تشريعيات تونس 2022: اللاحدث التاريخي..

الديمقراطية هي الخاسر الأكبر في تونس. ابتهج أغلب التونسيين بالإجراءات التي أعلن عنها سعيّد يوم 25 تموز/يوليو 2021 وخاصة فيما يتعلق بتجميد البرلمان ثم حله. وارتفعت دعوات في الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي للزج بكل النواب في السجن وحظر الأحزاب والمنظمات الحقوقية وغلق وسائل إعلام ومنح رئيس الجمهورية كل الصلاحيات لينقذ البلاد من "العبث" الذي "تسبب" فيه "مسار الانتقال الديمقراطي"..
2022-12-27

شارك
غرافيتي من انجاز الفنان وسام العابد، جربة - تونس.

الشعب لا يريد.. هكذا قالت الصناديق في الدور الأول من الانتخابات التشريعية التي نُظّمت في تونس يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر الجاري. فقد أعلنت "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" أنّ 803 آلاف تونسي، أي 8.8 في المئة فقط من حوالي تسعة ملايين ناخب مسجل، ذهبوا إلى مراكز الاقتراع في أول انتخابات تشريعية بعد انفراد قيس سعيّد بالسلطة كاملة في تموز/يوليو 2021.

 وخلال الندوة الإعلامية، تفاعل رئيس الهيئة، فاروق بوعسكر، بتشنج واضح مع أسئلة الصحافيين، فلم يفوّت فرصة تأكيد شكوك المعارضة واتهاماتها حول عدم استحقاق الهيئة لصفة "المستقلة"، إذ طفق يعدّد أسباب ومبررات المقاطعة الشعبية الواسعة للانتخابات: "تغيُّر نظام الاقتراع وانعدام المال السياسي... ولأنه أوّل مرة تصير انتخابات نقية ونظيفة". هكذا اكتشفنا أنّ الملايين من التونسيين الذين شاركوا في المحطات الانتخابية السابقة - ومنها التي أوصلت سعيّد إلى قرطاج وبوعسكر لهيئة الانتخابات - مأجورون ومرتزقة، وأن مئات الآلاف الذين شاركوا في الدور الأول من تشريعيات 2022 هم الوطنيون الزاهدون والأنقياء. ويُذكر هنا أن بوعسكر عضو في هيئة الانتخابات منذ سنة 2017 وأشرف على بلديات 2018 وتشريعيات ورئاسيات 2019 والاستفتاء على الدستور في 2022، ولم يسبق له أن استقال أو احتج على الانتخابات "غير النقية" والمال السياسي الفاسد.. فإما أنه كان سابقاً "شاهد زور" أو أن الله فتح بصيرته يوم 17 كانون الأول/ديسمبر 2022.

بعد 48 ساعة من الإعلان الأول جاء الإعلان الثاني: لقد ارتفعت نسب المشاركة لتبلغ 11.22 بالمئة وصار المشاركون مليون و25 ألف ناخب. وهكذا، نجونا بأعجوبة من نسبة هي الأدنى في تاريخ تونس بكل مراحله، "الديكتاتوري" و"الديمقراطي" وحتى "الضبابي" الراهن.

مقالات ذات صلة

انتظر الجميع ردة فعل رئيس الجمهورية وتعليقه على هذه النتائج "التاريخية". لم يتحدث الرئيس إلا بعد أن أوردت الهيئة المشرفة على الانتخابات أرقامها الجديدة، ولم يفعل ذلك في كلمة مباشرة أو مسجلة موجهة إلى الشعب، بل على هامش اجتماع دوري مع رئيسة الحكومة: "بعض الجهات المعروفة لم تجد هذه المرة شيئاً تركّز عليه سوى نسبة المشاركة في هذه الدورة الأولى للتشكيك في تمثيلية مجلس نواب الشعب القادم، في حين أن نسبة المشاركة لا تقاس فقط بالدور الأول، بل بالدورتين، ومثل هذا الموقف القائم على التشكيك من جهات لا دأب لها إلا التشكيك، فضلاً عن تورط البعض في قضايا لا تزال جارية أمام المحاكم، مردود على أصحابه بكل المقاييس بل هو شبيه بالإعلان عن نتيجة مقابلة رياضية عند انتهاء شوطها الأول"!

المعارضة كانت سباقة في ردود الفعل والتعليق. فمنذ الدقائق الأولى التي تلت إعلان الهيئة عن نسب المشاركة، رفعت شارات النصر وصدحت بأهازيج الفرح معتبِرة أن هذه النسب تشكل هزيمة نكراء لرئيس الجمهورية، وتعبِّر عن رغبة الشعب في التخلّص منه.

وسط كل ذلك أُهملت الأسباب التي قد تكون وراء المقاطعة الشعبية الواسعة للانتخابات وانعكاسات هذا الموقف على حاضر المشهد السياسي ومستقبله.

القشة التي قصمت ظهور الغرقى

نسبة الـ8.8 في المئة التي أعلن عنها في البداية هي أقل من نسبة التضخم الحالية في تونس والمقدرة بـ9.2 في المئة، ونسبة البطالة المقدرة بأكثر من 15 في المئة المسجلة خلال الربع الثاني من سنة 2022، ونسبة الفقر المدقع التي تتجاوز 21 في المئة حسب الأرقام الرسمية لسنة 2021. هذه الأرقام لوحدها قادرة على إحباط أغلب التونسيين وأن تكرِّههم بالسياسة والسياسيين، وتجعلهم يفكرون ألف مرة قبل الذهاب إلى مكاتب الاقتراع.. أو لا يفكرون في الأمر بتاتاً. 

أعلنت "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات" أنّ 803 آلاف تونسي، أي 8.8 في المئة فقط من حوالي تسعة ملايين ناخب مسجل، ذهبوا إلى مراكز الاقتراع في أول انتخابات تشريعية بعد انفراد قيس سعيّد بالسلطة كاملة في تموز/يوليو 2021.

بعد 48 ساعة من الإعلان الأول جاء الإعلان الثاني: لقد ارتفعت نسب المشاركة لتبلغ 11.22 بالمئة وصار المشاركون مليون و25 ألف ناخب. وهكذا، نجونا بأعجوبة من نسبة هي الأدنى في تاريخ تونس بكل مراحله، "الديكتاتوري" و"الديمقراطي" وحتى "الضبابي" الراهن.  

منذ 2011 والتونسيون يتوافدون على تلك المكاتب أملاً في التغيير. أقبلوا بنسب مشاركة متفاوتة - وصل أقصاها إلى حدود 70 في المئة في تشريعيات 2014 - على الصناديق في 2011 و2014 و2018 و2019، لكن أحوالهم لم تتبدل إلى الأحسن، بل تدهورت من انتخابات إلى أخرى. أياً كانت القوة السياسية التي ينتخبونها وتفوز، فهي في نهاية المطاف ستتحالف مع قوى سياسية صوتوا ضدها، وتشكل تكتلات برلمانية وائتلافات حكومية قائمة على المحاصصة وتوزيع المناصب على غير الأكفاء. أيا كان اللون الغالب على الحكومة فإن السياسات اللاشعبية والخاضعة لشهوات رأس المال المحلي وإملاءات المؤسسات المالية الدولية تبقى هي نفسها. على مدى العقد التالي لثورة 2011، دمّر الحكام الجدد بقيادة "حركة النهضة" - وبرفقة الحكام القدامى الذين تمّ "تدويرهم" - ما تبقى من "دولة الرعاية" و"السيادة الوطنية". دفع التونسيون من دمائهم خلال الثورة، وكذلك بعدها.. سنوات الإرهاب والاغتيالات السياسية (2012 -2015) أعقبتها سنوات الهروب الكبير.. الكلّ يهاجر أو يسعى إلى ذلك، وليس للجميع جوازات سفر وتأشيرات تفتح لهم أبواب الطائرات والمطارات الأوروبية، فيلجأ كثيرون إلى قوارب الموت: مئات التونسيين غرقوا في البحر الأبيض المتوسط خلال السنوات الخمس الأخيرة.

بلغ العبث ذروته في 2020-2021 عندما سيطر ائتلاف إخواني–شعبوي-مافيوزي على مجلس النواب والحكومة، وتحولت الجلسات البرلمانية إلى عرض يومي مقزز ومخيف... في ذلك الوقت كان رئيس الجمهورية منزوع الصلاحيات الدستورية يتفرج عاجزاً، وكذلك المعارضة غير البرلمانية. ازدادت الأمورُ سوءاً مع وباء الكوفيد الذي أزهق أرواح قرابة عشرين ألف تونسي بينما كان وزراء الحكومة يقضون إجازات نهاية الأسبوع في منتجعات سياحية ويخلّدون لحظاتهم الممتعة بصور يشاركونها على منصات التواصل الاجتماعي.

وعندما قلب قيس سعيّد الطاولة مساء 25 تموز/يوليو 2021 ليعلن صافرة نهاية "مسار الانتقال الديمقراطي" في أوج حالة الإحباط والحداد العامة، تلقفه كثير من التونسيين كمخلّص بعثته العناية الإلهية. كان القشة التي تعلق بها ملايين الغرقى.. فقصمت ظهورهم. سرعان ما انفرد سعيّد بكل السلطات تقريباً، وأظهر نيته تنظيم مستقبل البلاد دون استشارة أحد، معتمداً على تأييد شعبي يقوم على رفض أغلبية التونسيين لأي تغيير سياسي جديد، واعتقاد كثير منهم أن خروج البلاد من أزمتها يتطلب وجود رئيس جمهورية قوي لا ينافسه برلمان ولا تزعجه معارضة.

 صبّ سعيّد أفكاره ورؤاه في نصّ دستور استطاع تمريره في "استفتاء شعبي" بنسب تسعينية. وعلى عكس سرعته في صياغة النصوص والمراسيم وتجاهل المؤسسات والهيئات، فإن الرئيس متأنٍّ جداً في محاربة الفساد ومحاسبة الذين أوصلوا البلاد إلى القاع. أما الأزمة الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد حتى قبل قدومه إلى السلطة، فلقد تحوّلت إلى كابوس حقيقي.. كرة ثلج تكبر كل يوم وتتدحرج بسرعة جنونية لتسحق طبقات اجتماعية بأكملها. أصبح الحصول على علبة حليب "نصف دسم" أو رطل من السكر أو لتر من الزيت النباتي المدعّم إنجازاً يبعث على الفرحة. الأسعار تقفز كل يوم بنسقٍ مخيف، نتحدث عن سلع أساسية كالخضروات والبقول والبيض، فما بالك بلحوم الدواجن واللحوم الحمراء والأسماك. لا يملك الرئيس ووزراؤه وأنصاره حلولاً للأزمة لكن لديهم إجابات جاهزة ومقنعة: تأثيرات الحرب الروسية - الأوكرانية، تآمر المحتكرين وأطراف معارضة وقوى أجنبية لتجويع الناس حتى يثوروا على الرئيس ويعيدوا الحكام القدماء إلى السلطة.

يتوافد التونسيون منذ 2011 على مكاتب الانتخابات أملاً في التغيير. أقبلوا بنسب مشاركة متفاوتة - وصل أقصاها إلى حدود 70 في المئة في تشريعيات 2014 - على الصناديق في 2011 و2014 و2018 و2019. لكن أحوالهم لم تتبدل إلى الأحسن، بل تدهورت من انتخابات إلى أخرى.

أياً كانت القوة السياسية التي ينتخبونها وتفوز، فهي في نهاية المطاف ستتحالف مع قوى سياسية صوتوا ضدها، وتشكل تكتلات برلمانية وائتلافات حكومية قائمة على المحاصصة وتوزيع المناصب على غير الأكفاء. أيا كان اللون الغالب على الحكومة فإن السياسات اللاشعبية والخاضعة لشهوات رأس المال المحلي وإملاءات المؤسسات المالية الدولية تبقى هي نفسها. 

بعد كل هذا يأتي الرئيس ليطلب من التونسيين التوجه إلى صناديق انتخابات كفروا بها وبجدواها، لانتخاب مجلس صوري بلا صلاحيات حقيقية (فضلاً عن نقمتهم على المؤسسة البرلمانية) وفق قانون انتخابي جديد لا يعرف أغلبهم تفاصيله. هل كان ينتظر أن يحجوا جماعاتٍ ووحداناً إلى مراكز الاقتراع؟ الحملة الانتخابية التي امتدت لثلاثة أسابيع كانت صامتة وثقيلة.. وأحياناً كاريكاتورية عندما تسمع برامج ووعود مرشحين لم يقرأوا الدستور ولا القانون الانتخابي. لم تحضر الانتخابات في أحاديث المقاهي والاجتماعات العائلية والشارع كما كان يحدث سابقاً.. كانت اللاحدث بامتياز. هل كان مطلوبا من التونسيين أن يتخلوا عن متعة متابعة العروض السحرية لكأس العالم ويتابعوا مباراة محلية في دوري الدرجة الثالثة، الحكَم فيها هو نفسه المدرب واللاعب والجمهور؟

حسابات الربح والخسارة

ككلّ محطة انتخابية، هناك رابحون وخاسرون، ونحن هنا لا نتحدث عن المرشحين للمجلس، فأغلب الدوائر لم تُحسم نتائجها وستحتاج إلى دور ثانٍ للتعرف على الفائزين. الحديث هنا عن طرفي المشهد السياسي، أي رئيس الجهورية والمعارضة، وأبعد (وأهمّ) منهما الديمقراطية بحد ذاتها.

- هل هي هزيمة للرئيس؟

نوعاً ما، لكن ليس كلياً. بالطبع قيس سعيّد هو المعنيّ الأول بهذه الانتخابات، وهي المحطة الأخيرة حسب "خارطة الطريق" التي أعلن عنها في كانون الأول/ديسمبر 2021 للخروج من مرحلة "الإجراءات الاستثنائية" التي انطلقت مساء 25 تموز/يوليو من السنة نفسها. وهي كذلك - على الأقل حسب ما يتمنى الرئيس - الخطوة الأولى نحو بناء مشروعه: "الديمقراطية القاعدية"، التي تعوض نمط الديمقراطية التمثيلية الذي كان قائماً في تونس قبل استيلائه على السلطة. كما أنها نوع من الـ"باروميتر" لقياس نسبة الرضا/الغضب عند عموم التونسيين إزاء الوضع السياسي والاقتصادي الراهن، وبالتالي تمثل في أحد وجوهها اختباراً لشعبية الرئيس ومدى تعلق الرأي العام به. لكن لا يجب التسرع في استخلاص الاستنتاجات وبناء فرضيات حول المستقبل السياسي للرئيس. 

لا يجب أن ننسى أنه قبل أربعة أشهر من التشريعيات، وتحديداً في 25 تموز/يوليو 2022، ذهب قرابة الثلاثة ملايين مواطن في يوم صيفي حار إلى مراكز التصويت للاستفتاء حول دستور جديد صاغه رئيس الجمهورية بمفرده وضمّنه "زبدة" أفكاره ونظرياته، ومنح فيه نفسه صلاحيات رئاسية (بالأحرى ملَكية) واسعة جداً. 94.6 في المئة منهم منحوا الرئيس ودستوره ثقتهم، حتى أن البعض تحدث عن مبايعة وليس استفتاء. طبعاً تراجعت شعبية الرئيس مقارنة بالدور الثاني من رئاسيات 2019 عندما حصل على قرابة الأربعة ملايين صوت، وكانت نسبة المشاركة المتدنية في الاستفتاء (حوالي 30 في المئة من مجمل الناخبين) بمثابة إنذار أول بأن عدد مؤيديه ومناصريه في تناقص.. لكن هل يُعقل أن يكون الرئيس قد فقد ثقة قرابة مليوني تونسي في غضون الأشهر الأربعة الفاصلة بين الاستفتاء على الدستور والدور الأول من تشريعيات 2022.. لا يبدو الأمر منطقياً. الأقرب للواقع والمنطق أن جزءاً كبيراً من التونسيين ما زال ناقماً على المجالس التشريعية التي تعاقبت بعد ثورة 2011 ولا يكنّ وداً للمؤسسة البرلمانية، ولا يرغب في انتخاب مجلس جديد.

صبّ سعيّد أفكاره ورؤاه في نصّ دستور استطاع تمريره في "استفتاء شعبي" بنسب تسعينية. وعلى عكس سرعته في صياغة النصوص والمراسيم وتجاهل المؤسسات والهيئات، فإن الرئيس متأنٍّ جداً في محاربة الفساد ومحاسبة الذين أوصلوا البلاد إلى القاع. أما الأزمة الاقتصادية التي كانت تعيشها البلاد حتى قبل قدومه إلى السلطة، فلقد تحوّلت إلى كابوس حقيقي..

 مهما كانت منطلقات مقاطعة التونسيين للتشريعيات، ومهما كان حجم التأييد الشعبي لقيس سعيّد ومهما كانت صلاحيات البرلمان محدودة (حسب دستور 2022)، فالأكيد أن المقاطعة التاريخية للانتخابات محرِجة بشكل كبير لرئيس الجمهورية. لكنها ليست هزيمة نكراء، بل قد تصب في مصلحة سعيّد. فبالإضافة إلى الصلاحيات الواسعة التي منحها لنفسه في الدستور الجديد، فسيكون من الملائم جداً له أن "يشاركه" الحكم مجلس نواب ضعيف ومشتت، وخاصة فاقد للشرعية الشعبية ولأي ثقل حقيقي يمكن أن ينافس الرئيس أو يزعجه. ومهما كانت نسبة المشاركة في الانتخابات في آخر الأمر، فسيكون هناك مجلس نواب منتخب "ديمقراطياً" حسب ما تعهد الرئيس في خارطة الطريق، وهذا سيخفف عنه بعضاً من الضغط الداخلي والخارجي. يُضاف إلى كلّ ما سبق شخصية و"ذهنية" قيس سعيّد الذي أظهر في السنتين الفائتتين قدرة كبيرة على إنكار الواقع وتجاهله ومواصلة السير على الطريق نفسه حتى وإن كان مغلقاً أو يؤدي إلى الهاوية.

 -هل هو انتصار للمعارضة؟

قد يبدو الأمر كذلك، لكن قطعاً لا. قاطعت الانتخاباتَ التشريعية أغلبُ الأحزاب - باستثناء الأحزاب العروبية وعدد قليل جداً من الأحزاب اليسارية الصغيرة وأحزاب هلامية مؤيدة للرئيس وُلدت بعد 25 تموز / يوليو 2021 - ودعت التونسيين إلى عدم المشاركة فيها. وكان لها موقفٌ مشابهٌ من الاستفتاء على الدستور، وقبله من "الحوار الوطني" و"الاستشارة الوطنية الالكترونية". وكان ذلك احتجاجاً على تفرد قيس سعيّد بالسلطة، وإقصائه للأحزاب من أي حوار جدي حول مستقبل البلاد والعملية السياسية، وإخضاعه لأغلب الهيئات الدستورية. كما أن الرئيس لم يخفِ يوماً ازدراءه للأحزاب وإيمانه بلاجدواها وقرب اندثارها، ومثّلت التعديلات التي أدخلها على قانون الانتخابات في شهر أيلول / سبتمبر الفائت "اغتيالاً" مبرمجاً وممنهجاً للأحزاب ودورها في العمل السياسي. 

وكان من الطبيعي أن تحتفل أغلب هذه الأحزاب بالمقاطعة الشعبية الواسعة للتشريعيات التي اعتبرتها انتصاراً لها وثأراً من الرئيس الذي أراد حجب الضوء والأوكسيجن عنها. لم تكتفِ بـ"الشماتة" بالرئيس بل دعته إلى التنحي واقترحت حتى ترتيبات "مرحلة انتقالية" جديدة مثل ما فعلت "جبهة الخلاص" (تنسيقية أحزاب وشخصيات إسلامية ومدنية عمودها الفقري "حركة النهضة") التي دعت إلى أن "يتولى منصب رئاسة الجمهورية لفترة انتقالية وجيزة قاض من القضاة المعروفين بالنزاهة والاستقلالية، في انتظار أن تُدار انتخابات ناجزة وتنظيم حوار وطني وقيادة البلاد لنهج الإصلاح"، في حين دعا "حزب العمال" اليساري "الشعب التونسي وقواه التقدمية السياسية والاجتماعية والمدنية إلى اعتبار نظام قيس سعيّد خارج الشرعية ومنتهياً، ولذلك وجب رحيله وبالأحرى ترحيله فوراً باعتباره خطراً على تونس"، ودعت وريثة "الدساترة" (الحزب الذي حكم تونس منذ الاستقلال إلى الثورة) عبير موسي الرئيس إلى "الخروج بطريقة حضارية للشعب التونسي وإعلان الشغور في منصب رئاسة الجمهورية، على أن يواصل القيام بأعمال الرئاسة، وأن يدعو مباشرة إلى انتخابات رئاسية سابقة لموعدها". وكانت مواقف أغلب بقية الأحزاب المعارضة تصبّ في هذا المنحى بالنبرة الانتصارية نفسها.

 لكن هل هو أصلاً انتصار؟ وعلى من؟ من حقّ المعارضة أن تسجل نقاطاً على خصمها الأكبر، ومن واجبها أن تتصدى للحاكم بأمره، لكن هل هي فعلاً من أقنعت التونسيين بمقاطعة الانتخابات؟ وما هو ثقلها في الشارع؟ على مدى 16 شهراً (تموز/يوليو 2021 - كانون الأول/ديسمبر 2022) لم تنجح مختلف الأحزاب والتنسيقيات المعارِضة في تنظيم مسيرة أو حركة احتجاجية تجمع عشرة آلاف مواطن، ولا في تشكيل ائتلاف واسع يمكن أن يمثل ثقلاً مضاداً لثقل الرئيس، ولا في اقتراح مبادرات يمكن أن تجمع حولها عشرات أو مئات آلاف التونسيين. واهمة أحزاب المعارضة إنْ كانت تعتقد حقاً أن دعواتها للمقاطعة مؤثرة، إذ لا يكاد يكون أحدٌ قد التفت إليها. "الصفعة" التي ترى المعارضة أن التونسيين وجّهوها إلى الرئيس ومشروعه يمكن بالعين المجردة رؤية آثارها على "وجه" المعارضة نفسها. هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها في تونس ولا تحتاج إلى فطنة لتلمسها: جزء كبير - إنْ لم يكن الأكبر- يكره الأحزاب ويعتبرها (بغضّ النظر عن مدى صوابية هذا الرأي) مسؤولة عن تدهور الأوضاع في البلاد. وهو في ذلك لا يفرِّق بين أحزاب حكمت البلاد وتمتعت بامتيازات وأحزاب كانت في المعارضة.. بالنسبة له كلها "نخب" اعتاشت من مسار "الانتقال الديمقراطي" وتناحرت فيما بينها بينما كانت البلاد تغرق كل يوم أكثر. وسبق للتونسيين أن وجهوا عدة إنذارات للأحزاب و"النخب" عموماً. الإنذار الأول كان في الانتخابات البلدية سنة 2018 عندما ذهب أغلب أصوات الناخبين إلى قوائم مستقلة، أما الإنذار الثاني والأقوى فكان في رئاسيات 2019 عندما صعّدوا قيس سعيّد الذي لا انتماء حزبي ولا تاريخ سياسي له إلى الدور الثاني قبل أن يوصلوه إلى قصر قرطاج. أن تتحدث أحزاب المعارضة اليوم - خاصة "حركة النهضة" التي لم تغب يوماً عن الحكم من تشرين الأول/أكتوبر 2011 إلى تموز/يوليو 2021 - عن انتصار فهذا في أقل تقدير تجيير لاحتجاج شعبي صامت و"عفوي"، وفي أخطر تقدير حالة من الإنكار للواقع. من الأجدر أن تبحث الأحزاب المعارِضة في أسباب النفور الشعبي منها وكيفية إعادة ربط الصلة مع المواطنين حتى لا تعيش هي أيضاً سيناريو المقاطعة نفسه في مناسبات انتخابية أخرى.

- ماذا عن الديمقراطية؟

إذا ما كان هناك أمر مؤكد فهو أن الديمقراطية هي الخاسر الأكبر في تونس. ابتهج أغلب التونسيين بالإجراءات التي أعلن عنها سعيّد يوم 25 تموز/يوليو 2021 وخاصة فيما يتعلق بتجميد البرلمان ثم حله. بل وارتفعت دعوات في الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي للزج بكل النواب في السجن وحظر الأحزاب والمنظمات الحقوقية وغلق وسائل إعلام ومنح رئيس الجمهورية كل الصلاحيات حتى ينقذ البلاد من "العبث" الذي "تسبب" فيه "مسار الانتقال الديمقراطي".. ونحن هنا لا نتحدث عن أصوات نشاز أو أقلية متعصبة. كلمة "معارضة" أصبحت تثير حساسية كبيرة عند جزء مهم من التونسيين، وكذلك كلمة "الديمقراطية". يقارن الناس بين أوضاعهم المعيشية وأداء الأجهزة والمؤسسات الحكومية زمن الديكتاتورية وبين ما آلت اليه الأمور بعد ثورة 2011 فيتوصّلون إلى استنتاج أن "الديمقراطية" كانت وبالاً عليهم وعلى البلاد، وأن الديكتاتورية على مساوئها فهي الكفيلة بضمان الخبز والاستقرار، ويستذكرون مقولات رائجة مثل "الديمقراطية مش للعرب" و"البلاد هاذي ما ينفع معاها إلا العصا". طبعا المقارنة غير عادلة ويعوزها المنطق، كما أنها لا تفرّق بين الديمقراطية كنظام تعاقدي بين أفراد المجتمع لاختيار ممثليهم وحكامهم وفق شروط معينة وبين ما حصل في تونس من انحرافات أفرغت الديمقراطية من جوهرها وروحها وحولتها إلى آلية سيطرة على السلطة وتقاسم منافعها..

"الصفعة" التي ترى المعارضة أن التونسيين وجّهوها إلى الرئيس ومشروعه يمكن بالعين المجردة رؤية آثارها على "وجه" المعارضة نفسها: جزء كبير - إنْ لم يكن الأكبر- يكره الأحزاب ويعتبرها - بغضّ النظر عن مدى صوابية هذا الرأي - مسؤولة عن تدهور الأوضاع في البلاد. وهو في ذلك لا يفرِّق بين أحزاب حكمت البلاد وتمتعت بامتيازات وأحزاب كانت في المعارضة..

سيتواصل العزوف عن المشاركة في الانتخابات، وحتى إن أقبل التونسيون مجدداً - في المدى القصير والمتوسط - بكثافة على صناديق الانتخابات، فقد لا يكون ذلك حرصاً على "الديمقراطية" بل ربما سعياً ضمنياً لاختيار شخصيات أو للاستفتاء على نصوص تحجّمها. بين 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 يوم أضرم محمد البوعزيزي النار في جسده وبين 17 ديسمبر/كانون الأول 2022 يوم "أضرم" التونسيون النار في صناديق الانتخابات، مرت 12 سنة شهدت خلالها البلاد سيناريوهات عجائبية ومخيفة وفي أحيان قليلة مبهجة وباعثة على الفخر. 12 سنة مرت ثم نجد تونس في الوضع نفسه: رئيس جمهورية بصلاحيات كبيرة، حكومة تابعة للرئيس ومجلس نواب صوري.

***

23 دائرة فقط حسمها الدور الأول وكشف عن هوية الفائزين بها: 20 رجلاً و3 نساء. وسيتنافس 262 مرشحاً للفوز بمقاعد 131 دائرة لم تُحسم بعد: 34 امرأة و228 رجلاً أغلبهم كهول وشيوخ. تشكيلة المجلس النيابي القادم ستكون ضربة قوية لتمثيلية النساء والشباب في السلطة التشريعية. لم يُعلن بعد عن موعد الدور الثاني، في حين سبق أن صرحت هيئة الانتخابات أن النتائج النهائية ستعلن في آذار/مارس 2023.. نتحدث عن انتخابات بدأت حملتها في تشرين الثاني/نوفمبر 2022. قد تتحسن نسب المشاركة قليلاً في الدور الثاني، أولاً لأن الاختيار بين مرشحين اثنين سيكون أسهل، وثانياً لأن الحسابات العشائرية/المناطقية ستدخل على الخط وتستنفر العصبيات، وثالثاً لأن الرئيس وأنصاره سيضاعفون جهودهم هذه المرة لتفادي فضيحة ثانية سيكون وقعها أثقل.. ومهما كانت النتائج النهائية للتشريعيات فإنها لن تحجب واقع الإحباط الشعبي المتنامي الذي قد يتحوّل إلى غضب عنيف أو استكانة طويلة المدى.  

مقالات من تونس

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...

للكاتب نفسه

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...