تهديد التراث عندما يطال الأهرامات

تكشف الحرب المقامة على التراث بدعوى التحديث، وهيمنة العقلية الربحية بأكثر معانيها فجاجة، استفحال أزمة الهوية، إذ يحل الانتماء أينما حلّت الأموال، بينما إنْ غابت، تكشّر حال كراهية الذات عن أنيابها. وتُشَنّ حربٌ على التراث، بدعوى تجميله وتطويره، وتحويل القاهرة إلى دبي، وشرم الشيخ إلى لاس فيغاس، وسرعان ما يتبدى فشل هذه الجهود في الوصول إلى الصورة أو النموذج المستهدَف.
2023-03-10

شريف محي الدين

باحث في التنمية والإثنوغرافيا الحضرية، من مصر


شارك
الطريق السريع قرب الأهرامات

تفتخر مصر دولة وشعباً بتراث حضاري يمتد لأكثر من سبعة آلاف عام. غير أن العديد من الكنوز من آثار وتراث، قد يتم النظر إليها بوصفها عائقاً أمام أعمال توسعة المدن، وبناء المدن الجديدة، وربطها ببعضها البعض. ينطبق ذلك على العاصمة الحالية القاهرة، ومشاريع الطرق والكباري والمحاور المرورية لربط أجزاء مختلفة منها وكذا ربطها بالعاصمة الإدارية الجديدة والتي يكرسها الرئيس عبد الفتاح السيسي كدرة تاج سلطته، وفخر إنجازاتها، بعد مشروع التفريعة الإضافية الشهير بقناة السويس الجديدة.

طرق سريعة في حرم الأهرامات

شهدت مصر ما بعد تموز/ يوليو 2013 موجة سريعة في البناء، وإنشاء الطرق والكباري، للوصول إلى عشرات من الانتصابات العمرانيّة على شاكلة مدن جديدة في الصحراء. مع تلك الوتيرة في الإنشاءات، تبرز من وقت لآخر إشكالية التعامل مع التراث، القائم في شكل مبانٍ تاريخية، أو مناطق مصنفة على أنها أثرية أو ضمن مناطق التراث.

يسري ذلك على أصغر الآثار وأكبرها وصولاً  إلى الأهرامات، وهي الإرث العالمي الوحيد الذي لا يزال يقف شامخاً من عجائب الدنيا السبع. لجأت السلطة الحالية إلى تنفيذ مشروعٍ كان قد سبق طرحه في عصر الرئيس المخلوع حسني مبارك، ويقوم على شقّ طريقين سريعين بالقرب من الأهرامات، فواجهته حملة كبيرة محلية ودولية، انتقدت تأثيراته البيئية على الأهرامات، وعوامله التدميرية، من طمس كنوز أثرية محتملة، إذ يقطع هذا الطريق قلب "منف" (أو "ممفيس") العاصمة المصرية القديمة.

لكن، ومن غير مبالاة كبيرة بهذه الاعتراضات القديمة والتي تجددت مؤخراً، فرضت سياسة الأمر الواقع، وشقّت الطرق السريعة في رحاب الأهرامات. لم يجرِ توضيح الآثار السلبية لمثل هذه المشاريع عليها وكيف يمكن تفاديها. ولم يُتطرق إلى ما تغيّر ليقع تجاهل هذه المخاوف والنداءات.

ما يمكن استنتاجه هو أن أحد الطريقين، الطريق الجنوبي بمنطقة دهشور، يقوم بربط مدينة الإنتاج الإعلامي في "السادس من أكتوبر" بالعاصمة الإدارية الجديدة شرقي القاهرة عبر 16 كيلومتراً في الصحراء. وردّاً على تصاعد المخاوف من الآثار السلبية لهذه الطرق السريعة في رحاب الأهرامات، نقلت إحدى الصحف المصرية عن مصدر لم تسمه في محافظة الجيزة، أن أجهزة الدولة أجرت مسحاً شاملاً للمناطق التي تنشأ فيها الطرق، شملت الآثار والاكتشافات الأثريّة، وتأكد خلوها من اكتشافات جديدة.

شهدت مصر ما بعد تموز/ يوليو 2013 موجة سريعة في البناء، وإنشاء الطرق والكباري، للوصول إلى عشرات من الانتصابات العمرانية على شاكلة مدن جديدة في الصحراء. مع تلك الوتيرة في الإنشاءات، تبرز من وقت لآخر إشكالية التعامل مع التراث، القائم في شكل مبانٍ تاريخية، أو مناطق مصنفة على أنها أثرية أو ضمن مناطق التراث.  

إلا أن هذه المصادر نفسها أوضحت أن الطرق الجديدة كان مخططاً لها أن تكون أنفاقاً، ولكن تم تعديلها لتكون أعلى سطح الأرض، وهو ما يتسق مع الفرضية المقابلة التي ظلت تحذّر من أخطار هذه الأعمال الإنشائية الكبيرة على كنوز من التراث والآثار تحت الأرض.

وللمفارقة، فإن تلك الأعمال تأتي في وقت لا تنفك فيه الحكومة المصرية تتباهى بالاكتشافات الأثرية الجديدة، وتجهيز متاحف مثل متحف الحضارة، ومتحف العربات الملكية، والمتحف المصري الجديد. إضافة إلى عقد حفلات استعراضية ضخمة، يشارك فيها رئيس الجمهورية، كما حدث في احتفالية موكب المومياوات الملكية في نيسان/ أبريل 2021، والذي تضمن الاحتفاء بـ 18 مومياء لملوك و4 مومياوات لملكات، مع نقلهم من المتحف المصري في ميدان التحرير، إلى "متحف الحضارة" في منطقة الفسطاط التاريخية في القاهرة، إضافة إلى احتفالية إعادة إحياء "طريق المواكب الملكية بالأقصر" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021.

كما تابع رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وتفقد أعمال استكمال حفائر البعثة الأثرية المصرية العاملة بمنطقة "آثار سقارة"، والتي أسفرت عن الكشف عن آبار جديدة مدفون فيها عدد ضخم من التوابيت الآدمية الملونة والمغلقة منذ أكثر من 2500 عام. وبعكس ما يتم إعلانه في هذا الصدد من بيانات تفصيلية عن الاكتشافات الأثرية، وجولات ولقاءات حكومية، فإن الصمت واللامبالاة يسودان عندما يتم فرض مشاريع تهدد التراث والآثار، كذلك الأمر فيما يخص الطرق السريعة في حرم الأهرامات، ليكتشفها الرأي العام، بعد الشروع فيها أو مع قرب انتهائها.

مقابر غير آمنة من بلدوزر التحديث

ولم تسلم الآلاف من مقابر مصر الإسلامية مما أصاب آثار مصر القديمة من العدوان، فقد أزيلت عشرات المقابر التاريخية ضمن حيز قرافة المماليك، لعمل "محور الفردوس" المروري، للربط مع القاهرة الجديدة. كما أزيلت 600 مقبرة لإقامة "محور ياسر رزق" المروري، بحسب تصريحٍ للواء إبراهيم عوض، المتحدث باسم محافظة القاهرة. هذا علاوة عن إعلان محافظة القاهرة عن نيتها إزالة نحو 2700 مقبرة (1) في حيز مقابر "مدينة الموتى" والتي تقع أمام أبواب مدينة القاهرة الإسلامية القديمة، وأسفل هضبة المقطم، بهدف إنشاء كوبري جديد ليساهم في الربط بالعاصمة الإدارية الجديدة، وهو أحد المشاريع الضخمة التي تعمل السلطة الحالية عليها.

جرى التعامل باللامبالاة نفسها - وإن أجريت بعض التعديلات الطفيفة - بعد أن انتشرت صور لمقبرة الأديب الكبير طه حسين وقد وضعت علامة إزالة عليها بالأحمر، فتصاعدت حملة منددة بذلك، وأكدت دكتورة مها عون، حفيدة طه حسين، موقف الأسرة في أنه "لا نرحب بهدم قبر عميد الأدب العربي وعدم احترام موتانا". وبعد تصاعد الحملة، تراجعت محافظة القاهرة عن هذه الخطوة، متذرعة بأن كلمة إزالة كتبت بطريق الخطأ على مقبرة الأديب الراحل!

من غير مبالاة كبيرة بالاعتراضات القديمة والتي تجددت مؤخراً، فُرِضت سياسة الأمر الواقع، وشُقّت الطرق السريعة في رحاب الأهرامات. لم يجرِ توضيح الآثار السلبية لمثل هذه المشاريع عليها وكيف يمكن تفاديها. ولم يُتطرق إلى ما تغيّر ليقع تجاهل المخاوف والنداءات.

لم تسلم الآلاف من مقابر مصر الإسلامية مما أصاب آثار مصر القديمة من العدوان. أزيلت عشرات المقابر التاريخية ضمن حيز قرافة المماليك، لعمل "محور الفردوس" المروريّ، للربط مع القاهرة الجديدة. 

وفي الوقت الذي انتصر فيه العديد من المصريين لطه حسين في قبره، فإن مئات من المقابر الأخرى قد أزيلت في الأشهر الماضية، كما أن هناك الآلاف من المقابر تحت طائلة التهديد، فعلى سبيل المثال، ناشدت الكاتبة نهى حقي ابنة الأديب الكبير يحي حقي المسؤولين عدم المساس بقبر أبيها، وأعربت عن حزنها الشديد، بعد أن تواصل معها مسؤول المقبرة ليخبرها نية الدولة هدم المقبرة. ولم يكن ذلك التواصل رسمياً، ولم توضّح الخطة البديلة.

اهتمام منقوص بالتراث

يرى البعض في هذه التصنيفات التراثية إغلالاً ليد صانع القرار عن عمليات تخصيص وإعادة تخصيص الأماكن، ومنحها لمستثمرين أجانب، والتربح على هامشها، سواء ذهبت هذه الأرباح إلى الموازنة العامة للدولة، أو وضعت في صناديق أو في جيوب خاصة. لكن، وبينما تعوم بعض الدول على آبار متدفقة من الذهب الأسود، فإن كنوز مصر تكمن في تراثها. من المهم التوقف مع النفس وسؤالها، هل نهتم حقاً بالحفاظ على التراث، باعتبار أنه امتداد لتاريخنا القديم، وجزء من هويتنا واعتزازنا بأنفسنا، وجزء من التاريخ والحضارة الإنسانية العالمية؟ أم أننا نهتم ببعضه لمجرد كونه وسيلة تدر نقداً أجنبياً يساهم في تحسين مداخيلنا ومستوى معيشتنا؟

حرب على التراث واستمرار لاحتقار الذات

ربما أن فكرة الانتماء إلى عمق حضاري يمتد لآلاف السنين، ولا يزال يبهر العالم مع كل اكتشاف أثري وعلمي، لِما توصل إليه قدماء المصريين - ولا زالت إنجازاته، من أصغر الأشياء إلى أكبر أهراماتها، ينظر إليها على أنها أقرب إلى المعجزات - تضيف ثقلاً وعبئاً كبيرين، بمجرد الالتفات إلى حاضرنا مجدداً، فنجد كل هذا التضعضع، وكل هذا الهوان.

يرى البعض في هذه التصنيفات التراثية إغلالاً ليد صانع القرار عن عمليات تخصيص وإعادة تخصيص الأماكن، ومنحها لمستثمرين أجانب، والتربح على هامشها، سواء ذهبت هذه الأرباح إلى الموازنة العامة للدولة، أو وضعت في صناديق أو في جيوب خاصة. 

وبدلاً من الأخذ بالأسباب، واستلهام حال تقدّم من سبقنا، ومحاولة سبر أغوار ما توصلوا إليه، مع الحفاظ على منجزاتهم، وتخليد آثارهم، وتعميق الإحساس بالانتماء اليهم، يتم الاستسهال، بمحاولة استخدام هذه الآثار، لتحقيق ربح سريع، بغض النظر عن إضفاء الطابع القانوني على هذه المحاولات عندما تقوم بها الدولة، أو انعدام ذلك، عندما تقوم بها مجموعات وأفراد بغرض تهريب وبيع الآثار المصرية في الخارج.

تكشف الحرب المقامة على التراث بدعوى التحديث، استفحالَ أزمة الهوية، وهيمنة العقلية الربحية بأكثر معانيها فجاجة، إذ يحل الانتماء أينما حلت الأموال، بينما إن غابت، تكشّر حال كراهية الذات عن أنيابها. وتُشَنُّ حربٌ على التراث، بدعوى تجميله وتطويره، وتحويل القاهرة إلى دبي، وشرم الشيخ إلى لاس فيغاس، وسرعان ما يتبدى فشل هذه الجهود في الوصول إلى الصورة أو النموذج المستهدَف، فينتج لنا كائناً مشوهاً، بعد تخريب أغلى وأغنى ما تملكه القاهرة، وهو تراثها، من غير الوصول إلى مستوى "التحديث" الذي وصلت إليه دبي! 

______________________

1 - https://www.bbc.com/arabic/art-and-culture-59380735

مقالات من مصر

كيف جرى تكبيل مصر واستعبادها؟

رباب عزام 2024-03-21

يبدو أن السلطة المصرية لن تتوقف نيتها في بيع الأصول والأراضي، ولن تكتفي فقط بما حُسم من صفقات منذ العام 2021، بل ستسعى إلى مزيد من عمليات البيع، تنفيذاً لاشتراطات...

السيسي وثمن دماء الفلسطينيين

حسام خليفة 2024-02-26

تضاعف الدين المصري، في السنوات الخمس الأولى من عهد "نظام يوليو 2013"، أكثر من خمسة أضعاف بحسب وزير المالية المصري آنذاك، عمرو الجارحي. بينما ارتفع إجمالي الدين الخارجي المصري إلى...