هل ينقذ مهرجان "مدائن التراث" مدينة تيشيت التاريخية؟

مدينة "تيشيت" من مناجم المخطوطات في موريتانيا، وحالها مثل غيرها من معظم المخطوطات في البلد. مدينة مهددة بالاندثار بعد أن كانت عامرة يتغزل الناس بعمارتها، ومخطوطات نفيسة في ظروف صعبة، وتكتنز مكتباتها اليوم بما يفوق 7000 مخطوط، لتكون من أكثر المدن التاريخية الموريتانية توفراً عليها، وتحتض مجموعة من المكتبات الأهلية الغنية بالمخطوطات.
2023-02-09

أحمد ولد جدو

كاتب ومدون من موريتانيا


شارك
مدينة "تيشيت" الموريتانية

انطلقت في مدينة "تيشيت" التاريخية، يوم 20 كانون الثاني/ يناير 2023، فعاليات النسخة الـ11 من مهرجان "مدائن التراث" الذي يستمر لمدة خمسة أيام، تنظم خلالها مجموعة من الأنشطة الثقافية، كالندوات والسهرات الفنية والفلكورية ومعارض للصناعات التقليدية المحلية، وكل ما يعبر عن تراث وثقافة المدينة والمنطقة. ويهدف المهرجان حسب المعلن عنه إلى إحياء المدن التاريخية الموريتانية عبر التعريف بها وإنعاشها ونفض الغبار عن تاريخها. وتم افتتاح المهرجان بحضور أعضاء في الحكومة وقادة الأحزاب السياسية وبعض النشطاء الثقافيين والفنانين والشخصيات المجتمعية.

وينظم هذا المهرجان بشكل سنوي منذ أكثر من عقد من الزمن في إحدى المدن التاريخية، ويتنقل بشكل دوري بينها: ودان وشنقيط، وولاته، إضافة لتيشيت. وكان يسمى مهرجان "المدن القديمة" قبل أن تقرر الحكومة تغيير اسمه منذ النسخة الماضية إلى "مدائن التراث".

تيشيت.. مدينة القطر

"تيشيت" المحتفى بها هذا العام هي إحدى المدن التاريخية الموريتانية المدرجة منذ سنة 1977 ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وتقع على بعد 600 كلم شرقي العاصمة نواكشوط، فوق مرتفع في المدخل الشرقي لواحة شبه مطمورة في الرمال ناحية الباطن الشرقي لسلسلة جبال "تكانت".

وتختلف الروايات حول تأسيسها وتاريخه بالضبط، لكن هناك تواتر على كونها ظلت على مدى ثمانية قرون محطة تجارية أساسية لكل القوافل العابرة للصحراء، وكذلك مكاناً يشع علماً ومعرفة، ويرجع البعض تاريخ تأسيس المدينة الحديث إلى 536 هجرية الموافق 1142 للميلاد.

مقالات ذات صلة

 ويقول العالم الموريتاني محمد المختار ولد أمباله حول تأسيسيها (1): "مدينة تيشيت كأخواتها الثلاث يصعب أن تجد إجماعاً على رواية واحدة في أمر تأسيسها، وذلك لبعد الزمن وقلة المراجع والاعتماد على الحكايات الشفهية، لذلك لا تجد واحدة من هذه المدن الأربع إلا وفي ابتداء تأسيسها حكايات متضاربة، ولكنها تتفاوت في الصحة، فما نقله الثقاة من العلماء وارتضوه ودونوه ليس كغيره، وما اشتهر عند الناس فتناقلته العامة والخاصة ليس كخبر الآحاد، ولذلك لا أعتمد إلا على واحد من هذين النوعين، فأقول: إنه مما اشتهر عند الناس في قطرنا هذا عموماً أن الشريف عبد المؤمن بن صالح الإدريسي هو الذي ابتدأ ببناء "تيشيت" ثم جعل الناس يأتون إليه ويبنون معه كما هو الحال في كل مدينة، وهذا الذي اشتهر عند الناس هو الذي دونه علماؤنا. وقدم تيودور مونو (2) رواية شعبية حول تأسيس المدينة، فقال: "حسب التاريخ المحكي الموروث، إن الذي أسس "تيشيت" هو علمين بلحاج، ضرير جاء من الشرق بحثاً عن مكان يقطن فيه. فكان كل يوم، عند استراحة الظهر، يأخذ حفنة من التراب ويستشيرها عن طريق شمها، فاذا برفاقه ذات يوم وقد ساورتهم الشكوك حول سلامة عقله، يقدمون له حفنة من تراب الأمس لفضح تصرفه. لكن الخدعة لم تنطل على حاسة الشم لدى ذلك الضرير. أخيراً، وعندما وصل بالقرب من "تيشيت" صرخ، بعد أن شم كالعادة حفنة التراب: "هنا المكان".

ظلت "تيشيت" على مدى ثمانية قرون محطة تجارية أساسية لكل القوافل العابرة للصحراء، وكذلك مكاناً يشع علماً ومعرفة، ويرجع البعض تاريخ تأسيس المدينة الحديث إلى 536 هجرية الموافق 1142 للميلاد. وهي مدرجة منذ سنة 1977 ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وتقع على بعد 600 كلم شرقي العاصمة نواكشوط.

وقد تحدث الشيخ محمد المختار ولد امباله عن حال المدينة الاقتصادي وازدهارها، فقال: "شهرة تيشيت بالعلم والدين كانت توازيها شهرتها بالتجارة والازدهار الاقتصادي، لأن موقع تيشيت الجغرافي المتوسط بين المراكز التجارية في الجنوب والمراكز التجارية في الشمال أهّلها لأن تلعب دوراً اقتصادياً وتنموياً مهماً في ذلك الوقت، فكانت محط رحال القوافل المتجهة من الجنوب إلى الشمال، والقوافل المتجهة من الشمال إلى الجنوب، إذ لم تكن هناك نقطة عبور تحاذيها أو تقاربها، كما أنها كانت على مسافة من كلا الجانبين تسمح لها بالتبادل معه بسهولة لقصر المسافة بينهما".

مدينة "تيشيت" من الأعلى

مدينة المخطوطات والفلكلور

تعد مدينة "تيشيت" من مناجم المخطوطات في موريتانيا، وحالها مثل غيرها من معظم المخطوطات في البلد. مدينة مهددة بالاندثار بعد أن كانت عامرة يتغزل الناس بعمارتها، ومخطوطات نفيسة في ظروف صعبة، وتكتنز مكتباتها اليوم بما يفوق 7000 مخطوط، لتكون من أكثر المدن التاريخية الموريتانية توفراً عليها، وتحتض مجموعة من المكتبات الأهلية الغنية بالمخطوطات.

ويقول الباحث السالك ولد محمد المصطفى (3): "يمكن - بدون مبالغة - وصف مدينة تيشيت بأنها مدينة المكتبات المخطوطة بامتياز. وتختص هذه المكتبات عن باقي مكتبات المدن القديمة بالكثرة على مستوى الكم والغنى والندرة على مستوى النوع والخطوط والأقدمية في تاريخ الخط، ولا يزال يتم العثور على مكتبات مطمورة داخل أنقاض الدوُر المنهارة، ومن ذلك مثلاً مكتبة أهل الحاج أعمر التي قدمت لنا لأول مرة في العام 2006 من طرف عمدة المدينة، وأثناء فهرستنا لهذه المكتبة الضائعة وجدنا شرح عبد الباقي للشيخ خليل مخطوطاً بخط المؤلف".

في عيشهم، يعتمد سكان "تيشيت" (البالغ عددهم 2470 نسمة وفق إحصاء 2006)على زراعة الخضروات والزراعة الواحاتية، بالإضافة لتجارة الملح المستخرَج من السباخ، والعمل في استخراج الحجارة من المقالع وبيعها للاستخدام في البناء.

ويعتبر المسجد العتيق أهم معالم "تيشيت" لجمال بنائه ومنارته الشهيرة التي يبلغ ارتفاعها 16متراً. والمسجد يعتبر أثراً معمارياً مميزاً بسبب حسن الصنعة، فضلاً عن كونه المسجد الوحيد الذي يحمل زخارف حجرية تزين المداخل والواجهات الخارجية لبيت الصلاة.

وكذلك يتميز جوار هذا المسجد بمجموعة من المكتبات الأهلية الزاخرة بآلاف المخطوطات، هذا بالإضافة لشوارع المدينة وساحاتها التي ما تزال بأسمائها القديمة الآزيرية، بالإضافة لمقبرة مدينة تيشيت التي تتميز بأن أضرحتها القديمة لا تحمل أي نقش بأسماء أصحابها، ويرجع البعض سبب ذلك إلى فتوى شرعية تيشيتية تفيد عدم إباحة التعريف بأصحاب القبور.

مدخل المسجد

وهناك واحة "تيشيت" المميزة وسبختها، وهي مملحة قديمة توجد بالناحية الجنوبية للمدينة على بعد 3 كلم، وهي أحد شرايين الحياة الاقتصادية للمدينة.

يعتبر المسجد العتيق أهم معالم "تيشيت" لجمال بنائه ومنارته الشهيرة التي يبلغ ارتفاعها 16متراً. والمسجد يعتبر أثراً معمارياً مميزاً بسبب حسن الصنعة، فضلاً عن كونه المسجد الوحيد الذي يحمل زخارف حجرية تزين المداخل والواجهات الخارجية لبيت الصلاة.

في عيشهم، يعتمد سكان "تيشيت" (البالغ عددهم 2470 نسمة وفق إحصاء 2006)على زراعة الخضروات والزراعة الواحاتية، بالإضافة لتجارة الملح المستخرَج من السباخ، والعمل في استخراج الحجارة من المقالع وبيعها للاستخدام في البناء.

ولأهل "تيشيت" عادات موروثة منذ القدم، مثل عيد الختان، وهو احتفال جماعي يتم بمناسبة ختان الأطفال، وأفراح نزول المطر، و"احتفال أسحاب" وهو احتفال تتسيده النساء...

من ينفض الغبار؟

يتطلب الوصول الى "تيشيت" قطع طريق طويل غير معبد تميِّزه الصعوبة، حيث تفصلها عن مدينة "تجكجة" طريق رملي وعر يصل طوله الى 240 كلم، وهي اليوم مدينة معزولة بسبب الإهمال وتغيّر الأحوال، ويهجرها شبابها من أجل حياة أفضل، ويبحث من تبقى من سكانها فيها عن فرصة لإنقاذها من راهنها المحزن، وهذا حال مثيلاتها من مدن موريتانيا التاريخية التي أسس لها هذا المهرجان...  

______________________

1- "لمحة تاريخية عن مدينة تيشيت ودورها العلمي والسياسي"، محاضرة ألقاها العالم والفقيه الموريتاني محمد المختار بن امباله، في مهرجان المدن القديمة المنظم بشنقيط بين 16 و22 شباط/ فبراير 2011
2- Théodore André Monod عالم نباتات وطبيعة فرنسي، مستكشف وباحث،من كتبه:
Méharées, exploration au vrai Sahara, éditeur Je sers, 1937. Nouvelle édition, Actes Sud, 2017.    
3- دراسة بعنوان "فولكلور تيشيت: الاحتفالات نموذجاً"، منشورة في مجلة "الثقافة الشعبية" البحرينية العدد 18

مقالات من موريتانيا

للكاتب نفسه