إبداعات الساسة المغاربة لبلوغ القبة السحرية

يستهوي الظفر بمقعد برلماني في القبة السحرية محترفي العمل السياسي بالمغرب، ويبذل الساسة الموسومون بـ "الكائنات الانتخابية" مجهودات جبارة للحصول على التزكية من لدن الأمانة العامة للأحزاب المنوي الترشح باسمها، سواء بطرق قانونية أو ملتوية.
2016-10-07

صالح بن الهوري

صحافي من المغرب


شارك
رأفت بلان - سوريا
يستهوي الظفر بمقعد برلماني في القبة السحرية محترفي العمل السياسي بالمغرب، ويبذل الساسة الموسومون بـ "الكائنات الانتخابية" مجهودات جبارة للحصول على التزكية من لدن الأمانة العامة للأحزاب المنوي الترشح باسمها، سواء بطرق قانونية أو ملتوية.
وتحضر حيل التدليس والكولسة وتقديم الرشى والهبات بالنسبة للأحزاب التي تظهر في الساحة السياسية المحلية والإقليمية والجهوية شهراً قبل يوم الاقتراع وتستأجر "كراجات" كمقار، والمصنفة سوسيولوجياً ضمن "الزوايا" السياسية، حيث تسود ثقافة خضوع المريد (الكاتب الإقليمي أو الجهوي للحزب) للشيخ (أي الأمين العام للحزب). وتُباع التزكيات بمبالغ خيالية تدر ملايين الدراهم على بعض زعماء الأحزاب المغربية وخاصة الخالدين المخلّدين في كراسيهم.

عبقرية "الكائن الانتخابي" في الصحراء والريف

يستغل "الكائن الانتخابي" رأس المال الرمزي لعائلته ويدّعي أنها مقدسة، وأن نسب أصوله وفروعه يمتد إلى قريش، ويزعم أنه على الدهماء والسوقة والرعاع من الناخبين أن يوقّروه ويبجّلوه، ويأمرهم بالتصويت له لضمان بركة وشفاعة أجداده.
يستغلّ "الكائن الانتخابي" جهل الناخبين بالصحراء وأميتهم وفقرهم والريف الذين لا يعرفون أسماء معظم الأحزاب المغربية ولا مبادئها وأدبياتها، بل يكتفون بمعرفة شعاراتها التي تصدر من قاموس ومعجم الحيوان والجماد. ويَعد مَن لم تنطلِ عليهم حيله بالإغداق عليهم بالأموال الطائلة وقضاء مآربهم الشخصية، إن منحوه أصواتهم.
يَعد "الكائن الانتخابي" الناخبين بجلب مشاريع اقتصادية واجتماعية وتنموية ضخمة، ستعود عليهم وعلى ذويهم بالنفع العميم، وينظم على شرفهم ولائم باذخة دسمة تسيل لعاب الجوْعَى ممن لم يتذوّقوا طعم اللحم مذ عام تقريباً، يذبح لهم بقرة مسنة ويوزع عليهم أثناء الحفل جملة من الوعود والأماني. يلعب طقس ذبح بقرة كقربان احتفاء بأهالي القبيلة دوراً مؤثراً على الكتلة الناخبة، ويحضر الأهالي الاجتماع مع المرشح بنية الأكل لا مناقشة الأفكار والبرامج السياسية والاقتصادية للحزب، ويعلّلون الأمر بأنهم لن يجنوا بعد التصويت أية مصلحة عامة أو منفعة شخصية اللهم ما أكلوه خلال الاجتماع أو حصلوا عليه من أموال وعطايا وهدايا من المرشح الذي سيختفي بعد الفوز. يوزع "الكائن الانتخابي" جملة من الوعود المعسولة، من قبيل "سأوظّف ابن الحاج فلان وسأبعث إلى الخارج ابن علان، وسأركب طاقم أسنان لفلانة، وسأرسل إلى الحج علانة".
يفرح الجميع بسماع النبأ السعيد، ويسألون الرّب أن يوفّق "الكائن الانتخابي" في الظفر بالمقعد البرلماني المخصص للإقليم (محافظة). يصير "الكائن الانتخابي" نشوان من الفرح، ويبالغ في كيل مزيد من النيات، ويدّعي قدرته على جلب البحر للإقليم الصحراوي شديد الحرارة صيفاً وقارص البرودة شتاء، فيصدقه الأهالي الذين يعشعش الفكر الخرافي في عقولهم. للأولياء الموتى سيطرة رهيبة على الأحياء من أبناء القبيلة.
هكذا يشارك الأولياء والصالحون في حمّى الانتخابات التي اجتاحت المغرب هذا الصيف باعتماد الساسة على كراماتهم التي تلُوكها الرواية الشفوية.

كرم "الكائن الانتخابي": سخاء بلا حدود

يصير "الكائن الانتخابي" أكرم من النصراني حاتم الطائي. يقدّم للنساء هدايا وعطايا، ويحقق لهن كل طلباتهن دون جدال ولا نقاش، يركّز عليهن طمعاً في أصواتهن. يعدهن بجلب مشاريع تنموية إلى قراهن النائية وإلى ساكني الشعاب والفجاج والجبال والصحراء، يقدّم لهن قوالب من السكر ناصع البياض وعلباً من الشاي الأخضر، و "شرابيل" (حذاء تلبسه النساء في المغرب) و "ملاحف" (رداء صحراوي أصيل).
تورد رقية المصدق في كتابها "المرأة والسياسة، التمثيل السياسي في المغرب"، أن المرأة المغربية رغم اكتسابها حق التصويت "فإن مشاركتها الفعلية في الحياة السياسية لا زالت متدنية إن لم نقل منعدمة، بحيث لم يُستعمل مكسب كهذا لتدعيم وجودها على الساحة السياسية وظلت مشاركتها في الحياة السياسية وممارستها لحقوقها السياسية مختزلة في ممارسة حقّ التصويت"، الأمر الذي يُفرح "الكائن الانتخابي" نظراً لما تتمتع به النساء من قوّة وحضور إثر انخراط المرأة في العمل الجمعوي بالمغرب العميق بعد أن فكّت عنها المنظمات الدولية إلى جانب الجمعيات المحلية عزلتها، مما جعل النساء يفرضن وجودهن وأضحى لهن تأثير على حكومات القصور والقرى.
يصول "الكائن الانتخابي" ويجول في الإقليم طولاً وعرضاً بحثاً عن بؤساء وأرامل ويتامى وجمعيات ليمنحها هبات وصدقات، ويتبرع لمنظمات خيرية بمواد عينية وأضاحي وللجمعيات النسوية بخيم وأوانٍ تستعمل في الطبخ في الأعراس والجنائز، ويساهم في بناء المساجد ويجهزها بالأفرشة والمواد الأولية والكراسي وأسفار كتب التراث. يعوّل على شراء ذمم الناخبين عن طريق السماسرة ويمنح الأعيان وعوداً بقضاء أغراضهم الشخصية الخاصة ويأمرهم بشراء أصوات الكتلة الناخبة "حَبّاً وتبناً"، كما يقول المثل الشعبي المغربي. يعد الفلاحين بكنس السواقي وتنقية "الخطارات" وحفر الآبار، ويعد الرحّل بجلب أجود سلالات الغنم والماعز وبتقديم الشعير والشمندر بثمن رمزي.
الظاهر أن للأعيان وجيش السماسرة العرمرم في المغرب العميق ولعصبية القبيلة وسذاجة الناخبين والحاجة المادية للنساء والرجال على حد سواء للمال الانتخابي ، دوراً حاسماً في التأثير على نتائج صناديق الاقتراع.
يقرر "الكائن الانتخابي" الترشح في العالم القروي، حيث يسكن 13 مليون مغربي ومغربية. وهو يفتقر إلى أبسط مواصفات المرشحين للهيئات الانتخابية الواردة ضمن مشروعي القانون الأساسي لسنة 1906 من قبيل "أن يكون قد قرأ مثن خليل، ويفهم معناه"، ودستور سنة 1908 من قبيل "أن يكون عارفاً باللغة العربية، قراءة وكتابة حقّ المعرفة". أما أن تتوفر فيه شروط المشرِّع اليوم، فتبقى نجوم السماء أقرب إليه منها.
يعتمد على العزوف الانتخابي لتحقيق غايته المتجلية في الظفر بمقعد في القبة السحرية ويؤدي علية القوم من الأعيان و "الجماعات" - حكومات القصور والقرى - دوراً محورياً في فوزه بالمقعد. يتصل بهم قبل عام من يوم الاقتراع، يتوسّل إليهم بالصالحين والأولياء ويلتمس منهم دعمهم في اليوم الموعود (هو هذه المرة الآن أي في 7 تشرين الأول/أكتوبر)، ويعدهم بتحقيق مآربهم وأغراضهم إن هم ساعدوه في حملته في القرى التي يحكمونها بالعرف، باعتبارهم أعضاء في حكومة القصر المعروفة محليا بـ "الجماعة"، ويجزل لهم العطاء ويمنحهم امتيازات بسخاء منقطع النظير، مقابل التوسّط لدى العامة من الكتلة الناخبة في قراهم. يطلب منهم إعداد لائحة أولية بعدد الناخبين والناخبات. من يملك أصوات النساء والفتيات سيفوز دون شك. وأعداد أخرى تحصر مشاكل الكتلة الناخبة وأبرز مطالبها، وماذا تبتغي العامة منه بالضبط؟
بناء صومعة لمسجد القرية الذي يكلف الأهالي غالياً؟ أو حفر بئر للرحّل لسقي بهائمهم ومواشيهم وبدنهم؟ أو حماية الواحات من الاندثار بكنس العين و"الخطارات" (أسلوب استخدم بالواحات للسقي يعتمد على حفر سلسلة من الآبار في اتجاه واحد يوافق اتجاه جريان الأودية الجوفية بهدف خلق ضغط تصاعدي يرفع مستوى الماء نحو السطح) التي ارتبط عيش الساكنة بها؟ أو بناء دار للضيافة؟ أو تنظيم عرس لشابة يتيمة؟ أو التكفل بعزاء فقيد في القرية؟ أو توزيع الأموال على الكتلة الناخبة؟
يستقرّ رأي الأغلبية العظمى على بيع أصواتهم للمرشح الموسوم بـ "الشهم" و "الكريم". يأمر "الكائن الانتخابي" السماسرة المعرّفين محلياً بـ "الشناقة" بتزويده بعدد الكتلة الناخبة بكل دائرة انتخابية على حدة، وبالمبلغ المطلوب عن كل صوت. يؤدي عن كل صوت انتخابي في الجنوب الشرقي للبلد مبلغ مئة درهم. ثمن كيس من الدقيق المدعّم. ويرتفع ثمن الصوت في الجنوب الغربي بأضعاف مضاعفة، حسب مكانة وثروة المرشح.

حمّى الانتخابات تجتاح المغرب العميق

تشتد حمى التنافس على الظفر بمقعد في القبة السحرية ويجن جنون الحالمين بالفوز بمنصب برلماني وتصبح جل الطرق والحيل مشروعة. وتبلغ المنافسة ذروتها. وهي تكون حامية الوطيس بين المرشحين الذين دفعوا مبالغ خيالية للحصول على التزكية من لدن الأمانة العامة للحزب بالعاصمة، ويعملون بشكل منظم فيتبادلون المعلومات بخصوص مَن يملك أكبر عدد من الأصوات عن كل دائرة انتخابية، تجنباً لخداع السماسرة والعامة.
ترتفع قيمة أعيان القرى والحواضر خلال العام الأخير من كل ولاية تشريعية وتزداد خلال الشهور الستة الأخيرة، يتودّد إليهم المرشحون الأمر الذي يغتنمه الأعيان لتحقيق أغراضهم الشخصية قبل تواري البرلمانيين عنهم بعد نجاحهم مباشرة وتغيير أرقام هواتفهم.
يطلب "الكائن الانتخابي" من السماسرة أن يبتاعوا كل صوت انتخابي بالثمن الذي يحدده السوق، ويلح على أداء الناخب للقسم على كتاب الفرقان بالتصويت للمرشح الذي دفع له الأعيان مقابل التصويت له. يستغلّ "الكائن الانتخابي" شيم الوفاء بالعهد والوفاء للصديق التي يشتهر بها رجال ونساء الريف والصحراء.
يكون الولاء في الجنوب الغربي للبلد، للقبيلة وللمال السياسي الذي يوسم بـ "الحرام". لكن أكل ثمنه حلال. ولا تعير الكتلة الناخبة لبرامج الأحزاب أدنى اهتمام ولا تعترف بمشاريع الأحزاب الاقتصادية والسياسية. يصوّت الناخبون على الشخص لا على الحزب.
يبلغ ثمن الصوت الواحد بالجنوب الشرقي خمس ثمنه بالجنوب الغربي للبلد. وينظم "الكائن الانتخابي" ولائم باذخة وسهرات راقية يحييها ألمع نجوم ومغنّي الطرب الحساني القح الأصيل، المشهورين بلقب "إيكاون" القادمين من بلاد "شنكيط" وجنوب المغرب. يعتمد "الكائن الانتخابي" في الجنوب الغربي للبلد على سياسة "الإنزال" إذ يجلب عدداً كبيراً من الناخبين من ربوع البلد، ويقوم بتغيير عناوين سكناهم على بطاقاتهم التعريفية وإقاماتهم، ويوفر لهم عملاً وسكناً، ويضمن بالتالي تصويتهم له. أو يعيد من لم يحصل على عمل وسكن إلى مدنهم الأصلية بعد أن يغيّر بطاقاتهم إلى أن يحين موعد وضع طلبات الترشح لخوض غمار الانتخابات التشريعية.
يحين موسم الهجرة إلى الجنوب الغربي قبيل بضعة أشهر من يوم الاقتراع، يتكفّل "الكائن الانتخابي" بنقل وتغذية وإقامة "الجموع الهادرة". يدفع لهم المدير المالي للحملة أسبوعياً وأحياناً يومياً، دون حساب طبعاً. تشارك الحشود في مختلف مراحل اللعبة السياسية قبل الحملة، وتلعب دور "الكومبارس" أثناءها وتصوت يوم الاقتراع، وتشارك في الاحتفال الضخم الذي ينظمه البرلماني الفائز بمقعد وثير، ثم تقفل سالمة غانمة إلى موطنها الأصلي بعد نجاح مهمتها على أكمل وجه.
ستبقى اللعبة الانتخابية المغربية لعبة مغشوشة نظراً لغياب الشفافية والديموقراطية وحقوق الإنسان واحترام المرأة برفع الحيف والظلم الاقتصادي عنها، ومحاربة الفقر والإقصاء الذي يجابه به المغرب العميق.. الأمر الذي تستغله الأحزاب السياسية الساعية إلى الظفر بالكراسي الوثيرة لخدمة مصالح وأغراض شيوخها ومريديها، عوض خدمة المغاربة الذين يطمحون إلى تعليم راق وخدمات صحية واحترام كينونتهم واعتبارهم مواطنين لا رعايا.

 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه

مهربو الصحراء في المغرب العميق

يطالب أبناء المغرب العميق السلطات أن تغادر السياسة التي وضعها الجنرال الفرنسي ليوطي(*) للمغرب بتوزيعه إلى مناطق نافعة وأخرى غير نافعة، وأن تنجز مشاريع تعود بالنفع على الناس وتحميهم من...