صراع الحيتان في سوريا: كعكعة النفط الشحيح

مَنْحُ امتيازِ استيراد النفط لشركة خاصة خطوة من شأنها خصخصة بعض هذا القطاع الحيوي، في تطور لافت ينعكس على مختلف مناحي حياة البلد. لكن بعد الاعلان بوقت قليل، تمّ تأجيل المشروع فيما يبدو أنه نتيجة لتدخل متنفذين منتفعين، على اعتبار أنّ المشروع المذكور يشكل ضرراً للسوق السوداء.
2023-01-05

طارق علي

كاتب صحافي من سوريا


شارك
مصفاة بانياس، سوريا.

سمحت الحكومة السورية مع نهايات العام الفائت لرجل أعمال نافذ ومقرّب منها باستيراد النفط من الخارج وبيعه في الداخل السوري وفق السعر العالمي المرتبط بالدولار.

مَنْحُ امتيازِ كهذا يعتبر سابقة وخطوة من شأنها خصخصة بعض هذا القطاع الحيوي، في تطور لافت ينعكس على مختلف قطاعات البلد. فكيف لحكومة معاقَبة لا تستطيع الاستيراد أن يقوم تاجر محسوب عليها بالاستيراد كيفما يشاء وبأي كمية يريد ومتى أراد؟

ترزح سوريا تحت حزمة عقوبات غربية شديدة، أبرزها "قانون قيصر"، أدت بمجملها إلى شلّ الحركة الحيوية والحياتية والمعيشية في عموم مناطق الداخل التي تسيطر عليها دمشق. وهذا ما تقوله السلطة في كل مناسبة وعلى لسان كل مسؤول يخرج للإعلام، أو يخرج للناس عبر صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي.

"الجوكر" المعاقَب

ليس الفساد سعرياً فقط هذه المرة، بل كيف لرجل عليه ما عليه من العقوبات الغربية أيضاً، بوصفه أحد أذرع السلطة، أن يستجرّ النفط بكميات كبيرة؟ وكيف سيلتف على تلك العقوبات؟ وطالما أنّه قادر فلماذا لا تقدر الحكومة هي أيضاً؟ وأكثر من ذلك: لمَ وقع الاختيار على هذا الشخص بالتحديد؟

بطل هذه القصة رجل الأعمال السوري "حسام أحمد رشدي قاطرجي"، الرجل الذي تشير المعطيات أنّه لم يكن يمثل ثقلاً عشية اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، ليصير لاحقاً، مع تتالي السنين، أكثر السوريين ثراء، أو كما يُطلق عليه كثر، "أمير الحرب".

تعيش سوريا كل بضعة أشهر - تطول أو تقصر - أزمة وقود خانقة يصبح فيها تأمين ليتر البنزين شبه مستحيل، فتنتهي المحنة فوراً بعد رفع سعر المادة. هذا في حين لم ينقطع البنزين والمازوت لحظةً واحدة من السوق السوداء ويُباعان على الطرقات العامة.

لطالما لعب قاطرجي وإخوته أدواراً غير مفهومة خلال السنوات الماضية. مصدر مطلع في دمشق (فضّل عدم الكشف عن هويته) يقول أنّ قاطرجي برع دائماً بأداء دور الوسيط في مدّ دمشق بكثير من احتياجاتها.

وهو من جهة أخرى كان صلة الوصل ما بين الحكومة والمناطق التي تقع خارج سيطرتها، وكانت دمشق تستجر النفط منها في مناسبات متعددة، إذ يبدو أن الرجل يحظى بقبول وثقة الطرفين.

كان لقاطرجي دائماً، الملقب بـ "ملك الصهاريج والمعابر" دورٌ بارز، سواء في دعم الحكومة بشكل مباشر في حلب التي يرجع أصله إليها، خصوصاً على الصعيد العسكري عبر تمويل ورعاية مجموعات مقاتلة، أو بدعمها اقتصادياً في مواضع متعددة. وقد تَسيّد المشهد الاقتصادي مقابل إقصاء اقتصاديين آخرين. وهنا تبرز أسماء مقصيّة عديدة جلّها حلبية أو دمشقية، يبدو أن أصحابها لم يعرفوا طوال عمر الحرب "من أين تؤكل كتف" السلطة، فصاروا على الهامش.

قاطرجي الذي ولد عام 1982، لم يكتف بسطوته الاقتصادية، بل شغل منصب عضو في مجلس الشعب السوري (البرلمان).

قرار وتأجيل

لم تمض سوى أيام على إعلان حكومة دمشق عن تعاقدها مع شركة "BS" المملوكة لقاطرجي لصالح توريد النفط إلى سوريا، حتى عادت المصادر المعنية لتقول إنّها أجّلت مشروع تزويد السيارات الخاصة بالمادة، على أن يتم تزويد الفعاليات الاقتصادية والمنشآت عبر الشركة المذكورة.

صاحب الشركة التي مُنحت امتياز الاستيراد من قبل حكومة دمشق كان صلة الوصل ما بين هذه الأخيرة والمناطق التي تقع خارج سيطرتها. وكانت دمشق تستجر النفط منها في مناسبات متعددة، إذ يبدو أن الرجل يحظى بقبول وثقة الطرفين.

يقول (1) صاحب محطة وقود في دمشق إنّ محطته كان يفترض أن تدخل على خط توزيع المشتقات النفطية عبر شركة قاطرجي اعتباراً من أواسط الشهر الفائت، كانون الأول/ديسمبر 2022. ويضيف: "ركبنا الأجهزة المخصصة للشركة، وهي أجهزة ذكية تتيح التعبئة لكل سيارة مرة واحدة أسبوعياً، وكنا شرعنا في الإعلان عن الأمر وإبلاغ الزبائن بالتطور الجديد، حتى جاءنا قرار جديد بتأجيل كل العملية". ويتابع "فجأةً أعيد العمل في المحطات المخصصة للغرض بنظام البطاقة الذكية وتوزيع البنزين الحكومي، لتقوم الشركة بسحب معداتها وتجهيزاتها بدون توضيح".

محمد نصرة صاحب محطة أخرى في ريف دمشق أوضح أنّه وبمعزل عن اسم المستثمر وخلفياته، إلّا أنّ تطبيق مشروع كهذا في سوريا من المفترض أن يحل مشكلة البنزين، ويخفف من طوابير الانتظار، وزمن انتظار رسالة تعبئة البنزين التي وصلت لقرابة شهر لكل سيارة". علماً أن الحكومة تدعم البنزين وتبيع الليتر بسعر ثلاثة آلاف ليرة (نصف دولار أمريكي تقريباً)، ويتطلب الحصول على كمية 25 ليتراً انتظار قرابة شهر في نظام البطاقة الذكية، بينما كانت الشركة الجديدة ستبيع ليتر البنزين بحوالي 4900 ليرة سورية وهو سعر الليتر عالمياً كما روّجت الحكومة.

مصدر في شركة "BS" أوضح أنّ قرار التوقف عن البيع كان مفاجئاً وجرى بحجة تأجيل المشروع قليلاً والتريث. المصدر أشار بأنّ الاستيراد كان سيتم "عبر دول صديقة"، وبأنّه كان "ثمة طريقة لمعالجة الحصار"، وبأنّ القطع الأجنبي متوفر في شركتهم التي تتخذ من بيروت مقراً لها. ولم يستبعد أن يكون وراء التأجيل تدخل متنفذين منتفعين بالضغط على الحكومة على اعتبار أنّ المشروع المذكور يشكل ضرراً للسوق السوداء التي يدعمها أشخاص يمتلكون السطوة، بعد أن وصل سعر ليتر البنزين في سوريا إلى 15 ألف ليرة (نحو 3 دولار).

الشركة المعاقَبة

في عام 2019 أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية شركة "BS"على لائحة العقوبات الدولية حالها حال مجموعة شركات قاطرجي الأخرى، وذلك بعد إدراج "محمد براء قاطرجي"، شقيق حسام، على قائمة العقوبات من قبل "مكتب مراقبة الأصول الأجنبية" عام 2018.

الإدراج جاء بتهمة تسهيل تجارة الوقود بين الحكومة السورية وداعش، وأضافت وزارة الخزانة الامريكية بأنّ الشركة هي أكبر اللاعبين الأساسيين بملف النفط السوري، حيث استوردت آلاف الأطنان من النفط الخام الإيراني عام 2018 باستخدام شاحنات صهاريج وناقلات نفط وغيرها.

لم تمض سوى أيام على إعلان حكومة دمشق عن تعاقدها مع شركة "BS" لصالح توريد النفط إلى سوريا، حتى عادت المصادر المعنية لتقول إنّها أجّلت مشروع تزويد السيارات الخاصة بالمادة، على أن يتم تزويد الفعاليات الاقتصادية والمنشآت عبر الشركة المذكورة.

الحكومة تدعم البنزين وتبيع الليتر بسعر ثلاثة آلاف ليرة (نصف دولار أمريكي تقريباً)، ويتطلب الحصول على كمية 25 ليتراً انتظار قرابة شهر في نظام البطاقة الذكية، بينما كانت الشركة الجديدة ستبيع ليتر البنزين بحوالي 4900 ليرة سورية وهو سعر الليتر عالمياً كما روّجت الحكومة. 

الوزارة الأمريكية أكدت أنّ مجموعة قاطرجي كانت حينها تنقل النفط لمصفاة بانياس، ما أدى لوضعها على لائحة العقوبات التي تحمل الأمر التنفيذي رقم 13582 بتاريخ 5 أيلول / سبتمبر 2018.

السرقة العلنية

الجهات المعنية في سوريا، ومنها"BS"، تستورد البنزين أوكتان 90، وهو قليل الجودة وسريع الاحتراق، وبات من المعلوم للمواطن السوري أنّه يتعرض بالحد الأدنى لسرقة حوالي 3 ليتر من أصل كل 25 ليتر مسموح بها، وذلك من قبل كل المحطات في الداخل السوري، في حين تصم الوزارة المعنية (وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك) آذانها عن الموضوع.

كان التحقق من الأمر ممكناً بالتجربة: قامت إحدى محطات الوقود في دمشق بتعبئة مخصصات البطاقة بعد وصول رسالة التعبئة، داخل غالون بدل تعبئتها بخزان وقود السيارة. وهو أمر ممنوع في القانون، ولكن مبلغ خمسة آلاف ليرة سورية للعامل (أقل من دولار) كان كفيلاً بتحقيق المراد... ليتضح فيما بعد أنّ الكمية المعبئة داخل الغالون ليست إلا 22 ليتر بنزين وهو ما يطابق روايات الكثير من الناس الذين صاروا يلحظون في السنوات القليلة الماضية أنّ سياراتهم "تصرف فوق المعتاد"!

صرّح مسؤول في مصفاة بانياس في شهر أيلول/سبتمبر 2022 بأنّ المصفاة باتت ممتلئة ولا مكان لاستيعاب شحنات جديدة، فأين ذهبت تلك الوفرة؟ تنتشر شائعات بأن إيران تستخدم مرافق سوريا لتكرير النفط واستعادته، وأيضاً لتصدير جزء منه إلى حلفاء بمناطق أخرى. 

وبالطبع فحلقة الفساد تتسع وتبدأ من عامل المحطة، وصولاً لصاحبها، مروراً بكل المستويات الإدارية الإشرافية الحكومية.

البحث عن رواية موحدة

خلال العام الماضي 2022، قال وزير النفط مراراً إنّ النفط لا يصل إلى سوريا إلا بشق النفس بسبب شروط الحصار القاسية على البلد. وتعيش سوريا كل بضعة أشهر - تطول أو تقصر - أزمة وقود خانقة يصبح فيها تأمين ليتر البنزين شبه مستحيل، فتنتهي المحنة فوراً بعد رفع سعر المادة. هذا في حين لم ينقطع البنزين والمازوت لحظةً واحدة من السوق السوداء ويُباعان على الطرقات العامة.

بُعيد تصريحات وزير النفط تلك، رفعت وزارة التجارة الداخلية سعر البنزين والمازوت، وقال وزيرها إنّ الرفع جاء لضمان توافر المادة. الوزير قال إنّ المشكلة ليست بوصول التوريدات بل هي بعدم توفر النقد الأجنبي للاستيراد، الأمر الذي أثار الجدل: فهل المشكلة بالقطع الأجنبي أم بالعقوبات؟

حلقة الفساد تتسع وتبدأ من عامل المحطة، وصولاً لصاحبها، مروراً بكل المستويات الإدارية الإشرافية الحكومية.

وفي كلتا الحالتين كيف لرجل الأعمال ذاك أن يستورد النفط لصالح الدولة، ومن أين له وفرة القطع الأجنبي؟ وكيف سيتجاوز العقوبات؟ وبالطبع، وكما درجت العادة، لم يتكبد مسؤول واحد عناء شرح ما يحصل للمواطن الذي يقضي شتاءه الأقسى دون قطرة مازوت إلّا ما ندر.

حلفاء دمشق

طهران هي الحليف الاستراتيجي لدمشق وكانت قد فتحت معها خطاً ائتمانياً أواسط 2022، على أساس دعمها بالمشتقات. صرّح مسؤول في مصفاة بانياس في شهر أيلول/سبتمبر 2022 بأنّ المصفاة باتت ممتلئة ولا مكان لاستيعاب شحنات جديدة، فأين ذهبت تلك الوفرة؟ تنتشر شائعات بأن إيران تستخدم مرافق سوريا لتكرير النفط واستعادته، وأيضاً تصدير جزء منه إلى حلفاء بمناطق أخرى.

وبعد الاتفاق بأنّ إيران غارقة في مشاكل الداخل ولديها ما لديها من الهموم، فالحليف الآخر، روسيا، الدولة التي تمتلك ثامن أكبر احتياطي نفطي في العالم، تبدو هي الأخرى غارقة في مشاكلها وأعادت ترتيب سلم أولوياتها مع الحرب في أوكرانيا.

صحيح أن الروس خلال تدخلهم في أواخر عام 2015 لصالح حكومة دمشق قد قلبوا موازين الصراع على الأرض، حين كان داعش يسيطر على السواد الأعظم من سوريا. وحين يُسْأل مسؤولو سوريا عن الدور الروسي في الملف الاقتصادي، سيما أنّهم يسيطرون على مرافق أساسية في البلاد، فإنهم يتحاشون الرد ويكتفون بالقول بأنّ موسكو حليف يُعتدّ به.

وفي هذه الأثناء، تتضخم يوماً بعد يوم الأزمة المعيشية الطاحنة، ويتصاعد عدد من يلقون بأنفسهم في البحر، فإما يغرقون أو يتوهون في غابات اليونان بلا مأوى... 

______________________

 1- أجريت كل المقابلات المذكورة في هذا النص من قبل الصحافي لفائدة البحث

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

هل كانت سوريا بحاجة إلى الزلزال لتكتشف مدى تهاوي مؤسساتها؟

طارق علي 2023-03-07

كشف الزلزال-الكارثة الذي أصاب سوريا وتركيا في شباط/فبراير 2023 تهالك المنظومة الصحية السورية والمتجسد في النقص الفادح في المستشفيات الثابتة وإمكانية استحداث تلك الميدانية علاوةً على النقص الهائل في أعداد...