عصفورات بغداد الوحشيّات

الفاشنستية العراقية ليست ظاهرة نشأت عن ازدهار الحريات، بل العكس، هي من افرازات قمع الحريّات، والخوف، ورعب العاملات في مجال الترفيه من أن يكنّ بلا حماية.. عن "عصفورات بغداد" وقصة السلطة العراقية معهن..
2023-02-02

شارك

هناك نصيحة أثيرة يسديها أساتذة العمارة إلى تلاميذهم وهم يُصمّمون المدن: إذا كانت المدينة آمنة للعصافير، فهي آمنة للجميع، اجعل التصميم صديقاً للطيور وسيصبح صديقاً للإنسان. الصحن الكاظمي الذي تناوب الصفويون والعثمانيون على تحديث منائره وباحاته كان يُراعى فيه دائماً تلك المسافة الآمنة التي تحتاجها الحمائم والفواخت للنزول والتقاط الحبوب والاستراحة بين الناس دون خوف، وفي كتابه تاريخ مساجد بغداد وآثارها، يقول محمود شكري الآلوسي وهو يصف عمارة مسجد الشيخ عبد القادر الجيلاني: «أظلّه جناح الباز وعشعش فيه نور الحقيقة وطواويس المجاز»، فقد ارتبط وئام الناس وأمنهم بأوصاف العصافير ومساكنها، والجيلاني الذي يوصف بأنه الباز -بمعنى الصقر الماهر في الصيد- في أشعار متصوفة بغداد، والذي قيل فيه: كل الطيور تقول ولا تفعل إلا الباز يفعل ولا يقول، هو نفسه يقول عن ذاته:

أنا «بلبل الأفراح» املأ دوحها
طرباً وفي العلياء بازٌ أشهب

مع ذلك، فكل جلال الطيور وشاعرية «زرازير البراري» لم يحرسانها من أن تصبح فريسة مشوية ما بعد منتصف الليل، كي تبطئ من امتصاص العرق في بطون السكارى الهائمين على ضفافك يا دجلة.

لكن هذا مقال عن عصفورات بغداد، التي تقول وتفعل، أو عاملات الترفيه اللائي يسمونهُن تسامحاً بالفاشينستات، لا عن الطيور والبلابل.

والحال معهن بالعكس، فانتشار العصفورات لا يوحي بانتشار الأمان وازدهار الحريّات، ورقصهنّ على منصات الملاهي لا يدل على الشعور بالاطمئنان ممن حولهن. غناء العصفورة الوحشيّة ليس عن الغرام والهجران ولا عن الربيع والدفء والسلام، ولا عن عزة نفسها التي تمنعها من تصوير عذابات الروح على الطريقة الكلثومية الشامخة، العصفورات غير معنيّات بالطرب قدر عنايتهن بإذكاء الروح البربرية والشرايين العشائرية لحضور الملهى من الرجال، الغناء بالنسبة لهن هو كل ما يريد هذا النوع من الرجال سماعه في غرفة النوم: هل كنتُ جيداً؟ الكلمات البذيئة والتسلطية في الأغنيات هي جواب طويل ومسبَّق عن سؤال الرجل للمرأة حول كفاءته على الفراش، وهو سؤال مزمن حارت به عشتار نفسها، ولا أقصد ذلك حرفياً، لكن العصفورات قد يقدمن كل شيء عدا الطرب.

قصة السلطة العراقية منذ عهد الانقلابات مع العصفورات طويلة وشائقة، وإذا كان للسلطة بأنواعها، جينات وصفات وراثية فالعصفورية هي إفرازات هرمونية يقذفها الرجال في لحظة الانتشاء بالسيطرة المطلقة، منذ حفلات آل المجيد والأستاذ عدي تناسلت صورة الشاب المتجهم، الذي يضع على عينيه نظارة سوداء واسعة مع سيجارة غليظة تتدلى من شفاه متغضنة داخل رأس منخفض الذكاء، ولا بأس ببندقية صيد على الكتف تجيب عن السؤال نفسه: هل كنتُ جيداً ليلة البارحة؟

الفاشنستية العراقية ليست ظاهرة نشأت عن ازدهار الحريات، بل العكس، هي من افرازات قمع الحريّات، والخوف، ورعب العاملات في مجال الترفيه من أن يكنّ بلا حماية، حينما تهدد المرأة منافساتها من النساء برجال الدولة ومن حولهم فهي تقوم باستعمال مطرقة التجبر الذكوري، لسحق من يزاحمها على رقعة الأمان المشروط، مثل من ينزع الخنجر من صدره ليحك به أنفه ثم يعيده إلى مكانه.

ومثلما إن حسنات الأبرار هي سيئات المقربين، كما يقول المتصوفة وأهل الصقور الشهباء في أدبياتهم، فإن حريّات نساء السلطة هي انتهاكات لحريات النساء خارج السلطة.

بغداد اليوم ذات الملامح المليشياوية، في أحوج أيامها للعصفورات، لأنهنّ: أصوات فوضوية ماجنة يساهم حضورهن في شيطنة صورة المرأة غير العصفورية، ذات الثقافة الاحتجاجية والحس المتمدن، والتعليم الجيد، أو التشويش عليها في أهون الأحوال.

ولأنهنّ: مثال جاهز، وتحت اليد، عن مساوئ الحريات!، فالأصبع الظلامي المتخلف، اليميني المتطرف أو الإسلامي سيؤشر نحوهن دائماً وهو يؤشر لنا مغبة منح المرأة بعض حقوقها، فينتهي حوار الحريّات قبل أن يبدأ. كما أنّ دور النشر الصغيرة ستجد عذراً ملائماً لترجمة الكتب الكاثوليكية التي تباع على أرصفة الكنائس في أوربا وأمريكا الشمالية، وتقديمها للقارئ العربي، على أنها آخر ما توصّل إليه العقل الغربيّ! تلك العنوانات من عينة: مهالك الديمقراطيّة، مأساة الحرية! انحطاط العالم الحديث.. إلخ، من كتب مجانية لا تشتريها دور النشر المرموقة لأنها، ببساطة، مجانية وكنائسية، مثل كتيّبات الإرشادات والأدعية والزيارات في الكشك القريب من المسجد! وهي في آخر المطاف، وقود لا غنى عنه نقدمه بسخاء للمنابر التحريضية وللخطباء الإسلامويين المسؤولين عن بث الكراهيات في المجتمع وضخ الدماء في عروق الشباب الغاضب، الذي لا يريد ان ينتظر الإجابة عن سؤال: هل كنت جيداً؟

لكنها بالطبع نوع من أنواع حريات التعبير الذي ينبغي مراقبته والدفاع عنه، وهذه الترجمات مساهمة جيدة أيضاً لسماع الرأي الآخر، مثلما أن صورة المرأة العصفورية هي نوع من أنواع الحريات، الحريات التي لا تقدّر العواقب، وتقبل أن يتم استخدامها في تعنيف فكرة الحرية بشكل عام!

في ما يعرف اليوم بالحرب الثقافية في «أوروبا والدول المتقدمة» على رأي وحيد حامد في الإرهاب والكباب، فقد آل الأمر أن تنتشر كتابات مثل: «نهاية الرجال» للمؤلفة غير النسوية حنا روزين، وكتاب «ماذا يريده الرجال، الذكورية وغضباتها» للبريطانية نينا باور، وذلك لأن المرأة بحسب الدعوى قد نالت حقوقها وزيادة وأن عدد الأكاديميات في الجامعات الأمريكية أعلى من عدد الأكاديميين، بعد أن قطعت الحركات النسوية أشواطاً طويلة وحققت منجزات باهرة، هناك من يرى أن هذا النضال قد أدى إلى الإضرار بالرجل ومبدأ المساواة نفسه، وقاد أيضاً إلى إنتاج جيل خائف ومقموع من الشباب، غير قادر عن التعبير والتفكير والتواصل الصحي مع المرأة، ودوننا مشاهد إمام المراهقين البيض وسيد البكائين الجدد جوردن بيترسون المنتشرة في الانترنت وهو ينوح بطريقة غير رجولية من جراء هزيمته الثقافية المريرة في الحرب.

وهي هزيمة دعائية، ذلك لأن اعلان النكوص والاستسلام هو مكيدة في فن الحروب غير النزيهة، النرجسيات الجريحة تبكي لتكسب التعاطف، فمازالت نسبة الاستعباد الجنسي للنساء في الولايات المتحدة تتزايد باضطراد، فهناك ما يقرب من ٥٠ ألف حالة مسجلة كل سنة من حالات «الاستكعاد» على الطريقة الأمريكية، والتي تتضمن حبس النساء وتعذيبهن ومبادلتهن بين الذكور لأغراض المتعة والممارسة الوحشية التي تفضي إلى الموت.

لكن هذا حوار ليس لنا.

وليس من المنطقي أن ننتقل من المرحلة العصفورية للمرأة مباشرة إلى مرحلة ماذا يريد الرجال.

في ما يخص النموذج الاغوائي للمرأة الترفيهية في العراق، يبزغ السؤال المتخابث: لماذا تحب عصفورة بغداد مقتدى الصدر وقادة المليشيات وزعماء الحروب الطائفية حد الهيام أو تصنع الهيام والتقدير المبالغ به؟ ولماذا يوفر هؤلاء قفص الحماية اللازم للعصفورات؟

يقول لنا التأريخ القريب لنشوء الجماعات الشيعية الصدرية أنها قائمة على فكرة تقديس المدنس، إذ أن الجيل المقتدائي، وهو الجيل الصدري الثاني وما بعده الذي لم يعاصر مرجعية محمد محمد صادق الصدر، استمد زخمه وقوته التكاثرية من خاصية الترحيب بالخاطئين والتائبين وغير المنضبطين وتوطينهم داخل الجماعة، وفرّت المقتدائية خصماً خاصاً للمواطنين الراغبين في الانتماء للجماعة والتمتع بامتيازاتها السلطوية، والدسكاونت هو رفع شرط الطهرانية، يعني، لا يشترط أن تكون تابعاً مستقيماً كي تكون مقتدائياً، إذا كنت مستقيماً فهذا أمر محمود، لكننا لا نعبأ تماماً بسيرتك ومستواك الإيماني، وهكذا انتفخت القاعدة وازداد الاتباع، وأصبح جمهور الصلاة لا يمانع الامتزاج بجمهور الملهى، ولا ينبغي للمصلي المقتدائي أن يمنع نفسه عن الاصغاء للعصفورة في القفص أو حضور أمسياتها، وتحول اسم السيد القائد وصورته مثل سرّ الليل الذي إذا تلفظت به كُتب لك الأمان والمرور إلى جنة التفاهة، دون أن يحاسبكِ أحد، ما دمتِ تضعين الحرز الصدري في عنقك، وما دام الصدر على الصدر.

في قلب كل عصفورة لبغداد، وحشيّة كانت أمْ مستأنسة، ذات خمار أم خمّارة، آلاف الخيبات والكوابيس والليالي الموحشات، مثلما تنبع الذوات العظيمة من الألم، فالذوات الهالكة في صخب بغداد تنتج عن الألم أيضاً، النوع العظيم منه الذي يدفعك إلى الاستسلام، فلا ترقص مذبوحاً من الألم فحسب، بل تتغزل بالخنجر وصانعه وصاحبه، لأنك لا تريد التوقف عن التنافس مع المذبوحين الآخرين، ويتوق لك دوماً أن تبرهن لغيرك بأن جرحك أجمل جرحه.


وسوم:

مقالات من العالم العربي

عبد الله النديم، ثائر لا يهدأ

أشهرت البعثة البريطانية إفلاس مصر فى السادس من نيسان/ إبريل عام 1879. وفي أعقاب ذلك الإعلان، قام السلطان العثماني بعزل الخديوي إسماعيل وتولية ابنه "محمد توفيق باشا" على مصر بدلاً...

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...