ذلك، أعتبر هذا العامل مركزياً، وليس العامل الوحيد. على الرغم من ذلك، لا يمكن لهذا العامل أن يوفر وصفاً شاملاً للأسباب البنيوية.

سياسياً، بدا أنّ التشابك الجديد للسلطة بين النخبتين السياسية والاقتصادية في سوريا، دعّم الحكم التسلُّطي فيها خلال العقدَين الماضيَين، سواء ساهمت العوامل الأخرى في هذه النتيجة أم لم تساهم. ولا يوفر ذلك التشابك مجرد وظيفة «دعم» من قبل النخب المستفيدة للوضع القائم، وهي القاعدة في كل مكان تقريباً. بل هو شكلٌ من الشرعية لوضع قائم متغير، لأنّ أشكالاً مختلفة من «اللبرلة» أو من تراجُع الدولة عن تأدية مهامها يلازم هذا التشابك: ويشتمل ذلك على «بناء» و«تنمية» ما يبدو ظاهرياً أنه مجتمع مدني حيوي، يمكن اعتباره علامة على «انفتاح» سياسي، ومناخ اقتصادي «متحرِّر» تتخلى بموجبه الدولة عن احتكارها لبعض القطاعات الاقتصادية، وبناء قطاع «خاص» واسع يُزعَم أنه ينمو على حساب القطاع «العام» الحكومي، ويفسح المجال لتشتُّت أوسع للموارد، مع آثار ديموقراطية اقتصادياً. وعلى الرغم من أنّ هذه النتائج مُرضية لبعض الفاعلين الخارجيين (وهو ما يشمل المفهوم الهلامي أو غير المتبلور، أي «المجتمع الدولي»)، فإنّها لم تنعكس بأي طريقة إيجابية على الغالبية الساحقة من السكان، ممّن عليهم أن يدافعوا عن حقوقهم في نواحي الدعم الحكومي للسلع الغذائية والوظائف والرعاية الصحية الآخذة بالتقلُّص. على العكس من ذلك تماماً، راح غالبية السوريين يشهدون انخفاض مدّخراتهم مع تعمُّق هذا التحالف بين الدولة وفئة رجال الأعمال الكبرى منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي.

السياسة الاقتصادية، البنية الاقتصادية والتداعيات الاجتماعية

التداعيات الاجتماعية الواضحة للتحالف النخبوي الجديد، والسياسات التي تولّدت عنه كانت حتى أعمق من ذلك، وهي أثرت على حياة معظم السوريين، وكانت جميعها شديدة الوضوح قبل كانون الثاني/يناير 2011. وكان لهذا التحالف أثر هائل على المجتمع السوري من ناحية نتائجه الاستقطابية، وهو أثر يشبه أوضاع مرحلة ما قبل حكم حزب البعث، إن لم يكن يتطابق معها. وقد تُرجمَت هذه الآثار على ثلاثة صعُد: السياسات الاقتصادية، والبنية الاقتصادية والتداعيات الاجتماعية.

ليس من الصعوبة بمكان إثبات أنّ السياسات التي دعمها ذلك التشابُك الجديد للسلطة، كانت هي المسؤولة عن التدمير المفرط بل عن إزالة كل أشكال شبكات الحماية الاجتماعية للسوريين (على سبيل المثال الرعاية الصحية والإعانات والوظائف التي توفّرها الدولة) التي مكّنت السكّان على مدى عقود من تجنب الغرق أو أبقت رؤوسهم فوق الماء، وإن كان بصعوبة. وفي الحالات التي لم تشهد إلغاءً لكل هذه المكتسبات دفعة واحدة، فإنّ نوعيتها تدهورت تدهورا ملحوظا (على صعيد الرعاية الصحية والتعليم مثلاً)، أو أنّ الحصص الغذائية قد تقلّصت (مثلاً الخبز والطحين والسكر). وقد ساهمت هذه التغييرات الجذرية في بروز ظاهرتين مترابطتين ترابطا خطيرا: أولاً، فقر متزايد (يتضمن الفقر المدقع) وبالتالي زيادة وتيرة الاستقطاب الاجتماعي، حيث تخسر المجتمعات بشكل متزايد طبقاتها الوسطى. وثانياً، استبعاد اقتصادي من «السوق»، وهي ظاهرة تساهم في ارتفاع دراماتيكي لحصة القطاع الاقتصادي غير النظامي أو للذين يعملون أو يعيشون خارج السوق بالكامل تقريباً، ومعظمهم يعيشون في مناطق ريفية وبلدات صغيرة ومدن أصغر.

في غضون ذلك، عزّزت سياسات النظام نموّ القطاع «الخاص» من خلال توفير المستثمرين الذين أُعطوا امتيازات ومعاملة مميزة وتمتعوا بالإعفاءات الضريبية من دون فرض مقابل عملي لجهة القيمة المضافة والتوظيف والصادرات. والأهم من ذلك أنّ الفرص الاقتصادية الأكثر ربحية في الاقتصاد الجديد، احتكرها الموالون للنظام، والأقارب والشركاء، وجميع هؤلاء هم جزء من شبكات الأعمال المرتبطة بالدولة، التي تطوّرت في السبعينيات والثمانينيات، ونضجت في التسعينيات. إنّ التقارُب الصارخ بين صانعي القرارات والمستفيدين منها، فعَّل الاستيلاء على الريع، والفساد البنيوي، وأنتج مجموعة كبيرة من السياسات المفصلة على القياس التي أضعفت الاقتصاد الوطـني وفتّتـته وأرهقته بالاقتطاعات.

وقد ظهر التأثير قاسياً على نطاق أوسع في بعـض القطاعات المهمّة. إنّ الزيادة ـ غير الكبيرة ـ في العمّال ومصالحهم في القطاعات الخاصة والعامة هي نتيجة أخرى للسياسات وللقرارات السياسية المرتبطة بهذا التحالف النخبوي الجديد، يمكن تلمُّسها بسهولة. كان التحوُّل في التحالفات الفعلية من العمال إلى رجال الأعمال، جزءاً لا يتجزأ من انهيار الاقتصاد المسيطر عليه من الدولة. ومع مرور الوقت، شجّعت الحقوق والقوانين والتدابير بشكل متزايد الأعمال على حساب العمّال، وذلك بدءاً من السبعينيات (أكان ذلك رسمياً أم غير رسمي).

في تلك الحقبة، تمّ استيعاب نقابات التجار/الفلاحين وجمعيات العمّال من قبل أنظمة تمثيل تسلطية تقوم على أساس المهنة (corporatist)، ظلت مع ذلك تتمتع ببعض الامتيازات. صحيح أن النخبة السياسية أطلقت هذه العملية من التحوُّل في التحالفات وتخصيص رأس المال بالامتيازات قبل وقت طويل من أن يصبح الفاعلون من رجال الأعمال مهيمنين على الساحة، غير أنّ نوع التغيير الذي حصل خلال العقود الثلاثة الماضية كان من طابع مختلف. في الفترة السابقة، كان تجريد العمال من حقوقهم يُعتبَر بمثابة وسيلة إشكالية للاعتباط التسلُّطي، وكان يثير الامتعاض اجتماعياً، ويُنظَر إليه على أنه نوع من الخروج عن عقد اجتماعي (تنموي) ما. لكن في مرحلة لاحقة، وقبل موجة الاحتجاجات والانتفاضات، كان التجريد المتزايد للعمال من حقوقهم يحصل باسم «الاستثمار»، و«النمو» و«التحديث».

كان السياق الايديولوجي في الماضي أحد التلوينات الاشتراكية ـ القومية التي وفّرت أساساً لتحديد الأحكام والمعايير. بالتالي، كان الاستقطاب الطبقي والفقر والاستبعاد من التنمية مُعتبرة بمثابة إجراءات «خاطئة» وغير مقبولة. أما اليوم، فقد أصبحت هذه الآثار المُربكة هي المعيار الجديد، ووسيلة من أجل مستقبل «أفضل»، ومحطة مشروعة على طريق الازدهار والفعالية. لقد تمّ تعليق جميع التسميات المماثلة بفعل الانتفاضات، لكنه لا يزال من المبكر جداً إعلان موت وصفات النمو ذات النتيجة الصفرية في المحصلة. جزئياً، موّهت هذه الرواية «الايجابية» للسياسات الجديدة، السخط والاستياء العميقَين بشكل أساسي بين الذين لا صوت لهم.

قد يكون الأكثر دلالة هو التداعيات التنموية للتحالف النخبوي الجديد التي عزّزت التنمية الحضَرية المدينية بشكل مكثَّف (على حساب الريف المهمَل وأنماط الإنتاج فيه) والنشاط الاقتصادي غير المنتِج، الذي يتميّز بشكل رئيسي بالاستهلاك. لقد أنتجت الزيادة في مساهمة قطاعات السياحة والخدمات على حساب التصنيع والإنتاج الزراعي (المترافقة مع قوانين إصلاح الأراضي والتدابير القانونية الأخرى) أنواعاً مختلفة من الحاجات في المجتمع. على سبيل المثال، لم يعد هناك حاجة كبيرة للعمالة الماهرة وللأنظمة التعليمية والمؤسسات المطلوبة لتدريب العمالة الماهرة.
ومهما برز «الاقتصاد الجديد» وميادين تكنولوجيا المعلومات، فقد ظلّت متخلّفة بأشواط مقارنةً مع بلدان أخرى، وكانت صغيرة جداً ومتخلّفة للغاية لتشكل بديلاً من الخسائر التي حلّت بالقطاعات الأخرى، وكانت من دون شك عاجزة عن المنافسة على الصعيد الدولي. وبشكل متزايد، أصبح توظيف مئات الآلاف من الداخلين سنوياً إلى سوق العمل مجرّد حلم وهمي، وهو ما دفع بالجماهير من الشباب المحرومين إلى النسيان وظروف العيش الصعبة.

هناك ملاحظة تفرض نفسها في هذا السياق، وإن كانت غير متصلة بـ«السياسة». منذ العام 2003، اختبرت سوريا جفافاً غير مسبوق تسبب بنزوح داخلي لأكثر من 1.2 مليون شخص بحسب تقديرات متحفِّظة. لقد هاجرت عشرات الآلاف من العائلات إلى المدن، حيث انضمّوا إلى صفوف العاطلين عن العمل، خصوصاً في البلدات والمحافظات الصغيرة، كدرعا وإدلب وحمص وغيرها. لقد عزّز هذا النزوح من الشعور بانعدام رضى جميع الذين تأثّروا به، مباشرة أو غير مباشرةً، وزاد من حدة الاستقطاب الاجتماعي والاقليمي إلى مستويات لم تشهدها سوريا منذ منتصف القرن الماضي. وعلى الرغم من أن ذلك كان نتيجة كارثة طبيعية، إلا أن سوء التخطيط الحكومي المزمن والضئيل، وسوء إدارة الموارد المائية منذ التسعينيات، كانت بمثابة الثمن المدفوع لمجموعة سياسات الاستقطاب الاجتماعي المتّبعة خلال الفترة نفسها.

لا تنحصر مشكلة التنمية بمسألة القوانين والأسواق، ولن يتم حلّها بوصفها كذلك. كما أن ترياق الديموقراطية ليس كافياً لمعالجة الأمراض الأساسية. ومهما تعدّدت العوامل، فإنّ المشاكل الأكثر فداحةً تنبع من الأشكال المختلفة والمستمرة من انتزاع التمكين السياسي والاقتصادي، ومن إنكار حق تقرير المصير على الصعيدين الفردي والجماعي. وقد تفاقمت معظم هذه المشاكل ولا تزال تتفاقم بفعل تشابُك جديد للقوى، كان ولا يزال مستعصياً وكان ولا يزال غير خاضع للتنازع والتحدي (وفق الحالات). لم يكن هذا التحالف النخبوي الجديد والسياسات التي رافقته المصدر الوحيد لانعدام الرضى والمعارضة الشعبيين، بل كانت تأكيداً على أنّهما سيتفاقمان إذا لم تتطور عقود اجتماعية ومؤسسات بديلة، حتى في ظل أنظمة حكم جديدة. وبما يتعلق باهتمامنا هنا، فلا يمكننا التقليل من أهمية مساهمة هذه التأثيرات الاجتماعية الناتجة من الأوضاع المذكورة أعلاه، على الخزّان البنيوي الذي غذّى جذور الانتفاضات، خصوصاً في المناطق الريفية والبلدات الصغيرة.

(مـــن مـقــال As Syria Free-Falls... A Return to the Basics ــ بالاتفاق مع موقع "جدليّة" ـ ترجمة "السفير العربي")

مقالات من سوريا