هل كانت سوريا بحاجة إلى الزلزال لتكتشف مدى تهاوي مؤسساتها؟

كشف الزلزال-الكارثة الذي أصاب سوريا وتركيا في شباط/فبراير 2023 تهالك المنظومة الصحية السورية والمتجسد في النقص الفادح في المستشفيات الثابتة وإمكانية استحداث تلك الميدانية علاوةً على النقص الهائل في أعداد الكوادر الطبية والمعدات اللازمة، حتى تلك البسيطة منها.
2023-03-07

طارق علي

كاتب صحافي من سوريا


شارك
مستشفى المواساة في دمشق

النقص الفادح في الطواقم البشرية والمعدات الطبية بدا جلياً إثر الكارثة التي أفضت إلى عشرات آلاف الضحايا من القتلى والمصابين ومئات آلاف المشردين، (مصادر تتحدث عن نحو مليون مشرد). يمكن ردّ الأمر بحسب المصادر الحكومية إلى جملة أسباب أبرزها: "الإرهاب" وقوانين العقوبات الصارمة التي تفتك بسوريا منذ عقد (عددها أكثر من 2500 عقوبة حتى الآن).

وحقيقةً، لا يخفى على أحد أنّ الحرب المستعرة في سوريا قضت فعلياً على المنظومة الطبية وأدواتها. ولكنّ مر على ذلك عملياً أكثر من ست سنوات، فبعدها بدأت حدّة المعارك تتراجع.

فما الذي فعلته الحكومة بعد ذلك؟ هل وضعت خطة استراتيجية لتدارك ما حصل وبناء واقع جديد ضمن جدول زمني واضح الأهداف والمعالم؟ قطعاً لم تفعل، ولا يبدو أنّها ستفعل، حتى أنّها ولو لمرة واحدة لم تطالع الشارع بمستجدات عملها العملياتي والفعلي على الأرض - أي الحقيقي وذي النتائج - والذي يفترض أن يسهم في تدارك ما فات وإعمار ما تدمر، ولكن ذلك لم يحصل أيضاً، والحجة جاهزة على الدوام: قانون "قيصر".

خرق الحصار

إثر تداعيات الزلزال وما حصل من انفتاح إغاثي عربي ودولي نحو دمشق كاسراً عزلة سياسية رهيبة ذاقتها سوريا لعقد من الزمن، صدر القرار الأمريكي بخرق بنود "قيصر" المتعلقة بسماح التوريدات الصحية الإغاثية إلى سوريا لمدة مئة وثمانين يوماً فقط، وتبعها قرار الاتحاد الأوروبي للمدة نفسها والشأن ذاته، فجاء رفع العقوبات المرحلي ذاك بمثابة "خلاص من المسؤولية"!

 انتشت الحكومة، وبدا مسؤولوها مبتسمين سعيدين، وكأنهم يقولون: "أرأيتم يا شعب سوريا، أنتم تعانون بسبب الحصار الغاشم الظالم لا بسبب سوء إدارتنا لمواردنا المتبقية وانعدام قدرتنا على وضع سياسة ناظمة تتماشى مع الحال المعاش".

صحيح أن الحرب المستعرة في سوريا قضت فعلياً على المنظومة الطبية وأدواتها. ولكنّ ذلك تركّز عملياً مع النصف الأول من عمر الحرب، قبل أكثر من ست سنوات، فبعدها بدأت حدّة المعارك تتراجع. فما الذي فعلته الحكومة بعد ذلك؟ لا يبدو أنّها ستفعل!

سوريون كثر أجروا مقارنات بحالات حصار مشابهة مفروضة على دول بعينها والبعض من تلك الدول حقق تعايشاً وتفوقاً داخلياً على شروط الحصار وكاد يصل الى الاكتفاء المطلوب، إلا أنّ سوريا لم تنجح في التعامل مع الحصار الذي سمح باستشراس الفساد واستشرائه وفرز طبقتين وحيدتين في المجتمع، واحدة هائلة الثراء، والأخرى قتيلة الفقر والبرد والجوع. فحتى علم الاجتماع لم ينجُ في سوريا ولم ينجح في إثبات نظرياته القائلة بضرورة وجود طبقة وسطى: هذه الطبقة اندثرت في سوريا تماماً.

يكفي القول هنا إنّ في سوريا قانوناً مستحدثاً يقضي بـ "جمركة" الهواتف المحمولة ليتمكن الهاتف من العمل على شبكة الاتصالات المحلية، ونسبة الجمركة تلك قد تصل الى حدود 300 في المئة من سعر الجهاز الأصلي، علماً أنّه في قانون الجمارك السوري ثمة بند يشرح وجوب عدم تجاوز القيمة الضريبية للسلعة قيمتها الأصلية. ولكن من يكترث للقوانين أصلاً؟، لا سيما إذا ما أشرنا إلى أنّ تلك الجمركة تذهب إلى جيوب رجال أعمال محظيين ومحسوبين على الحكومة.

بل ويكفي القول إنّ الحكومة دمّرت الزراعة والصناعة وبقايا التجارة. فإن لم تكن هذه الحكومة الحالية على وجه التحديد، فتلك الحكومات التي سبقتها خلال الحرب بكل تأكيد، وأكبر مثال هو القضاء على مواسم ومحاصيل الشمندر السكري في منطقة الغاب بحماه، وترك المزارعين لمواجهة إتلاف محاصيلهم قبل أعوام. ومثل الشمندر حال القمح وغيرهما. وبالنسبة للحكومة الحالية فلم تدخر جهداً في دفع مزارعي الساحل لإتلاف محاصيلهم في العام الماضي، وقد وصل سعر كيلو البصل لـ12 ألف ليرة سورية (حوالي 2 دولار أمريكي)، أي أنّ مرتب الموظف السوري هذه الأيام يشتري 10 كيلوغرامات بصل.

إثر تداعيات الزلزال وما حصل من انفتاح إغاثي عربي ودولي نحو دمشق كاسراً عزلة سياسية رهيبة ذاقتها سوريا لعقد من الزمن صدر القرار الأمريكي بخرق بنود "قيصر" المتعلقة بسماح التوريدات الصحية الإغاثية لسوريا لمدة مئة وثمانين يوماً فقط، وتبعها قرار الاتحاد الأوروبي للمدة نفسها والشأن ذاته، فجاء رفع العقوبات المرحلي ذاك بمثابة "خلاص من المسؤولية"!

في عهد كل تلك الحكومات المتتالية جاع الناس، ذاقوا الأمرين، قاسوا الفقر، وكلما تنفسوا الصعداء ولو قليلاً، جاءتهم مصائب من حيث لا يحتسبون. أولئك الفقراء الذين لا زالوا يتذكرون أن هاتف "آيفون 13" نزل في إحدى شركات سوريا قبل أن يصل إلى دبي. يسأل الناس حكومتهم عن أي "قيصر" تتحدث، وسيارات البوغاتي والمرسيدس والفيراري صارت موجودة في شوارع البلد رغم أنف الحصار ورعاته.

الاستفزاز بالدواء

واستمراراً في سياساتها القهرية، رفعت حكومة دمشق أسعار الادوية بنسبة 50 في المئة عشية الزلزال، ما شكّل عبئاً إضافياً على السوري الذي كان يعجز عن دفع ثمن الدواء قبل الرفع.

"أعاني من مشكلة نفسية نجمت عن الزلزال"، تقول الشابة ميرنا خمري من اللاذقية (1)  شارحةً توجهها للعلاج لدى طبيب نفسي، وتتابع "صار لديّ حالة من الهلع والخوف بعد ما عشناه، كل قليل أشعر بالأرض تهتز من تحتي ومَن بجواري لا يشعرون بشيء، زرت طبيباً ووصف لي بضعة أدوية".

ميرنا بحثت في كل اللاذقية ولم تجد تلك الأدوية، حتى أنّها وصلت في بحثها إلى دمشق ولكن دون نتيجة، مبينةً أنّها مضطرة للحصول على تلك الأدوية لأنّ حالتها تسوء، "أبحث عن دواء زولام ودولوكسيتين، ولكن دون نتيجة، ألم يقل المسؤولون إنّهم رفعوا سعر الأدوية وستتوفر فوراً؟ طيب، ها قد رفعوا سعرها، فلماذا لم تتوفر؟ وعدني سائق سيارة يعمل على خط بيروت أن يجلب لي الدواء من هناك خلال الأيام القادمة".

في عهد الحكومات المتتالية جاع الناس وقاسوا الفقر، وكلما تنفسوا الصعداء ولو قليلاً، جاءتهم مصائب من حيث لا يحتسبون. أولئك الفقراء لا زالوا يتذكرون أن هاتف "آيفون 13" نزل في إحدى شركات سوريا قبل أن يصل إلى دبي. يسأل الناس حكومتهم عن أي "قيصر" تتحدث، وسيارات البوغاتي والبينز والفيراري صارت موجودة في شوارع البلد رغم أنف الحصار ورعاته.

وكما هي حال ميرنا، فالرجل الستيني أبو سامر يؤمِّن دواءه لعلاج القلب بصعوبة بالغة، وبأسعار مرتفعة جداً، تجاوزت نسبة 200 في المئة قياساً بسعرها قبل قرار الرفع، يقول: "لا يُعقل ما يحصل، حتى في مرضنا علينا أن نموت مرتين؟ ما هذا الظلم والسياسات القاهرة؟ أحتاج أدوية بأكثر من مئتي ألف ليرة شهرياً وكل مرتبي التقاعدي 85 ألف ليرة، هذه حكومة لا تشعر بوجعنا".

كوارث ما قبل الكارثة

الواقع الصحي في سوريا ليس بخير عامة. وأما في المستشفيات فثمة تردٍ غير مسبوق في الخدمات وهذا قبل الزلزال حتى، وهجرة واسعة للكوادر الطبية نحو دول بين أبرزها الصومال والسودان اللتان إلى جانب غيرهما تدفعان أجوراً جيدة للأطباء قياسا بالفتات الذي يعيشون عليه إن ظلوا في سوريا بحسب وصف بعضهم، وهذا الفتات ذاته الذي يتقاضاه الاطباء ييمثل عبئاً ثقيلاً على المرضى.

"أنا طبيب جراح في الصومال حالياً، أتقاضى نحو 1500 دولار شهرياً، في سوريا لم أكن أجني مئة دولار في الشهر"، يقول الطبيب عاطف شمرا الذي هاجر من دمشق إلى الصومال قبل عامين، مؤكداً أنّ المعيشة في سوريا صارت مستحيلة على الأطباء وعلى غيرهم، مبيناً أنّ الأسرة تحتاج الى أكثر من 500 دولار شهرياً، وهذا رقم يستحيل جنيه في سوريا بالعموم.

ومثل عاطف أطباء آخرون (2)، والواضح أنّ جميعهم مشتركون في أسباب الهجرة بعد أن استحالت معيشتهم داخل البلاد، فراحوا نحو بلدان أخرى قد تبدو في الواقع مخيفة في السياق الأمني نسبياً، ولكنها – بحسبهم - توفر لهم الدخل المطلوب.

وفي الإطار، لا تتوقف اعتراضات السوريين على ما يصفونه بأجور الطبابة المرتفعة جداً، والتي وصلت الى نحو أربعين ألف ليرة (حوالي 6 دولار ونصف) للمعاينة عند بعض الأطباء، مؤكدين عدم قدرتهم على دفع هذا المبلغ. وبدورهم يدافع الأطباء عن أجورهم معتبرين إياها قليلة للغاية ولا تحقق لهم الدخل المطلوب، فلا المريض يجد حلاً ولا الطبيب الذي يريد أن يحيا يستطيع تقديم الحل، وبين الإثنين يموت مرضى كثر قهراً دون أن يتمكنوا من المكوث في مستشفى أو زيارة طبيب. وقد حصل ذلك مراراً.

قطاع يتهاوى

بين أطباء مهاجرين، ومرضى لا يملكون أجور المعاينة والطبابة والدواء، قطاع مركزي ورئيسي وشريان محوري يتهاوى دون إيجاد حلول منطقية وعملية تضمن علاج الناس وفق الشروط الإنسانية من جهة، وتوقف تدفق الأطباء والممرضين الى الخارج من جهة أخرى، سيما أن سوريا تعاني اليوم نقصاً فادحاً في هذه الكوادر التي يستقيل من بقي منها داخل البلد من مراكز عملهم.

فقد استقال أكثر من مئة ممرض خلال الشهرين الأخيرين من العام الماضي، وتحدثت المصادر المطلعة عن أقسام رئيسية في المستشفيات المركزية والخاصة لم يعد فيها أطباء يقومون بمهامهم في رئاسة الأقسام أو تسييرها، خاصة أنّ أطباء التخدير في سوريا باتوا يعدّون على أصابع اليد الواحدة. وتلك سقطة أخرى في السياسة العامة لهذا القطاع الذي لم يعتنِ بهذا الاختصاص، حتى لم يعد هناك من يختص به، والذي يختص وينهي دراسته يسافر على الفور.

الواقع الصحي في سوريا ليس بخير عامة. وأما في المستشفيات، فثمة تردٍ غير مسبوق في الخدمات وهذا قبل الزلزال، وهجرة واسعة للكوادر الطبية.. وقد رفعت حكومة دمشق أسعار الادوية بنسبة 50 في المئة عشية الزلزال، ما شكّل عبئاً إضافياً على السوري الذي كان يعجز عن دفع ثمن الدواء قبل الرفع.

يبدو أنّه سيكون هناك فائض من المعدات الطبية التي لا زالت تصل إلى دمشق عقب الزلزال، ويعول الناس على استثمارها في تحسين الواقع الطبي. وكان القطاع الصحي السوري قد خسر ما يقارب 12 مليار ليرة سورية خلال الأعوام الخمسة الأولى من الحرب، وهي الأعوام الأعنف. وكان في سوريا عشية الحرب عام 2011 حوالي 56 ألف طبيب، قُتل منهم الآلاف خلال الأعمال القتالية، ونزح 70 بالمئة منهم داخلياً. 500 سيارة إسعاف جرى تدميرها، حوالي 50 مستشفى تدمّر بشكل تام، وكذلك 500 مركز صحي.

مقالات ذات صلة

عموماً، ثمة آراء اقتصادية متنوعة تقول هذه الأيام إنّ خسائر سوريا بسبب الزلزال وصلت حدود 50 مليار دولار، ومعالجتها تتطلب 10 سنوات من تضمين الناتج الإجمالي دون إنفاق، ليسأل سوريون عما إذا كانت تلك التصريحات حجة حكومية جديدة لتقديم خدمات أكثر سوءاً؟ الحكومة ضليعة بتمييع السؤال وتوظيفه لصالحها، خاصةً وأنها منشغلة بحفلة العلاقات الدولية عامة...  

______________

1  - في حديث مع الكاتب خلال تحقيقه الاستقصائي.    
2  - خلال البحث الاستقصائي للكاتب

مقالات من سوريا