مجانين بغداد يروون سيرتها

لا تختلف قصص فقدان العقل في العراق عن مثيلاتها في العالم، لها أساطيرها ونجومها اللامعون، ولأبطالها حكايات لا تنتهي. هؤلاء الذين تركتهم عقولهم لتتنزّه في البرازخ الضائعة لفترة طويلة، لهم أسبابهم، والسلطة في العراق - بكلّ أشكالها - عملت على تكوين الصور النمطيّة حولهم. لكن الجنون في العراق تغيّر بين نظامين سياسيين: أحدّهما أمعن في الديكتاتورية حتّى دجَّن مجانينه، والآخر أمعن في الفوضى والخراب
2015-01-29

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
| en
ليان شوابكة-فلسطين

لا تختلف قصص فقدان العقل في العراق عن مثيلاتها في العالم، لها أساطيرها ونجومها اللامعون، ولأبطالها حكايات لا تنتهي. هؤلاء الذين تركتهم عقولهم لتتنزّه في البرازخ الضائعة لفترة طويلة، لهم أسبابهم، والسلطة في العراق - بكلّ أشكالها - عملت على تكوين الصور النمطيّة حولهم. لكن الجنون في العراق تغيّر بين نظامين سياسيين: أحدّهما أمعن في الديكتاتورية حتّى دجَّن مجانينه، والآخر أمعن في الفوضى والخراب حتّى رفضه مجانينه. 
 

ما من خلاص

لم يجد الكثير من العراقيين بمواجهة سلطة دكتاتورية عاتيّة مثل نظام صدّام حسين، في التسعينيات على وجه الخصوص، إلا الجنون "خيارا" أخيرا للتمسك بالحياة – ولو بنصف عقل - حتى طفحت العاصمة بمجانينها. فكان أن جنّ المثقفون على تخوت المقاهي ليتجاوروا مع مجانين أخرجتهم الحكومة العراقيّة من المستشفيات إلى الشوارع بعد أن شحَّ الدواء والكوادر الطبيّة. صار هؤلاء جزءاً لا بدّ منه في حياتنا اليوميّة، فبات لكل حارة مجنونها المحبّب الذي يجد العطف والملبس والطعام من العجائز، والشتيمة والحجارة من الأطفال.
كان جمال حافظ واعي، الحائز على الماجستير في الإعلام، يذرع بغداد وهو يكشف عن عجيزته لكل من يطلب ذلك. ويحصل على سندويش فلافل كل يوم صباحاً مجاناً ويقسّمه على يومه ببراعة تاجر فذّ الحساب. كان رافضاً لكلِّ شيء في وقت تحول الإعلام الذي تخصص فيه إلى سلاح بيد السلطة لا يقلّ فتكاً عن البنادق وأحكام الإعدام. لم يكن أمامه سوى هذا الخيار أو الفرار، فاختار تقسيط حياته بين هذا وذاك. تناوب على الجنون أوّلاً، ليفرّ بعدها إلى الأردن ومن ثمّ إلى استراليا حيث عاد إليه عقله هناك وعاد هو إلى الكتابة عن كل شيء.. سوى عن أيام الجنون تلك لا يأتي على سيرتها البتّة، ضاحكاً فقط لكلّ من يذكره بها.
لم يكن واعي وحده من جنّ ليحيا، وإن تنوعت مظاهر الجنون بين هذا وذاك. كان عقيل علي، أوّل كتّاب قصيدة النثر في السبعينيات، يسير بملابس رثّة ولا يناقش أحدا في الثقافة والشِّعر، يسكر من الصبّاح حتّى المساء ذارعاً أزقّة بغداد بجسد اصطبغ بالكدمات بسبب التعرّض الدائم له. زاول عقيل الجنون لغاية عام 2004 حين وُجد في أحد الشوارع ميّتاً وفي جيبه قصيدته الأخيرة رثاء لذاته: "فإلى متى يا عقيل علي/ ما من خلاص؟/ أهذه ما يسمى حياة / كلا".
أكاديميون كثر نالوا قسطهم من الجنون في زمن صدام أيضاً.. لكن دون أن يختاروا ذلك. فالمحاميّة الجميلة التي ترافعت ضدّ عدي، نجل صدّام في جريمة قتل، لم يلتفت لها أحدّ رغم شجاعتها في الوقوف ضدّ الدكتاتورية، وأدّى موقفها إلى أن يزجّ بها عدي في مستشفى المجانين ليحقنوها هناك ويكووا رأسها. ظلّت تجلس في الشوارع وهي تلفّ قدماً على أخرى، وكأنها تدرس قضيّة بلاد ليس فيها قضاء أو عدالة. أما عُلماء الفيزياء والكيمياء والذرّة، ومرشّحو الرئاسة في عهد الديكتاتور فقد ظلّوا فاغري فاه ترفدهم الحياة خارجها. 
 

مجانين العامّة

كان بمقابل مجانين الثقافة أولئك المجانين الودعاء. ثورة كان اسمها، سمينة وجميلة بشعرها القصير، وببطن جائعة على الدوام. أحبّت ثورة البرتقال والرقص أكثر من أي شيء آخر، فكانت عمتي الصغرى تساومها ببرتقالة مقابل هز خصرها ذي الايقاع المضبوط على الدوام لا يحتاج لموسيقى أبداً.. بل وكأن فرقة كاملة تقف خلفها وتعزف من أجلها. تغمض عينيها وتهزّ.. ثمّ فجأة تنفض صدرها نفضتين لتتوقف عن الرقص وتمد كفّها لتأخذ البرتقالة وتجلس بمحاذاة المدفأة وتأكلها ببطء وهي ترمي فصوصها الصغيرة الى النار لتطيّر تلك الرائحة الساحرة.
ثورة التي كانت إحدى الزائرات اليوميات لبيت جدّتي كانت محل افتقاد إذا غابت، فقد فكانت مسلية الحي بصغاره وكباره، إذ كانت تطلق الشتائم بصوت أجش وتعلم أننا سنضحك بعدها. حتى جاء اليوم الذي فكّر أحدهم فجأة بتزويجها لأحمد، الشاب المهووس بالتطهّر، الذي ما أن يلقى بركة ماؤها نظيف حتى ويجلس فيها. كان مسالماً ولم يرد بعنف يوماً على مضايقات الأطفال وأحجارهم التي ظلت تلاحقه، وهو الذي ينساق إلى أي كف تمسك كفه. هيأت عمتي ثورة، حممتها بماء دافئ وألبستها فستانا أحمر عريضا وأطلقتها إلى الشارع، وما كان إلا أن يضع الأطفال كف أحمد بكف ثورة فسارا بعيداً في تلك الظهيرة من دون أن يلتفتا لأحد. كان الحدث حديث الحي طوال اليوم، وظنت الجدات في منطقة باب المعظّم أن الرشد عاد إليهما.
قصّة جنونهما أيضاً ترتبط بالسلطة، وكأن اسمها الذي حمل وعوداً انقلب عليها حين تزوّجها ضابط واغتصبها ليلة عرسها. يُقال أنها جنّت على إثر ذلك وصارت تسير في الشوارع بدشداشتها الفضاضة. والجنون بالجنون يُذكر، إذا أن المغنيّة سهى عبد الأمير، كانت علاقاتها بأحد المسؤولين قد أدت بها إلى مستشفى المجانين، ولم تجد نقابة الفنانين أن تفعل أكثر من الحصول لها على مقطورة صغيرة نصبتها في الشارع لتسكنها فيها. 
أما أحمد فيقال إنه مهندس وفقره أدّى إلى فقدانه حبيبته التي كان أهلها نافذين في السلطة، الأمر الذي دفعه إلى الجنون بسبب الفارق الطبقي بينه وحبيبته. في تلك الظهيرة ابتلعتهما الشمس الدافئة ولم يعودا مجدداً، ونُسجت الحكايات حولهما وأقساها كان اتهامهما بالعمل كوكيلين لجهاز الأمن التابع لصدام حسين الذي خلق مجتمعاً لم ينجُ من استبداده حتى المجانين!

مجانين الميديا

سيحلّ محل هؤلاء المجانين بعد عام 2003 مجانين ثرثارون، يُدينون بأقسى العبارات وأكثرها شتيمة الأحداث اليوميّة المتسارعة والسياسيين ورجال الدين، إذ لا يفلت من لسانهم أحد. ولهؤلاء نصبت المنصات فيُزال فجأة اللثام عنهم، ليُصبحوا نجوماً على "فيسبوك" و "يوتيوب"، وتصير مقاطع الفيديو التي يتحدّثون فيها الأكثر تداولاً على الهواتف المحمولة: بل وبعضهم يُستعار كشخصيّات رئيسة في البرامج الكوميدية على شاشات التلفاز.
في عام 2004 كان جبّار يذرع الشوارع جيئة وذهاباً يوجّه جملة شتائميّة إلى شيء مؤنث مجهول هناك، قيل إنه يُدين السلطة بتلك الجملة وقيل إنه يُدين امرأة أحبّها. وفي ظهيرة يوم قائظ في بغداد وقف أمام سيارة همر أميركية ليعطِّل مرورها، وما كان من الجندي داخلها إلا أن قضى عليه برصاصة استقرّت في قلبه ليتوفى جبّار فوراً. ولم يعرف أحدّاً سرّ جملته إلا أن سبب جنونه سرعان ما تبدّى بموته، فقد كان أحد المشاركين بانتفاضة عام 1991 ضدّ نظام صدّام حسين، إلا أن فشل الانتفاضة وما رافقها من إعدامات وتعذيب أدى إلى جنونه الذي دفع بجبّار، الذي عايش عنف مرحلتين سياسيتين دمويتين، إلى حتفه. 
سيُزج بالمجانين في الحرب بين الحكومة العراقيّة والتنظيمات المسلّحة في عامي 2006 و2007، حين استغلّ تنظيم "القاعدة" مجانين عدّة في الشوارع ليلبسهم حزاما ناسفا ويوزّعهم على أهداف غالباً ما تكون أسواقا شعبيّة. هكذا تحوَّل المجنون الغريب عن المناطق في تلك الأعوام إلى جسم مرعب يُحسب له ألف حساب.. بدل ذلك المضحك، الذي بجنونه كان يبدد قليلاً من شظف العيش لدى العراقي البسيط.
بالمقابل، سيصبح "أبو رشا"، الذي بصق بوجهه رجل أمن، فيلسوفاً وهو يشخِّص خللاً في نظامين سياسيين متعاقبين، الأوّل نظام صدّام حسين الذي يشتمه بأقذع الشتائم لأنه ترك البلاد تنحدر إلى هذا المستوى بسبب سياساته الحمقاء، ثم الوقت الحالي الذي بات فيه العسكري الفرد يكيل الشتائم والضرب للمدنيين.
في ذلك أيضاً تحوّل المجنون إلى حكواتي يروي سيرة الحاضر التي لا يستطيع أحدّ التطرّق لها، وسيتخلّق من كل هذا مجانين مشهورون ينتظر الشبّان كلامهم لينصتوا له، وأحدّ أشهر أولئك ستّار. ستّار الرث، تحوّل إلى معلِّقٍ سياسي ليس على الأحداث في العراق وحسب، وإنما يحاول صناعة نبؤاته الخاصّة بالشأن العربي.. في عام 2012 ظهر له مقطع فيديو يقول فيه بأن الأوضاع في البلدان العربيّة المحيطة بالعراق ستنحدر إلى الدرك، وترجّى مصوّر الفيديو أن لا تتعرّض له ميليشيا "جيش المهدي" لأنه من جماعتهم، وينتمي لهم، وهو يحاول الانتقاد ليس أكثر، وبمقابل الأمان الذي منح لستّار كان عليه أن يمنح صكّ ولاء لمحدّثه، وهو سبّ خلفاء بعينهم.

بلاغة الجنون

لم يكتشف سرّ مجنون يُروى أنه كان يدور شوارع بغداد وهو يردّد "شيلمها" (كيف تُلم) إلا بعد سقوط نظام صدّام حسين. كان هذا سرّ تحوّل إلى مرويّة خرافيّة دون أن يجزم أمر وجوده من عدمه، أو فيما كانت الناس قد اختلقته بحثاً عن مهْرب من قسوة السياسة. كان المجنون يقصد بِلغوهِ إياه صور صدّام حسين التي ملأت الشوارع والساحات. وببلاغة ثاقبة، "شيلمها" هي الأجدى لوصف النظام السياسي الجديد الذي حلّ بعد احتلال بغداد، إذ تفاقمت أزمة الصور، وبدلاً من صورة لشخص واحد يُرعب الجميع، عُلقت في شوارع بغداد صور لأشخاص كثر مرعبين، زعماء ميليشيات ورجال دين وسياسيين، ما بيد أحد أن يلمها، والخوف من أصحابها من نصيب عقلاء المدينة ومجانينها على حد السّواء.

 

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...