مهنة الأجداد المهددة بالاندثار: تربية النحل وإنتاج العسل تحت ظروف الحرب في اليمن

يواجه قطاع تربية النحل في اليمن تحديات متزايدة اليوم، أبرزها توقف تصدير العسل إلى الأسواق الخارجية، والصعوبات في التنقل بطوائف النحل بين المراعي المختلفة بسبب الألغام الأرضية وانتشار نقاط التفتيش الأمنية؛ وارتفاع أسعار الوقود المنزلي، مما أدى إلى الاحتطاب الجائر لأشجار السدر (لاستخدامها كحطب)؛ وآثار تغيّر المناخ؛ وتعرض طوائف النحل للتسمم نتيجة حملات الرش بالمبيدات الزراعية؛ وفرض رسوم تعسفية على النحالين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين في إطار نظام جباية الزكاة.
2023-03-30

شارك
نحلة تحطّ على قرص عسل طازج بيد أحد النحّالين في مديرية عتق بمحافظة شبوة، 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 // صورة لمركز صنعاء تصوير بعدسة سام تارلينغ

تربية النحل في اليمن قديمة قدم الحضارات اليمنية، إذ حافظ اليمنيون على قواعد مهنة النحالة على مر القرون، ويمكن تتبع تراثهم الغني في هذا المجال إلى ما قبل بزوغ فجر الإسلام. احتلت تجارة العسل خلال القرن العاشر قبل الميلاد المرتبة الرابعة في اقتصاد مملكة حضرموت، وكتب المؤرخ والفيلسوف اليوناني سترابو (64 ق.م – 24 م) عن العسل باعتباره من السلع الرائجة بين سكان اليمن، وعن تسلق اليمنيين الجبال بحثا عن طوائف النحل، بما في ذلك جبال بني سليم التي اشتهرت بوفرة العسل فيها وبقيت على شهرتها هذه منذ عصور ما قبل الإسلام. تغنّى الشعراء والملحنين والمطربين اليمنيين بهذا الذهب السائل الشهير كما في قصيدة ” يا عسل دوعن“، التي كتبها الشاعر حسين ابوبكر المحضار وغناها عملاق الفن المطرب ابوبكر سالم، وهي مجرد مثال على ترسّخ العسل بعُمق في الثقافة الشعبية اليمنية في وقتنا الحاضر كما كان عليه الحال قبل ألف عام.

اليوم، يُعد العسل اليمني من بين أشهر أنواع العسل في العالم وأغلاها ثمنا. تنتشر مهنة تربية النحل في معظم المحافظات اليمنية، وتحتل محافظة حضرموت المرتبة الأولى من حيث كمية إنتاج العسل، تليها شبوة وأبين والحديدة. يُعزى تميّز العسل اليمني إلى تنوّع المراعي النحلية المنتشرة في البيئة اليمنية التي تنتج أنواعا مختلفة من العسل، حيث يشتهر اليمن بتنوع طبوغرافي كبير يبدأ من السواحل وينتهي بالمرتفعات الجبلية، فضلا عن تعاقب السهول والوديان والصحاري، وهو ما انعكس على التنوع النباتي الغني. يُسمى العسل نسبة إلى النبات الذي جُمع منه الرحيق، وشجر السدر يُنتج منها أجود وأنقى أنواع العسل. تنتشر أشجار السدر – المعروفة أيضا باسم شوكة المسيح أو شجرة العناب (Ziziphus spina Christi) – بكثرة في اليمن ويتغذى النحل من رحيق أزهارها ، ليُنتِج ما يُعرف بعسل السدر المشهور بنقائه كعسل خام طبيعي خالٍ من المواد الكيميائية. لا يقل سعر الكيلو الصافي من العسل المُنتج من أشجار السدر عن 75 دولار أمريكي داخل اليمن، بينما يُباع الكيلو الواحد منه خارج اليمن بمبلغ قد يصل لـ 500 دولار أمريكي.

حتى وقت قريب، كان إنتاج العسل يُعد تجارة مربحة لليمنيين، حيث صُنف العسل عام 2003 كأحد السلع الاستراتيجية الخمس التي أعلنت عنها الحكومة اليمنية لأهميتها في رفد اقتصاد البلاد. عام 2002، قدرت الإحصائيات الرسمية لوزارة الزراعة اليمنية عدد النحالين اليمنيين بـ 81,734 نحال. تُعد مهنة النحالة اليوم واحدة من أهم مصادر الدخل التي تعيش عليها الكثير من الأسر ذات الدخل المحدود في اليمن (لا سيما في المناطق الريفية). قدّر تقرير للأمم المتحدة صدر عام 2020 أن حوالي 100,000 أسرة تعمل في قطاع إنتاج العسل، مشيرا إلى إقبال عدد متزايد من الشباب اليمني على هذه التجارة. تسببت الحرب منذ اندلاعها في تغيير خصائص قطاع تربية النحل، من قطاع يهيمن عليه نحالون متمرسون توارثوا قواعد المهنة عن آبائهم، إلى قطاع يشهد إقبالاً متزايداً من العديد من السكان المستجدين في هذا المجال، بما في ذلك الموظفين الحكوميين ممن لم يتلقوا رواتبهم بانتظام منذ اندلاع النزاع وسعوا إلى الانخراط في أنشطة جديدة مدرة للدخل للعيش عليها، فضلا عن النازحين داخليا ممن لجأوا إلى تربية النحل بعد انتقالهم من المدن إلى المناطق الريفية حيث تتواجد المراعي النحلية. ورغم أن هذه التحولات في القطاع قد تبدو واعدة من الناحية النظرية، ينظر النحالون التقليديون إلى التغييرات السريعة التي أحدثتها الحرب في قطاع تربية النحل كتهديد مطرد لهذه المهنة العتيقة.

فضلا عن ذلك، يواجه قطاع تربية النحل في اليمن تحديات متزايدة اليوم، أبرزها توقف تصدير العسل إلى الأسواق الخارجية، والصعوبات في التنقل بطوائف النحل بين المراعي المختلفة بسبب الألغام الأرضية وانتشار نقاط التفتيش الأمنية؛ وارتفاع أسعار الوقود المنزلي، مما أدى إلى الاحتطاب الجائر لأشجار السدر (لاستخدامها كحطب)؛ وآثار تغيّر المناخ؛ وتعرض طوائف النحل للتسمم نتيجة حملات الرش بالمبيدات الزراعية؛ وفرض رسوم تعسفية على النحالين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين في إطار نظام جباية الزكاة. وعلى ضوء ما تقدم، تستكشف هذه المادة بعض التحديات الرئيسية التي يعاني منها قطاع تربية النحل وإنتاج العسل في اليمن منذ اندلاع الحرب، وتستند في ذلك إلى مصادر شفهية ومكتوبة، بالإضافة إلى حلقات نقاشية أجراها المؤلفان مع عدد من النحالين اليمنيين.

مهنة مُهددة بالاندثار

أحد النحّالين يقص أقراص العسل من خلايا نحل خارج مديرية عتق بمحافظة شبوة ، 16 نوفمبر / تشرين الثاني 2020 // صورة لمركز صنعاء بعدسة سام تارلينغ

يشتهر العسل اليمني بخصائصه العلاجية كونه غالباً يُنتج بطريقة عضوية، ولذا حظي دوماً باهتمام كبير مع تنامي الطلب عليه. كانت منطقة الخليج أكبر سوق لتصدير العسل اليمني خلال العقود الأخيرة. وفي أوج ازدهار تجارة العسل، ذاع صيت نحالين معروفين من شبوة وحضرموت ممن لهم زبائن من أفراد الأسر الحاكمة والشيوخ في الخليج كانوا يحجزون طلبياتهم من العسل مسبقا (أحيانا قبل سنوات) عبر تُجار وسطاء من أصول يمنية مقيمين في السعودية أو في بلدان الخليج الأخرى. ورغم استمرار الطلب على العسل اليمني، أدت القيود المفروضة على الشحن وحركة البضائع والأشخاص منذ اندلاع الحرب إلى صعوبة تصدير السلع من اليمن الأمر الذي أثر على هذا القطاع المربح لشريحة السكان التي تعمل في تربية النحل وتجارة العسل. مع بداية النزاع، توقفت شركات الشحن العالمية مثل DHL و FedEx وغيرها عن العمل في اليمن، مما حَرم منتجي العسل من إمكانية الوصول إلى الأسواق الخارجية. 

في وقت لاحق، تحديداً عام 2016، دفع تفشي الكوليرا في اليمن العديد من الدول – منها الأردن ومصر – إلى فرض حظر على المنتجات الزراعية القادمة من اليمن بما في ذلك العسل والأسماك (فاقم الأمر تضخيم منظمات الإغاثة الدولية أعداد الإصابات والوفيات المبلغ عنها بغرض استقطاب تمويلات أكبر). ازدادت الأمور تعقيدا مع تراجع الثقة في جودة العسل اليمني خلال السنوات الأخيرة بسبب شيوع ممارسة خلط أنواع رديئة من العسل مع العسل اليمني بين التجار الساعين إلى زيادة أرباحهم،الأمر الذي يستدعي تطبيق ضوابط صارمة لاستعادة مكانة وسمعة العسل اليمني وإنشاء مختبرات متخصصة في اليمن تُصدر شهادات ضمان جودة العسل للمشترين قبل تصديره، وهي تدابير غير معمول بها حاليا في اليمن. بمجرد استئناف الصادرات مستقبلاً، سيحتاج اليمن أيضا إلى الحفاظ على مكانة العسل اليمني في الأسواق الخارجية، كونه يمثل أحد أثمن صادرات البلاد.

عرقلة حركة النحالين بسبب انتشار الألغام الأرضية ونقاط التفتيش الأمنية

لا يزال قطاع تربية النحل في اليمن تقليديا يعتمد على الترحال والتنقل بين المراعي المختلفة طوال العام. وعلى عكس معظم منتجي العسل حول العالم ممن يعتمدون غالباً على مناحل ثابتة تُرعى في المزارع، يعتمد النحالون اليمنيون على ترحيل طوائف النحل بين الجبال والوديان والسهول بحثاً عن المراعي المناسبة. حالهم حال الرعاة، يتعرض النحالون لخطر الإصابة أو الموت جراء الألغام الأرضية المزروعة التي أصبحت منتشرة في مراعيهم على نطاق واسع منذ بدء الحرب. فضلا عن ذلك، أدى الانتشار الكثيف لنقاط التفتيش الأمنية خلال فترة النزاع إلى تعطيل حركة التنقل من مرعى إلى آخر والتي كانت تُعد سلسة فيما مضى. يحتاج النحالون إلى نقل طوائف النحل ليلا – حين يكون النحل أقل نشاطا – الأمر الذي يزيد من صعوبة المرور عبر نقاط التفتيش الأمنية التي تترصد أي تحركات خاصة بعد حلول الظلام. ساهمت القيود المفروضة على تحركات النحالين – ممن يتم غالبا إيقافهم أو تأخيرهم عند نقاط التفتيش – في عدم استغلال مناطق شاسعة تصلح كمراعي للنحل، وهو ما أدى إلى قلة الإنتاج الكلي للعسل، بل وفي بعض الحالات، تكبُّد النحالين خسائر كبيرة بسبب هلاك طوائف النحل بأكملها. كما أن تقييد الوصول الى المناطق التي لا تزال غير مستغلة بسبب المعارك المستمرة أو انتشار الألغام الأرضية يؤدي إلى تكدس طوائف النحل في المراعي التي يسهل الوصول إليها والتي قد لا تستوعب الأعداد الزائدة من النحل. أشارت إحدى النحالات من وصاب بمحافظة ذمار إلى أن “النحلة لا تأكل من رحيق زهرة أكلت منها نحلة أخرى”، وهو ما يُبرز التحدي الناجم عن التنافس على المراعي المحدودة بين النحالين. أكد نحالون آخرون على هذا بالقول إنه حين يتكدس النحل السارح في مرعى معين، ينتهي به الأمر بالعودة إلى خلاياه جائعا وأحيانا يأكل العسل الذي أنتجه بالفعل.

بقية التحقيق على موقع "مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية"

مقالات من العالم العربي

انهيار التعليم العام في منطقتنا

تتصل مسألة التعليم بشكل مباشر بالوعي الجماعي والتعاون الاجتماعي في أي مجتمع، أي وباختصار بعملية َتشكّله. وهذه مقاربة أولى تسجِّل المعطيات الموضوعية لتراجع التعليم العام في منطقتنا بل وانهياره. فما...