تجديد قشرة الخطاب الديني

تفكير مثل هذا: تساءل صحافي يكتب من داخل المنظومة المهيمنة "ماذا سيقول صحافي لربّه يوم القيامة حين يُطلب منه أن يقدّم حجّة ودليلاً على رمْيه فلان وفلانة بالزنا؟". أجبته: "ماذا سيقول لربّه؟ في السياسة والصحافة لا بد من دفع الحساب هنا والآن. في الحقل السياسي لا معنى للحساب مع منكر ونكير".
2016-09-30

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
عالية الفارسي - عُمان

- هل ألعاب القوى حلال أم حرام؟
- حرام.
- فعلاً، لأنه حرام أن يتعرى الإنسان وخاصة المرأة.
- ألعاب القوى حرام لأن المسلمين لا يفوزون فيها.

 هذان تفسيران، الأوّل من داخل المنظومة الدينية والثاني من خارجها. والأغلبية المطلَقة بين الدار البيضاء وجاكارتا مع التفسير الأول، لكن الواقع لا يرتفع كما يرتفع الكوليستيرول السيئ في الدم بسبب هذه المجادلات.

 يجري هذا الجدل باستمرار على أرضيّة الإسلاميين. يصير الدين موجِّهاً أخلاقياً شاملاً. فالاهتمام بأدبيات الإسلام السياسي في تزايد مستمر في ظلّ تدين العامة. ومن مظاهر ذلك في المغرب:

 وقف بيع الخمر في أسواق كبرى. فصل مدخل الفندق عن البار: صار للفندق بابان. هاتف يرنّ بالآذان، ولا يستطيع تلميذ في فصل دراسي وقف الرنين، لأنه حرام قطع الآذان. رجال لا يضعون أموالهم في البنوك. فوز الإسلاميين في الانتخابات ودخولهم إلى مؤسسات الدولة.

 تفكير مثل هذا: تساءل صحافي يكتب من داخل المنظومة المهيمنة "ماذا سيقول صحافي لربّه يوم القيامة حين يُطلب منه أن يقدّم حجّة ودليلاً على رمْيه فلان وفلانة بالزنا؟". أجبته: "ماذا سيقول لربّه؟ في السياسة والصحافة لا بد من دفع الحساب هنا والآن. في الحقل السياسي لا معنى للحساب مع منكر ونكير".

 هذا قول مرفوض. كان ذلك الرفض نتيجة لتأسلم العامة بعد تأسلم النشطاء. ما معنى تأسلم؟ الانتقال من أداء الشعائر إلى العمل على نشرها، الانتقال من تدين مستكين إلى تدين نشط...

 بعد هزيمة 1967 شهد العالم العربي صعود التنظيمات الإسلامية وبروز نشطائها يتشفّون في القومية العربية. كان مظهر السلفي موضة وتميّزاً.

 في ثمانينيات القرن الماضي كان النشطاء الإسلاميون قابلين للعدّ بسهولة في أي درب أو حي في مدينة مغربية، وكانوا يقومون بأنشطة في فترات متباعدة وتراقبهم السلطة بشدة، وكان تأثيرهم يتزايد لأن الحزب (كما قال ماكس فيبر) بإشعاعه لا بعدد أفراده. في 2016 صار من الصعب إحصاء النشطاء، تكاثروا بشدة، وخاصة بعد أن أثمرت الدعوة غنيمة كراسي كبيرة بفضل الانتخابات.

 في الربع الأخير من القرن الماضي تكثّفت وسائل استثارة التديّن الشخصي فظهرت موجات. الموجة الأولى للنتائج أثمرت القاعدة وقادتها ولهم تعليم عالٍ ونزعتهم العابرة للأوطان لتكريس "الأممية الإسلامية"، والموجة الثانية وهي أشدّ، أثمرت داعش وقادتها بتعليم متوسط وتوجه لاستغلال الفوضى التي أعقبت الربيع العربي لتحويل التنظيم إلى دولة يهاجر إليها المجاهدون والمجاهدات لتقويتها. يتوقع أن يدرك قادة الموجة الثالثة أن الواقع لا يرتفع فيكيّفون أحلامهم معه.

 للقاعدة نظرية حربية قوامها "اضرب واهرب"، بينما يريد داعش الاستيلاء على الأرض والاحتفاظ بها لتطبيق الشريعة. كان النشطاء والقاعدة يطالبون الأنظمة بتطبيق الشريعة بينما داعش يتولّى الأمر بنفسه. وقد تمكن داعش من إقامة الخلافة في الشام وهي بقعة طاهرة حسب الأدبيات الجهادية. وبذلك أوصل داعش الإسلام السياسي إلى سقف تحقّق المطلق.

الإشكال: ما سمات المشهد السياسي المغربي في ظل الانتقال من تديُّن النشطاء إلى تديُّن العامة؟
يعتبر النشطاء أنّ محورية الدين النشط والمسيّس في المجتمع أمرٌ مُشرّف وصحوة للأمة وليس مشكلاً. وبذلك تجاوز دور نشطاء التنظيمات الإسلامية ونفوذهم، دور العلماء والفقهاء التقليديين. الدولة تعكس الاتجاه بتمويل وتنظيم وتوظيف شديد لاسترجاع المجال. لا يبدو أن أمير المؤمنين ووزارة الأوقاف توجه الناس دينياً. صلة المؤمنين بخطب الإنترنت أكثر من صلتهم بخطب الجمعة. صار فايسبوك منصة للحمدلة والحوقلة وإظهار التقوى للعلن..

 بدلاً من الأسلمة من فوق، صارت هناك أسلمة من تحت، خاصة في كل حاسوب وهاتف. كان بإمكان السلطة محاصرة تديّن النشطاء المعلَن، أما وقد ساد تدين العامة وصار ذلك هو مزاج المرحلة، وصارت السلطة مرغمة أن تشرب من نهر العامة، كما تقول حكاية الملك الذي حذّره مستشاروه من شرب ماء المطر الجديد كي لا يجن، فخزن ماء قديماً ليشرب منه هو ومستشاروه. فلمّا شرب العامة من الماء الجديد تغيّروا وقرروا أن الملك هو الذي جنّ. وماذا يحصل لمن يصرّ على مواصلة اللعب، حسب القواعد القديمة؟

 يفهم بالطريقة الأصعب بأن ما نجح أمس لم يعُد ينجح اليوم. حينها يلعب الشطرنج على طاولة النرد..
ما الذي تغيّر؟

 كانت الأسلمة موضة، أصبحت مصدر رعب. كان بالإمكان هزم تديُّن النشطاء بوليسياً وانتخابياً. صار ذلك صعباً بسبب عدم كفاية الوسائل للأهداف. لا يمكن اعتقال مليون شخص.

 كيف وصلنا إلى هنا؟

 بعد أن شددت الدولة مراقبتها للمساجد، وصارت تفتح وتغلق في أوقات معلومة يعمل بها أئمة رسميون، انتقل المتشددون إلى الإنترنت كبديل للتواصل والتعبئة وتحميل الفتاوي والخطب وتوزيعها على أقراص مدمجة. الوسيط الجديد أخطر من المسجد، لأنه 1- يجعل عدداً كبيراً جداً من الأشخاص على تواصل بخلاف المسجد الذي يستقبل أعداداً محدودة، منهم مَن يحرص على حذائه أكثر من صلاته. 2 - يوفّر معلومات لا تتوفر في المسجد، خطب وفتاوى وتصنيع متفجرات. 3 - غير قابل للمراقبة، كان بإمكان البوليس إرسال مخبر للصلاة في المسجد ومراقبة الوجوه، الإنترنت يجعل مراقبة تداول المعلومات والأشخاص صعبة جداً.
النتيجة حالياً: خبت أخبار الدعاة - من الشعراوي حتى عمرو خالد - لأن الوسيط الجديد يوفّر كل الأجوبة. لكل فرد فرصة تعميق معرفته الدينية فايسبوكياً، وعلى جدار فايسبوك لا تطفو إلا فتاوى التحريم الأشد والأغرب.
في فيديو يحظى بمتابعة كبيرة، يتحدّث المحاضر أمام الأخوة الفضلاء والأخوات الفاضلات، كل في صفّ، عن إصلاح النفس فتصير التوبة لها بعد فكري في مواجهة النقد الهدام الذي يستهدف هوية المسلم، كإنسان توّاب، يتمثل أخطاءه ويتجاوزها للتمسك بجوهر دينه فلا يخلط الكلمات والأشياء ويقوم بحفريات في روحه للوصول للحقيقة الإيمانية..

 والنتيجة؟ مَن يسمع المحاضر يظن أنه طوّر شيئاً.

 كيف وصل المحاضر الفقيه لذلك؟ بإقحام مصطلحات بنيوية من ميشيل فوكو في نصّ ابن تيميّة ليصير للتشدد وجه حداثي يوهِم المتلقين أنه آني ومعاصر ومتعدّد، بينما هو يجدد قشرته لا لبّه.
يقتضي التجديد التعدّدية السياسية النسبية، أي أنّ الحقيقة والخطأ واردان بالقدر نفسه. لا يستطيع نشطاء الإسلام السياسي قبول هذا.

 طيب وماذا عندنا؟

 أسلمة ذهنية وتديّن لفظي وتمثّل قدري للكون. التدين السائد الآن عندنا ليس فيه بعدٌ منتجٌ: يقول فيبر "لا يمكن للرأسمالية أن تستخدم عمل أولئك الذين يطبّقون مبدأ القدرية غير المنتظم".

 طيب ما سمات تدَيُّن المغاربة: هو عجيب، يغلب فيه الخوف من المجتمع على الخوف من الله، وهذا ما يسائل حقيقته باعتباره خوفاً من الجماعة وليس علامة تقوى.

 تطبيق على مجادلات تصنع الكثير من الكوليستيرول: احتفالاً بتسجيل هدف ضد ريال مدريد جرى اللاعب كراسكو إلى المدرّجات وقبل حبيبته أمام الكاميرات ومليار متفرّج، فعلّق جاري في المقهى على لقطة القُبلة: هذا مُنكَر. أجبته من منظومة الواقع لا من منظومة الدين: قمْ أطفئ التلفزيون وسيكسر المتفرّجون عظامك دفاعاً عن القُبلة (بضم القاف لا بكسرها!).

 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه