المقولة السائدة والمقبولة بين الباحثين المهتمين بدراسة جماعة الإخوان المسلمين في مصر (1928 وحتى الآن) أنّ تكوين الجماعة وبنيتها هرمية هيراركية، وهي لذلك جماعة ذات بنية حداثية في تكوينها، حسب هذه المقولة. وينبني على هذا التصور محاولة التقريب بين تكوين الجماعة، وبين تكوين المؤسسة العسكرية، وإيجاد عدد من المتشابهات بينهما تستخدم في الصراع السياسي الدائر في مصر، منذ صيف 2013.
البنية الهرمية تقتضي وجود قمة الهرم الأحادية في الأعلى والقاعدة العريضة في الأسفل، حيث تسيطر القمّة على القاعدة سيطرة تامّة، وحيث تسري سلسلة الأوامر من أعلى إلى أسفل في حلقات متصلة دون انقطاع. ولضمان صلابة بنية الهرم وتراتبيته، فيجب وجود نظام عقاب صارم على المستويات المختلفة يجعل الخوف منه العقاب علاج وقائي ضدّ المخالفات والانشقاقات التي قد تهدد السيطرة على البنية الهرمية.
في الحقيقة، فإنّ التحولات التي أصابت الجماعة بعد 2013 كشفت أن النموذج الهرمي غير قادر على تفسير بنية الجماعة، فضلاً عن تحولاتها بعد هذا التاريخ.
فعلى مدار تاريخها الطويل، شهدت الجماعة العديد من انشقاقات أعضائها دون أن تصيبهم غائلة العقاب.كما قد برزت خلافات الجماعة على السطح وفي العلن إزاء مواجهة التدمير غير المسبوق لها من قبل الدولة المصرية، في حين بدا جسم جماعة الإخوان متحركاً سواء في المهجر أو في الداخل المصري، دون أن يُفهم تحديداً كيف يتحرك هذا الجسم مع فقدان رأس الهرم الذي أودع السجن منذ ثلاث سنوات.
كيف يمكن إذاً فهم بنية جماعة الإخوان؟
يمكن وصف هذه البنية بالفلكية أو الدائرية. وبناء على هذا التصور، تبدأ الجماعة من نواة صلبة وهي مركز الدائرة، وينتظم أعضاؤها في أفلاك/مدارات تدور حول هذه النواة الصلبة. يبدأ العضو في الانتظام في الفلك الأول، وهو الأبعد عن النواة الصلبة، ويتحتم عليه قضاء فترة زمنية في هذا الفلك يتلقى خلالها تربية وتكوين خاصّين بهذه المرحلة. فإذا اجتازها استحقّ الانتقال إلى الفلك الثاني، وهكذا. حتى تستحق القلة القليلة التي تجتاز جميع الأفلاك مرتبة الأستاذية وهي المرتبة التي تجعل من ينالها عضواً في النواة الصلبة للجماعة. تبدأ الدعوة من مرحلة تُدعى "الربط العام" والتي تستهدف ربط الجمهور الواسع من المجتمع بجماعة الإخوان، فهو الخزان الذي يأتي منه المحبّون/ الأعضاء المحتملون من ناحية، والذي يُبقي الجماعة على اتصال بالمجتمع الذي تعيش فيه، من ناحية أخرى.
فيما عدا النواة الصلبة، فإنّ عدد الأفلاك الدائرة حولها خمسة أساسية، هي: محب، مؤيد، منتسب، منتظم، عامل. في حين، لم يرَ سعيد حوّى في كتابه "جند الله تخطيطًا" فرقاً بين المنتظم والمنتسب على ما يبدو، زاد في هذه الأفلاك ثلاث دوائر إضافية وهي النقيب والركن والداعية. وهذه الأفلاك هي بدءاً من أقصى الدائرة حتى أقربها من النواة الصلبة حسب حوّى: محب مستمع، منتسب، عامل، نقيب، ركن، داعية، أستاذ. وبناء على هذا التصور، يدور عضو الجماعة في فلك حول النواة صلبة. ويعني هذا بشكل ما أن البنية الأساسية للجماعة تحمل بذور تشظيها عبر انشقاق أفرادها.
الانضمام للجماعة في أصله فردي، لأنّ الفرد هو المستهدف في الدعوة التي هي آلية التجنيد في الجماعة، وقد نظّر الكثيرون، ومنهم القرضاوي، لهذه المرحلة التي تسمّى "تكوين الفرد المسلم."
ولضمان بقاء العضو دائراً في فلكه حتى يستكمل شروط تكوين وتربية مرحلته، تعتمد الجماعة وسائل اقتصادية واجتماعية لجبر هذا الضعف الجوهري في بنية الجماعة، وأهمها الاشتراكات المالية التي يسددها العضو المنتسب، فلا يُطلب من أيّ من المحب أو المؤيد تسديد اشتراكات، وكذلك الأنشطة التجارية الاستثمارية التي تؤمن فرص عمل لبعض الأعضاء، وتموّل أنشطة الجماعة الدعوية والنقابية والسياسية. ولذا فإن تمويل الجماعة ذاتي في المقام الأوّل.
وعلى المستوى الاجتماعي، فإنّ تقليد الزواج بين الإخوة والأخوات لا يعمل فقط على ربط العضو الدائر ببنية الجماعة، ولكن كذلك يعطي فرصة لانضمام المرأة لها. فتكوين البنية الأساسية للجماعة لا يعطي للمرأة مكاناً أصيلاً، بمعنى أنها لا يمكنها الانضمام والترقي في أفلاك الجماعة دون أن تتزوج من عضو فيها. هذه العلاقة ليست غريبة، فهي تعكس الفهم العام لعلاقة الرجل بالمرأة في الإسلام كعلاقة بين متبوع وتابع، وأنّ المرأة ليست كاملة الأهلية لتنفرد وتستقل بفعل ما، أو عضوية ما.
بالإضافة لهذا التكوين الدائري، فإنّ الأعضاء الدائرين في الأفلاك الأبعد عن النواة الصلبة يجب ربطهم بالأعضاء الدائرين في الأفلاك الأقرب من النواة الصلبة. وهنا يأتي دور "الأسر" التي هي عبارة عن تكوينات أخوية، يلتقي فيها أخوان من أفلاك مختلفة، مثل الأخ العامل مثلاً، مع عدّة إخوة من فلك المنتظمين، لينقل لهم التعليمات التربوية والحركية التي تمثل تقاليد الجماعة وعقائدها، وينقل لهم كذلك قرارات مكتب الإرشاد/النواة الصلبة بصدد النشاط الحركي المتغير للجماعة. والإخوة المنتظمين بدورهم، يلتقي كل واحد منهم مع عدد من الإخوة المنتسبين لنقل نفس حزمة التعليمات والقرارات. نظام الأسر أشبه بسلسلة السند التي تسري فيها التعليمات والقرارات بتلقائية من النواة إلى الأفلاك، وتحفظ هذه السلسلة للجماعة تقاليدها التربوية والفكرية عبر الأجيال وتعطي تماسكاً أكبر لهذا التنظيم الدائري.
هذه البنية بمفرداتها ومقتضياتها تؤدي لأمرين. أولهما العزلة التي تفرضها طبيعة هذا التنظيم الدائري الذي أدّى لتكوين جماعة متمايزة، لها نسقها وتقاليدها الخاصة المتمايزة عن المجتمع الأكبر الذي تعيش فيه.بالتالي فقد كرّست الجماعة خطاباً مغرقا في الغربة: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"."ليجعل العزلة الشاقّة أمراً متحمّلاً بل ومقبولاً ومحبوباً لدى أعضاء الجماعة.
والأمر الثاني، هو تعظيم أخلاقيات الطاعة والتضحية. فلا يُتصور بقاء العضو في فلكه لو تُرك له التفكير الحر والنقدي، بل يجب عليه الطاعة للحفاظ على سلسلة التعليمات متصلة، وللحفاظ على تقاليد الجماعة ونقلها من جيل إلى جيل. وعلاوة على ذلك، فالجماعة سابقة وذات أولوية على أفرادها، ما يؤدي إلى تكريس وتعظيم أخلاقيات التضحية لحفز الأفراد للاستغناء عن استقلالهم الكامل وكيانهم لأجل مصلحة الجماعة واستمرار وجودها. فمن وضمن تقاليد التربية الأساسية في أسر الإخوان هو تعظيم ضرورة التضحية: التضحية بالنفس وبالمال وبالوقت وبالجهد لأجل الدعوة.. ويقولون"الدعوة"، وهم يقصدون "الجماعة".
خصائص هذه البنية ليست حداثية، بل تنتمي لبنية جماعات عصر ما قبل الحداثة. فبنظرة على التاريخ يمكن إيجاد بعض التشابهات بينها هذه البنية وبنية جماعة مثل "إخوان الصفا" مثلاً من القرن العاشر الميلادي. الأمر الثاني المترتب على هذا النموذج هو تفسير أفضل لظاهرة الانشقاق والتشظي في الجماعة وكذلك علاقتها بالعنف المحتمل. فتكوين الجماعة الدائري يفترض وجود حالة من السلم والاستقرار لأنّ عملية إدامة هذه البنية تحتاج لوقت طويل.
وفي أوقات التنكيل بالجماعة مثلما هو حاصل منذ صيف 2013، فإن تشظيهامن السهولة بمكان. فحين يتم القضاء على النواة الصلبة المركزية بالقتل أو الاعتقال، فإنّ سلسلة السند التي تتكون عبر نظام الأسر الأخوي تفقد منشأها الأساسي. وبالتالي يختل كل عضو في فلكه، وقد يتولى أدواراً أكبر غير مأذون له بها في الأصل بل منوطة برتب أعلى، مثل أن يتولى الأخ المنتظِم مثلاً مهام الأستاذ/النواة الصلبة. وفي النهاية، فإنّ عملية اتخاذ القرارات ونقل التعليمات تختل في مجملها. وفي ضوء هذا، قد يمكن تفسير انقسامات الجماعة الحالية أو التفريق بين انخراط بعض أفرادها في العنف، نتيجة فقدان البوصلة التي يحددها مكتب الإرشاد، وبين تبنيها لمنهج العنف في التعاطي مع التنكيل اللاحق بها باعتبار آلية اتخاذ القرارات في البنية الدائرية الأصلية، وهو ما لا يمكن إجراؤه عمليًّا بسبب التدمير المنظم لبنية الجماعة منذ 14 آب/ أغسطس 2013.