رأس السنة ورأس الحانوت: الدّيك وحاشيته الملكية

لكُلّ مطبخ رأسه، أو قمّته الإبداعية التي يبتكر فيها مُكوِّناً قوياً يُميّزه ويجعله مركز أطباقه، وممثّلها الرّسمي في المناسبات. يقوم بهذا الدّور في المطبخ المغربي خلطة بهارات تُسّمى "راس الحانوت". وإذا كان الديك الرُّومي هو مركز احتفالات أعياد الميلاد، فإنّ الدّيك البلدي هو اختيار المغاربة في احتفالهم برأس السّنة الهجرية، وفي أعياد أخرى، متبَّلاً بـ "راس الحانوت".
2022-12-29

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
"راس الحانوت"

تُحمَّص بذور الكزبرة والكَمون على نارٍ متوسِّطة لمدّةَ أربع دقائق، حتى يتغيّر لونها إلى البنّي. ثم توضع البُذور في مطحنة التّوابل، مع رقائق الفلفل الأحمر اليابس، وتُطحن حتى تصبح أنعم من بودرة الأطفال. تُخلط جميع البهارات مع بعضها البعض، وتُحفظ في إناءٍ نظيف وجاف. هكذا نحصل على "راس الحانوت" البيتي، ما لم نجد عطّاراً نثق به.

لكُلّ مطبخ رأسه، أو قمّته الإبداعية التي يبتكر فيها مُكوِّناً قوياً يُميّزه ويجعله مركز أطباقه، وممثّلها الرّسمي في المناسبات. يقوم بهذا الدّور في المطبخ المغربي خلطة بهارات تُسّمى "راس الحانوت". وإذا كان الديك الرُّومي هو مركز احتفالات أعياد الميلاد، فإنّ الدّيك البلدي هو اختيار المغاربة في احتفالهم برأس السّنة الهجرية، وفي أعياد أخرى، متبَّلاً بـ "راس الحانوت". وهذا الأخير هو خليط من الأعشاب والتوابل المحلية والمستوردة، يُستعمل في تحضير عدد من الأطباق المغربية المعروفة، مثل "الرْفيسَة"، التي تُعدّ الطبق الرّئيسي في رأس السنة الهجرية، والمولد النبوي، والاحتفال بمولود جديد، أو "المْروزِيّة"، الطبق الذي يتكوّن من لحم أضحية عيد الأضحى، ولا يعني ذلك طبعاً غيابه عن موائد المغاربة سائر أيام السّنة.

رفيسة المنتخب الفرنسي

في نصف نهائي كأس العالم والمباراة الحاسمة التي واجه فيها المنتخب المغربي نظيره الفرنسي، الملقّب بمنتخَب الدّيوك، وعدَ المغاربة أنفسهم بـ "الرْفيسَة"، احتفالاً بالتهام "الأسود" للدّيك الفرنسي المزهوّ بنفسه. ولو مالت الكفّة لصالح "أسُود الأطلس"، لضجَّت المطابخ والطناجر بالدّيوك التي تُطبخ وسط خلطة كثيفة من التوابل، وتُوضع بعناية فوق قصعة الثريد، أو "رزيزة القاضي"، وهي نوع من الفطائر التي تتكون من خيوط دائرية متلاصقة. لكن منطق القوّة الكروية انتصر، وتأجّل الاحتفال بالديك الفرنسي إلى حين، فاكتفى المغاربة بـ "الرْفيسة العمياء" التي يتم إعدادها بلا دجاج من الأصل، أو بوضع الدّيك أولاً في الطبق، ثم الثريد. ولا يمكن لمن يوضع الطبق أمامه أن يجزم إذا ما كان تحت الثريد دجاج أم لا، حتى يصل إلى عمق الطبق، لذا أُطلق على هذه الحالة الوجودية "الرفيسة العمياء".

سُمّي "راس الحانوت" نسبة لمحلّ الأعشاب، "الحانوت"، وهو المتجر عموماً، فنظراً لكثرة مكوّنات الخلطة، تُعتبر رأس وظيفة محل العِطارة أو أكثر منتجاته رواجاً وأهمية. يُفضَّل استخدام راس الحانوت في الأطباق المميّزة للمناسبات السّعيدة، كحفلات الزفاف والأعياد. كما يضاف على لحوم الطيور من الدجاج، أو الحمام، أو على لحوم الضّأن والماعز، أو على كائنات أصغر، كالحلزون.

أصول "راس الحانوت" ومكوناته

لكل عطّار وصفته الخاصة لراس الحانوت التي تتكون من مزيج متعدد من البهارات، قد يصل عددها إلى الأربعين. وبالنّسبة لكتاب الطباخة المغربية الأكثر شهرة، "شميشة"، يتكون راس الحانوت من التوابل التالية: بسيبسة، زنجبيل، عواد لسان الطير، فلفل أسود، فلفل أبيض، كركم، قرفة، قرنفل، جوزة غليظة، عود فلفل أو ظهر فلفل، البضيان، قاع قلة، حبة حلاوة، النافع، زنجلان، زعفران حر، مسكة حرة، الكبابة، ورد فيلالي، حلبة. زهرة الصولجان (Mace) وهو الغلاف المحيط ببذرة جوزة الطيب، وله لون أصفر مائل للبني.

من الخروف إلى الحلزون

تعتبر الرْفيسة الطّبق الملكي الذي يتفوّق به راس الحانوت في المطبخ المغربي. ويتكوّن من دجاج، وثريد، وهو عبارة عن رغيف خاص من طبقة واحدة - يمكن أن يُعدّ من الرغايف أو المسمّن أو رزيزة القاضي حسب الذّوق - قليل من العدس، حلْبة، عدة رؤوس كاملة من الثوم، كثير من المعدنوس، كمية وافية من البصل، سمن، زيت، ويضاف إليها بعض التوابل الأخرى، كالزنجبيل والخرقوم والفلفل الأسود.

في نصف نهائي كأس العالم والمباراة الحاسمة التي واجه فيها المنتخب المغربي نظيره الفرنسي، الملقّب بمنتخَب الدّيوك، وعدَ المغاربة أنفسهم بـ "الرْفيسَة"، احتفالاً بالتهام "الأسود" للدّيك الفرنسي المزهوّ بنفسه. ولو مالت الكفّة لصالح "أسُود الأطلس"، لضجَّت المطابخ والطناجر بالدّيوك التي تُطبخ وسط خلطة كثيفة من التوابل، وتُوضع بعناية فوق قصعة الثريد.

في عيد الأضحى، يدخل راس الحانوت ضمن المكونات الأساسية لطبق المروزية، وهو لحم الأضحية، مع زبيب، عسل، قرفة، وراس الحانوت الذي يتم إعداده خصيصاً ليرافق لحم الغنم لا الدّجاج. وجبةٌ أخرى تتكون من كائن أقل حجماً، هو الحلزون (أو الببّوش) هي الأخرى أيضاً تعتمد على رأس الحانوت. يُطبخ الحلزون بعد غسله، مع رأس الحانوت، ثم يُشرب مرقه ويؤكل الكائن الصّغير بإبرة تستخرجه من قشرته اللّولبية. تنتشر أكشاك بيع الحلزون ومرقه في الشوارع الرّئيسية في المدن المغربية، ويكثر الإقبال عليه في فصل الشتاء. وكثيراً ما يكتفي الزبائن بالمرق اللّذيذ، ويستغنون عن الحلزون.

كما يضاف راس الحانوت إلى الحريرة، في طبق التّقديم الخاص بالحساء، لمن يبحث عن دفءٍ إضافي. أو يمكن وضع ملعقة أو اثنتين مخلوطة بمرق، أو مخبوزة في فطائر مرفقة بزيت الزيتون. ولابد من التأكيد على أن يتمّ تناول هذه الكمية من راس الحانوت في هذه الحالة ليلاً، مع ضرورة التزام البيت، وارتداء ملابس ثقيلة.

وبما أنّ أبرز أدوار "راس الحانوت" محاربة البرد الذي يُحمّله كثير من المغاربة المسؤولية عن عدد لامحدود من الأمراض، فإنه يُطلق عليه اسم آخر أيضاً هو "المساخْن". يسارع المغاربة إلى تجهيز أطباق ووصفات هرباً من البرد، وطمعاً في كمية وافرة من الدفء، يكون "المساخن" فيها هو مايسترو الطبق.

فوائد راس الحانوت في وجبة

ينقسم راس الحانوت حسب الفصول إلى قسم خاص بفصل الشتاء، ويسمى راس الحانوت الساخن، ("المساخن")، والخاص بفصل الربيع والصيف ويسمى البارد.

الفرق بينهما أن البارد تُزال منه الأعشاب التي ترفع درجة حرارة الجسم، ولهذا يُحذّر من شرب الماء البارد بعد تناول "المساخن"، أو التعرّض لتيار هواء بارد، لأنّ مسام الجسم تنفتح بفعل الحرارة. وتحتوي التوابل المكونة لراس الحانوت على كميات جيدة من فيتامين ج وفيتامين أ، بالإضافة للحديد والكالسيوم والمغنيسيوم.

لكل عطّار وصفته الخاصة لراس الحانوت التي تتكون من مزيج متعدد من البهارات، قد يصل عددها إلى الأربعين.

من الفوائد التي لا تحصى لراس الحانوت، إلى جانب أنه يُستخدم في علاج أعراض نزلات البرد، أنه يقوي الألياف العصبية ويزيد من متانتها، ويحافظ على أداء الجهاز الهضمي بسبب احتوائه على جوزة الطيب. يمنح الجسم النشاط والحيوية، ويقوي المفاصل ويساعد في علاج الروماتيزم. يساعد على زيادة المناعة ويطوِّرها، وعلى تنظيم الدورة الدموية وإنتاج كريات الدم الحمراء لعلاج فقر الدم. كما يساعد على معالجة الاكتئاب والتوتر والقلق. ويشاع أنه يساعد في الأداء الجنسي، وأنه يقوّي الخصوبة لدى المرأة والرجل، وبالتالي يعالج تأخر الحمل، إذ تتردد مقولة إنّ من فوائد راس الحانوت مساعدة المرأة التي ترغب في الإنجاب. تروي النساء مثلاً كثرة تناولهنّ لراس الحانوت في الحريرة (حساء مغربي)، حيث تُسخّن الحريرة ويوضع فوقها القليل من "المساخن". تُغلق من بعدها عليهنّ غرفهنّ، يدخلن أسرتهنّ، ثم يشربن الحريرة. الهدف من الإغلاق الشامل، هو عدم التعرض لتيار هواء بعد تناول المَساخْن حتى لا يبطل مفعوله، وهو طرد البرد. وبعد الإنجاب تتغذى النفساء بالرفيسة لمدّها بالطاقة التي خسرتها في الولادة، ولإدرار الحليب لإرضاع وليدها.

كلّ شيء بميزان

في جميع الحالات، وسواء استُخدم راس الحانوت للطبخ أو للعلاج، فلا بّد من تناوله باعتدال، وعدم الإفراط في استعماله. مشكلة الأعشاب تتمثّل في حجم الجرعات، ويُشكّل استعمالها بشكل مكثّف خطراً على الصّحة، خاصة على الأشخاص ذوّي الأمراض المزمنة، ممن يعانون من ارتفاع الضغط الدموي وأمراض القلب والكلى.

بما أنّ أبرز أدوار "راس الحانوت" محاربة البرد الذي يُحمّله كثير من المغاربة المسؤولية عن عدد لامحدود من الأمراض، فإنه يُطلق عليه اسم آخر أيضاً هو "المساخْن". يسارع المغاربة إلى تجهيز أطباق ووصفات هرباً من البرد.

قد تنشأ آثار أخرى عن الإفراط في تناول راس الحانوت، مثل التسمم الذي يمكن أن تتسبّب به كمية أو جرعة كبيرة. إضافة إلى غش الباعة الذين قد يضيفون مواداً غير طبيعية لمضاعفة الوزن. لذا ينصح البعض باقتناء توليفة الأعشاب والتوابل، التي تُكوِّن "راس الحانوت" أو "المساخن"، وتنظيفها في البيت وطحنها، بدل شرائها جاهزة، علاوة على ضرورة استهلاكها بكمّيات قليلة لا تتجاوز ملعقة صغيرة. وهناك تحذيرات من "المركز الوطني لمحاربة التسمّم" من حالات وفاة بسبب الأعشاب، في حالات الحساسية أو الغش أو الأمراض المزمنة. ويُمنع على المرأة الحامل تناول راس الحانوت إلا بدرجات خفيفة، نظراً لخطر الإجهاض الذي قد تشكّله خلطة الأعشاب السّاخنة.

تتعدّد الوصفات، ويمتدّ خيط راس الحانوت، وبالكاد يُمكن التّفريق بين الحقيقي والمتخيَّل في فوائده، لكن طعمه في الأطباق التي يدخل في مكوناتها لا يختلف عليه اثنان. وما لم يذق المرء راس الحانوت، ستنقصه تجربة جديرة بإغناء حواسه. 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...