المغرب: أزمة في الجيب وأخرى في الطريق

تدعم الدولة الغاز والقمح والسكر للحد من مخاطر الاحتقان الاجتماعي، مما يستدعي تخصيص 2.36 مليار يورو عام 2023 ل"صندوق التعويضات" بغاية تثبيت أسعار هذه المنتجات الأساسية. لكن من أين لها ذلك؟ فقد رفضت ضريبة الأرباح الفائقة على الشركات الكبرى التي طالبت بها المعارضة، خاصة على موزعي الهيدروكربونات، وعلى البنوك أو شركات التأمين، لمشاركة مكاسبهم الاستثنائية مع المجتمع، كما فعلت بعض البلدان.
2022-12-14

عائشة بلحاج

صحافية وباحثة في حقوق الإنسان، من المغرب


شارك
احتجاجات اجتماعية في المغرب

حتى في عزّ الفرح لا يغيب الهمّ! فلم تمرّ بسلام فرحة المغاربة بإنجازات الفريق الوطني في مباريات كأس العالم دون التّذكير بالأزمة الاقتصادية، ومعاناة المغاربة من آثارها الثّقيلة على القلب والجيب. المغاربة لم يرغبوا في استحضار الأزمة آنذاك، بل في اقتناص لحظة الفرح بشهية. ودلّت الطريقة التي احتضن فيها عدد هائل من المغاربة فرحةَ التأهيل إلى الدور الثاني على حجم التراكم النّفسي السّلبي الذي حملته هذه القلوب، التي تذوق الفرح لأوّل مرة منذ زمن بعيد... ربّما منذ ما قبل كورونا، وربّما قبل عشر سنوات منها، في عزّ الربيع العربي الذي أَزهر في المغرب قبل أن ينحسر الصّفاء عن السماء، وتمتلئ بغيوم قاتمة تضاعفت بمرور الزّمن، مع تراكم الصّعوبات الاقتصادية والتعثّرات السياسية.

ليست المرّة الأولى التي يعاني فيها المغرب أزمة اقتصادية بهذا الشّكل. ففي سنة 1986 وصلت الأزمة الاقتصادية إلى حد الإعلان بأنّ المغرب يعيش مشكلاً غير قابل للحل، وأنه على حافة سكتة قلبية. لكنّ الأزمة حُلّت وقتها بأداة كانت متنفسّاً لا يملكه المغرب الآن، وهو الخصخصة، عبر التنازل عن المؤسسات الاقتصادية التي تملكها الدولة للخواص.

أعطني سمكة أو علمني الصيد

في الشّوارع، تواجهك الأعداد المتزايدة للمتسوّلين بشكل يدعو للقلق. هل هي ثقافة جديدة للاسترزاق السّهل، أو أنّ الأزمة وصلت ببعض المحتاجين إلى الخروج من منطقة التعفّف إلى حال السؤال؟ لعلّ أبرز مظاهر الأزمة لفئة عريضة من الناس، اتساع نطاق البطالة وارتفاع الأسعار. وهما أمران تحقّقا بامتياز في هذه الفترة. فالأسعار ارتفعت بنسبة 8 في المئة في عام واحد، مما يهدّد الاستقرار المعيشي لفئات عريضة من المجتمع ويزيد من التفاوتات الاجتماعية. بينما بلغت نسبة البطالة 12 في المئة بين عامي 2021 و2022، حسب مذكرة للمندوبية السّامية للتخطيط (مؤسسة رسمية متخصصة في الإحصاء).

لم يترك الجفاف للمواطنين شيئاً أخضر ولا أصفر. آثار الجفاف شملت الكلّ، ابتداء من صغار الفلّاحين مثل النّساء اللواتي يبعن الخضار والبقوليات على الأرصفة، وانتهاء بالضّيعات الفِلاحية الكبرى. الكبار يجدون حلولاً لتخفيف الخسائر، أمّا صغار الفلاحين فهم في مهبّ الريح، ويمكن تلمّس ذلك بتناقص عدد النّساء البائعات على أرصفة الأسواق الشّعبية

على مستوى البطالة، بلغت نسبة الشباب بين سني 15 و24 سنة، ثلث العاطلين عن العمل. وتمثّل هذه الفئة العمرية ستة ملايين شاب (من أصل 36 مليوناً هم مجموع السكان). وهي بطالة طويلة الأمد، حيث إن ثلثي الشباب العاطلين، هم في وضعية بحث عن شغل منذ سنة أو أكثر، ونحو ثلاثة أرباعهم لم يسبق لهم أن اشتغلوا (1).

الجفاف زاد الطين بلة

لم يترك الجفاف للمواطنين شيئاً أخضر ولا أصفر. آثار الجفاف شملت الكلّ، ابتداء من صغار الفلّاحين مثل النّساء اللواتي يبعن الخضار والبقوليات على الأرصفة، وانتهاء بالضّيعات الفِلاحية الكبرى. الكبار يجدون حلولاً لتخفيف الخسائر، أمّا صغار الفلاحين فهم في مهبّ الريح، ويمكن تلمّس ذلك بتناقص عدد النّساء البائعات على أرصفة الأسواق الشّعبية، وصار معظمهنّ يبيع بشكل شبه حصري ما يمكن اقتناؤه من سوق الجملة، بعد أن كنّ يبعن منتوجاتهنّ التي يرعينها في أراضيهنّ.

بلغ الجفاف في السّنوات الأخيرة مستويات قياسية، أضرّت بشدّة بلداً يعتمد على الفِلاحة كجزء رئيسي من مدخوله الاقتصادي. حينما يكون العام ممطراً، فإن المنتوج الفلاحي يُريح الاقتصاد من ضغط كبير، ويسود جوّ من الراحة النّسبية فئات عريضة من المجتمع، سواء من حيث المردوديّة المالية للعاملين في القطاع، أو من حيث انخفاض الأسعار لباقي الفئات. لكن في زمن الجفاف، فإنّ الأزمة الاقتصادية تَتعمّق إن كانت موجودة، وتنشأ إن لم تكن كذلك. هذه السّنة بلغ الجفاف مستوى جديداً، فماذا يفعل الفلّاح أمام أرضٍ جفّت من مائها، ولم تغدق السماء عليها من أمطارها؟

يُضاف إلى ذلك عامل آخر، هو اهتزاز المنظومة الاقتصادية بسبب التداعيات العالمية المرتبطة بالحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار النّفط الذي رفع أسعار البنزين إلى أرقام غير مسبوقة، أدّت إلى ارتفاع صاروخي في أسعار السّلع والخدمات. وعلى الرغم من الاحتجاج العام على هذا الارتفاع، فإن الحكومة لم تتدخل لكبح جماح الأسعار وتحديد سقف ربحي لشركات المحروقات. بل حتّى لما انخفضت أسعار النفط في الأسواق العالمية، ظل سعر البنزين مرتفعاً بنسبة الضعف عما كان عليه منذ سنوات قليلة.

هل سيقدر المغرب على الخروج من عنق الزجاجة في وقت قريب؟ تقول التوقعات إن هذه السنة ستنتهي بنموّ ضعيف لا يتجاوز 0.8 في المئة وفقاً لصندوق النقد الدولي ويبلغ 1.5 في المئة وفقاً للحكومة المغربية. وبذلك يكون المغرب قد عاد إلى مستوى من الفقر يمكن مقارنته بالوضع الذي عاشه ما قبل عام 2014، حسب المندوبية السّامية للتخطيط.

وزاد من سخط المغاربة أن عزيز أخنوش، رئيس الحكومة وصاحب أكبر ثروة في البلاد بعد الملك (2)، والمساهم الرئيسي في "أفريقيا"، الشّركة الرائدة في السوق المحلي للبنزين، متّهم من قبل منتقديه بالانتفاع من ارتفاع الأسعار دون أن يقوم بأيّ مبادرة ولو رمزية تجاه المواطنين. ظلّ يدير أعماله على حساب مسؤولياته السياسية. لم يصبح رئيس الحكومة رجل أعمال للمغاربة، ولم يضع خبرته الاقتصادية لتخفيف الأزمة عن المغاربة، في سلوك أطلق عليه البعض وجود "تضارب في المصالح".

وللحد من مخاطر الاحتقان الاجتماعي، تدعم الدولة الغاز والقمح والسكر، مما يستدعي تخصيص حوالي 2.36 مليار يورو عام 2023 لصندوق التعويضات، الذي يهدف إلى تثبيت أسعار هذه المنتجات الأساسية. لكن من أين لها ذلك؟ ما دام قد رفضت ضريبة الأرباح الفائقة على الشركات الكبرى التي طالبت بها المعارضة، خاصة على موزعي الهيدروكربونات، وعلى البنوك أو شركات التأمين، لمشاركة مكاسبهم الاستثنائية مع المجتمع، كما فعلت بعض البلدان، أو لتمويل المشاريع الاجتماعية الكبرى، كما أوصى "مجلس المنافسة" في تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، بدءاً بمشروع تعميم الحماية الاجتماعية، وإصلاح النّظام الصحي، والنظام التعليمي. وعلى الرغم من أن هذه الإيرادات الضريبية الجديدة لن تكون كبيرة، ولكنها ستخفف الضغط على أكثر من ثلاثة ملايين مغربي يقفون على عتبة "الفقر أو الضعف"، بسبب الأزمة الصحية والتضخم، حسب دراسة حديثة للمندوبية السّامية للتخطيط. ولهذا، يؤكد كثيرون أن الحكومة تفضّل النخبة الاقتصادية، وتجسّد التواطؤ بين السلطة السياسية وعالم الأعمال.

هل سيقدر المغرب على الخروج من عنق الزجاجة في وقت قريب؟ تقول التوقعات إن هذه السنة ستنتهي بنموّ ضعيف لا يتجاوز 0.8 في المئة وفقاً لصندوق النقد الدولي ويبلغ 1.5 في المئة وفقاً للحكومة المغربية. وبذلك يكون المغرب قد عاد إلى مستوى من الفقر يمكن مقارنته بالوضع الذي عاشه ما قبل عام 2014، حسب المندوبية السّامية للتخطيط.

في ظل التّضييق على الحريات، لم نعد نرى الكثير من الاحتجاجات كما كان يحدث في السّابق، كما في عام 1981 مع ثورة "الكوميرا" ("الباغيت" الفرنسية حرفياً والخبز مجازياً، لأن كثيراً من الكادحين كانوا يعيشون على الكومّيرا في اليوم)، وهو المسمّى الذي أطلقه إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق في سنوات الرصاص سيّئة الذكر. لم نشهد سوى تحرّكات محدودة، أهمّها مظاهرة ضد ارتفاع تكلفة المعيشة، أمام البرلمان في شباط / فبراير 2020 بالرباط، بينما اقتصرت غالبية الاحتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي، على الرغم من أن عدداً من الأصوات بدأت مؤخّراً تدعو إلى الاحتجاج، بعد تواصل ارتفاع الأسعار. فما الذي ستفعله الحكومة الحالية في السنة المقبلة، مع تواصل أسباب الأزمة الحالية؟ 

______________________

1- حسب مذكرة إخبارية للمندوبية السامية للتخطيط أصدرتها بمناسبة اليوم العالمي للشباب بتاريخ 12 آب/ أغسطس 2022.

2- وفقاً لمجلة "فوربس" 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...