شيخنا والكمنجة

ذات ليلة قرر شيخ عشيرتنا أن يتعلّم عزف الكمنجة.
أزلامه تطبخ أعداء العشيرة في مشارف القرية، وهو يدندل رجليه من أعالي البيوت ويدوْزن الكمنجة ويقبّلها.
لم يتجرأ على إصدار نغمة واحدة. لم يضع القوس على الأوتار. نسمعه يقلبها أحياناً ويستعمل ظهرها ليطبل عليه. ظل يطبل على قفا الكمنجة لأسابيع، يطبل والمعركة تقترب منه ورجاله ينقصون وينقصون وينقصون.
2016-08-04

مرتضى كزار

رسّام وسينمائي من العراق


شارك
ذات ليلة قرر شيخ عشيرتنا أن يتعلّم عزف الكمنجة.
أزلامه تطبخ أعداء العشيرة في مشارف القرية، وهو يدندل رجليه من أعالي البيوت ويدوْزن الكمنجة ويقبّلها.
لم يتجرأ على إصدار نغمة واحدة. لم يضع القوس على الأوتار. نسمعه يقلبها أحياناً ويستعمل ظهرها ليطبل عليه. ظل يطبل على قفا الكمنجة لأسابيع، يطبل والمعركة تقترب منه ورجاله ينقصون وينقصون وينقصون.
لكن القرية لم تخلُ من الرجال. المعركة عندنا لا تأخذ الرجال، إنها تسوق النساء وتأسرهنّ كـ "فصليات" (جزء من التسوية) في مقايضات العشائر.
ظلّ يجرب إخفاء أصوات الرصاص بالتطبيل على كمنجته، ويشتكي بأنه محتاج إلى معلمة فرنساوية لتعلمه، بينما صفير الرصاص يلعلع ويجد مستقره في جذوع النخل. أصبح شيخنا مع موسيقاه المزعجة أكبر شيء يؤذي مسامعنا ويجعلنا نضطرب من الضوضاء.
حينما انقضت الحرب استمر هو في العزف، أو التطبيل كالعزف. قلنا له لم تعد هناك رصاصات تصفّر لتخفي صوتها. لكنه أنكر علينا ذلك وتذمّر من اتهامنا له بالإزعاج، وظل مواظباً على التطبيل لأنه يسمع صفير الرصاص وحده، كما لو كانت الحرب مازالت متّقدة من أجله فقط وتمنحه عرضاً خصوصياً. حاولنا بلا فائدة إقناعه بأن هذا ليس صفيراً إنما نحيب الجدات والخالات والعمات على ذويهن، فالأمهات يصدرن صوتاً غير ذلك.
بعد شهور تأكدنا أنّ شيخ عشيرتنا خرّف وأكلت عقله الجنية. ثم لمّا مات قرأنا في وصيته بأن أول شيء نفعله هو دفن كمنجته معه، وعلينا أن نجد حلاً لجذوع النخيل المثقوبة ونكتب في سيرته العظيمة عن مآثره وكرمه وشجاعته وضخامته وهيبته وألحانه المرهفة الطروبة التي يؤلفها!
وحالما دفناه ونثرنا التراب على الكمنجة المبسوطة على صدره، وجدنا أنفسنا في حالة وجدٍ وطرب. إنّها ذرّات التراب إذا سقطت على الأوتار تُصدر نغمة عذبة، بل هي أعذب ما عزفه شيخنا على الإطلاق.
 

وسوم: العدد 202

للكاتب نفسه

فسحة العيش في كرتونة

مرتضى كزار 2016-12-07

.. أما الناس الذين لا يعرفون اسمه فيسمّونه "أبو كرتونة". يظهر وحده مرتدياً الكرتونة على ظهره مثلما قوقعة الحلزون. كنزة رمادية عليها رسمة رجل آلي بمجسّات طويلة. هذا ما يستره...

في كل يوم ومنذ 41 عاماً!

مرتضى كزار 2016-12-01

ينتصب في قلب العاصمة بغداد تمثال شهريار و "قصخونته" شهرزاد، نديمته وراوية حكاياته. إنه واحد من أجمل تماثيل النحّات الراحل محمد غني حكمت. في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة...

نزيف الكتب

مرتضى كزار 2016-11-16

صحيح أنّ الكتاب سلعة أيضاً، تباع وتشترى ويروج لها، تخزن وتقتنى وتعرض وتفسد وتتجدد، لكن الاتجار بالكتب لا يشبه الاتجار بأي شيء آخر. أسواق الكتب في المدن العراقية، كالمتنبي ببغداد...