السودان المثقل بضعف التنمية... كيف يواجه أزمة المناخ؟

لا تجد قضايا المناخ والبيئة عموماً في السودان اهتماماً يُعادِل حجم الكوارث المتوقَعة. وتغيب بشكل ظاهر السياسات والإستراتيجيات الخاصة بالاستغلال البيئي الأمثل للموارد الطبيعية. ولا وجود كذلك لاستراتيجيات تتعلق بالأمن الغذائي. ومع تنامي الصراع السياسي على السلطة وتراخي الأمن واتساع رقعة النزاعات الإثنية والقبلية، يُصبح من العسير للغاية تحقيق تنمية تُحدِث نقلة نوعية تَظهر نتائجها في الاقتصاد الكلي.
2022-12-12

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
| en
غسان غائب - العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

يواجه العالم التغير المناخي عبر مسارين: التخفيف، وهو إجراء مباشِر لخفض الانبعاثات، والتكيّف، وهو الاستعداد باكتساب قدرة أكبر على الصمود في مواجهة التأثيرات المناخية، الأمر الذي يتطلب جهوداً واسعة النطاق تهدف في الآخر الى تخفيف الضرر المدمِّر. وتلجأ الدول النامية بالضرورة إلى خيارات "التكيّف" كونها المتأثرة بشكل أكبر بتبعات التغيّر المناخي. 

قضايا بيئية مزمنة يقابلها تراجع في التنمية

خلال قمة المناخ (كوب 27) التي انعقدت بمدينة "شرم الشيخ"، أعلنت الرئاسة المصرية عن إطلاق "خطة شرم الشيخ للتكيّف" في محاولة لحشد الجهد العالمي لمعالجة فجوات التكيّف نفسه. وتعمل الخطة عبر ستة إجراءات تستهدف الزراعة المستدامة المقاوِمة للمناخ، التي يُمكن أن تزيد الغلات بنسبة 17 في المئة وتقلل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري على مستوى الزراعة بنسبة 21 في المئة. كما تستهدف الخطة حماية واستعادة ما يقدَّر بنحو 400 مليون هكتار في المناطق الحرجة لدعم المجتمعات المحلية باستخدام الحلول القائمة على الطبيعة لتحسين الأمن المائي، وحماية 3 مليار شخص من خلال تركيب أنظمة إنذار ذكية ومبكرة. وتستهدف الخطة استثمار 4 مليار دولار أمريكي لتأمين مستقبل 15 مليون هكتار من أشجار "المانغروف" المقاوِمة لعوامل النحر التي تُسبِّب تآكل الشريط الساحلي، كما تقوم بتخزين الكربون بنسبة تفوق الغابات الاستوائية بنحو 5 مرات. وتقترح الخطة كذلك مشاريع لتوسيع نطاق الوصول إلى الطهي النظيف ل 2.4 مليار شخص (1).

ولما كان السودان البالغ عدد سكانه 44.91 مليون نسمة، واحداً من أبرز الدول النامية شديدة التأثر بالتغيّر المناخي، وفي الوقت نفسه بلدٌ مثقل بضعف التنمية الاقتصادية والمشاكل البيئية المتصاعدة، فهو أمام تحدٍ مركّب. ابتداءً، يحتاج السودان لإصلاح وترميم الموجود حتى يستوعب المشاريع الجديدة التي يواجِه بها أزمة المناخ. وعلى الرغم من بعض الإنجازات التنموية المتواضعة التي حققها خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها تفتقد للاستمرارية، كما أن غياب السياسات والخطط والبرامج انعكس جلياً على حظوظ التنمية في الميزانيات المتتالية لأكثر من 20 سنة ماضية، بجانب استشراء الفساد متعدد الرؤوس، وضعف ولاية الدولة على المال العام، ونشوء اقتصاديات موازية أنهكت الاقتصاد الوطني.

خلّف هذا الوضع تراجعاً كبيراً في التنمية وتآكل القدر الضئيل الموجود، وهو الأمر الذي أدى إلى هجرات واسعة من الريف نحو الحضر، ما مثّل ضغطاً هائلاً على الخدمات والبنى التحتية في المدن، وهي في الأساس محدودة للغاية.

وعلى الرغم من استمرار السودان في تطبيق سياسات "صندوق النقد" والبنك الدوليين التي قضت بخروج الدولة نهائياً من دعم المحروقات والقمح والدواء، ثم تحرير سعر الصرف، فإن ذلك لم ينعكس البتة في قطاعات الإنتاج التي تضعضعت هي الأخرى بسبب غياب الخطط، وغرق الجميع في أتون الصراع السياسي، والعجز المريع أمام غول الفساد المستشري في كافة القطاعات، إذ لا يزال السودان في مقدمة الدول الأكثر فساداً وفقاً لمؤشر "الشفافية"، حيث يحتل المرتبة 164 من مجموع 180 دولة. وتراجعت قيمة الجنيه السوداني (2) بشكل غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة حيث خسر حوالي 87 في المئة من قوته الشرائية أمام الدولار بين عامي 2019 - 2021.

ومع غياب مظاهر الدولة الذي أصبح سمة بارزة في السودان، تتصاعد المشكلات البيئية: إزالة الغابات، الرعي الجائر، تآكل التربة والتصحر... كل ذلك قاد إلى تراجع الإنتاج الزراعي والذي بدوره ينتهي إلى تراجع في إنتاج الغذاء المحلي، علاوة على سياسات الحكومات الأخيرة التي ضاعفت الجبايات لسد العجز في الميزانيات. كما أن ظهور التعدين الأهلي بحثاً عن الذهب جعل بعض المجتمعات الريفية تُحوِّل الأراضي الزراعية لمناطق عمل لصالح الطواحين، مما يؤثر على التربة في المدى الطويل، وذلك على الرغم من أن الزراعة والرعي موارد اقتصادية رئيسية للغالبية من السكان.

وتُشير البيانات إلى فقدان السودان لمساحات هائلة من الأراضي التي كانت زراعية ورعوية بسبب التصحر وتآكل إنتاجية الأرض في المناطق المطرية. وتمثل الأراضي المطرية المصدر الرئيسي للأمن الغذائي، حيث تراجع الإنتاج من حوالي600 – 700 كلغم للفدان في ستينيات القرن الماضي إلى 100 - 120 كلغم للفدان في الوقت الراهن.

يؤثّر التصحر تأثيراً مباشِراً على البيئة والاقتصادات المحلية، بما في ذلك فقدان المحاصيل وإنتاج الماشية، وانخفاض القدرة الاستيعابية لرعي الحيوانات، وانخفاض احتياطيات المياه الجوفية وفقدان الحياة البرية. وتظهر آثار التصحر بوضوح في ولايتي شمال كردفان وشمال دارفور، حيث تنتقل الرمال باسـتمرار إلى التربة المنتِجة، كما يخضع الطول الكلي للنيل لزحف كثيف للكثبان الرملية. ويُعد التصحر من أبرز القضايا البيئية المزمنة في السودان.

على الرغم من بعض الإنجازات التنموية المتواضعة التي حققها السودان خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها تفتقد للاستمرارية، كما أن غياب السياسات والخطط والبرامج انعكس جلياً على حظوظ التنمية في الميزانيات المتتالية لأكثر من 20 سنة ماضية، بجانب استشراء الفساد متعدد الرؤوس، وضعف ولاية الدولة على المال العام، ونشوء اقتصاديات موازية أنهكت الاقتصاد الوطني.

يُطبِّق السودان سياسات "صندوق النقد" والبنك الدوليين التي قضت بخروج الدولة نهائياً من دعم المحروقات والقمح والدواء، ثم تحرير سعر الصرف. لكن ذلك لم يمنع قطاعات الإنتاج من التضعضع بسبب غياب الخطط، والصراع السياسي، والعجز المريع أمام غول الفساد المستشري في كافة القطاعات. ويحتل السودان المرتبة 164 من مجموع 180 دولة وفقاً لمؤشر "الشفافية" الخاص بالفساد. 

كما انخفضت نسبة غطاء الغابات في السودان بعد انفصال الجنوب، من 29.4 في المئة الى 11.6 في المئة، وتحوّل تصنيف السودان عالمياً إلى الأقطار ذات الغطاء الغابي الشحيح، كما ارتفعت نسبة الإزالة السنوية من 0.74 في المئة إلى 2.46 في المئة، ليصبح السودان في قائمة الأقطار الأعلى إزالة للغابات في العالم. 

ما العمل؟

أوصت "الخطة الوطنية للتكيّف 2016" (3)  التي غطّت كل مناطق السودان، بضرورة تنفيذ إجراءات عديدة في مجالات الزراعة والمراعي والمياه: في مجال المياه، أوصت الخطة باتخاذ تدابير التكيّف الرئيسية وبإجراء دراسات تحسين إدارة المياه في المناطق الأكثر ضعفاً. فهنالك حاجة لحفر المزيد من الآبار السطحية والآبار الجوفية في المناطق غير المتأثرة بالتلوث، كما يجب توفير أنظمة ري أكثر كفاءة، وإعادة تأهيل الحفائر والسدود مما يحسّن من فرص الوصول للماء. وفيما يخص قطاع المراعي، أوصت خطة التكيف بضرورة شمول التدابير بناء الوعي في المجتمعات المحلية بخصوص الإدارة المستدامة للموارد الطبيعية، وإنفاذ التشريعات الراهنة، وإدخال تشريعات إصلاحية للمزيد من حماية الموارد الطبيعية، وإطلاق برامج خاصة تستهدف الرعاة لتحسين سلالات الماشية وانتاجيتها، وتحسين برامج الإرشاد الزراعي، وتعزيز القدرات المؤسسية لخلق وتنفيذ سياسات الأرض التي تشجع الزراعة الفعالة. ويستلزم هذا بالضرورة مراجعة قوانين حقوق الملكية، وتطوير آليات جديدة لحلولٍ حول نزاعات الأرض. وتلعب الأرض في المجتمعات المحلية دوراً محورياً في النزاعات والاقتتال.

يعتمد نحو 70 في المئة من السودانيين في اقتصادهم على الموارد الطبيعية المتمثلة في الزراعة والرعي، ومن هذا الباب تتمحور خطط الدولة لمواجهة التغيّر المناخي حول تنفيذ مشاريع التكيّف في هذه القطاعات وخصوصاً أن السودان من أكثر الدول الأفريقية عرضة للجفاف. وتعد الأراضي الجافة موطناً لما يقرب من ثلثي السكان، ويعيش أكثر من 60 في المئة من السودانيين في الريف. كما أن السودان هو أحد البلدان ذات النسبة العالية للنمو السكاني (2.6 في المئة سنوياً) مما يشير إلى حدة الطلب على الخدمات الأساسية خاصة خدمات الصحة والتعليم والمياه، وفقاً للبرنامج الثلاثي للاستقرار والتنمية الاقتصادية 2021 -2023

بدأ السودان منذ تسعينيات القرن الفائت بتنفيذ مشروعات بيئية بعضها وثيق الصلة بالتغيّر المناخي. وبحسب بيانات "المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية" نفّذ السودان 34 مشروعاً ما بين العامين 1996 و2022، من بينها بروتوكول حماية طبقة الأوزون والخطة الوطنية للتكيف مع التغيّر المناخي وتكيّف سبل كسب العيش الريفي مع التغير المناخي (4)..

ويجري حالياً تنفيذ عدد من المشروعات التي تستهدف بناء القدرات بالنسبة للمؤسسات ذات الصلة، أو تستهدف تحسين الموارد في مجالات الزراعة والغابات والصمغ العربي والمراعي والمياه. أما فيما يتعلق ب"مشروعات التخفيف"، فهي ضئيلة مقارنة ب"مشروعات التكيّف"، وذلك لأن حجم الانبعاثات الصادرة من السودان وعموم الدول النامية لا يُذْكر مقارنة بالدول الصناعية الكبرى. وعلى سبيل المثال، يجري تنفيذ 17 مشروعاً تستهدف خفض الانبعاثات، بعضها في طور التشغيل والبعض ما زال في طور التنفيذ. وقد بدأت بالتدريج منذ العام 2010 بمنشآت للطاقة الشمسية، خاصة في المشاريع الزراعية لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة، وهي تدعم اعتماد تكنولوجيا الطاقة الشمسية الكهروضوئية لضخ مياه الري في الزراعة، وخاصة في الولاية الشمالية، وتهدف إلى مساعدة المزارعين السودانيين على تقليل اعتمادهم على الوقود الأحفوري، وتقليل تكلفة إنتاجهم (عبر خفض نفقات الديزل)، وزيادة استدامة استخدام المياه، وزيادة دخلهم. وهذا بجانب مشروعات أخرى تستهدف تعزيز طاقة الرياح وتشغيل مضخات المياه بالطاقة الشمسية وعدد من مشروعات التخفيف.

بناء المرونة" لقطاعات الزراعة والرعي

مشروع "بناء المرونة لمواجهة التغيرات المناخية في القطاع الزراعي والرعوي" يعد من أكبر مشروعات التكيّف التي يجري تنفيذها حالياً بتمويل من "صندوق المناخ الأخضر" (5)  بتكلفة تبلغ 25,6 مليون دولار، و540 ألف دولار من "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي"، و15 مليون دولار ينبغي أن تلتزم بها حكومة السودان.

ويغطي المشروع 138 قرية في تسع ولايات هي: شرق دارفور، غرب دارفور، وسط دارفور، غرب كردفان، جنوب كردفان، كسلا، البحر الأحمر، الولاية الشمالية والخرطوم. ومدة المشروع خمس سنوات (2020 - 2024). وهو يستهدف تحسين مرونة نظم إنتاج الغذاء في المجتمعات التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي. وتستفيد من المشروع نحو 200 ألف أسرة، ومزارعين ورعاة، وهناك نسبة 35 في المئة مخصصة للنساء. كما يخطط في مجال تحسين الوصول لمصادر المياه للإنسان والحيوان.

تُشير البيانات إلى فقدان السودان لمساحات هائلة من الأراضي التي كانت زراعية ورعوية بسبب التصحر وتآكل إنتاجية الأرض في المناطق المطرية. وتمثِّل الأراضي المطرية المصدر الرئيسي للأمن الغذائي، حيث تَراجع الإنتاج من حوالي 600 – 700 كلغم للفدان في ستينيات القرن الماضي إلى 100 - 120 كلغم للفدان في الوقت الراهن.

يعتمد نحو 70 في المئة من السودانيين في حياتهم على الموارد الطبيعية المتمثلة في الزراعة والرعي. ولذا، تتمحور خطط الدولة لمواجهة التغيّر المناخي حول تنفيذ مشاريع التكيّف في هذه القطاعات، وخصوصاً أن السودان من أكثر الدول الأفريقية عرضة للجفاف. وتُعد الأراضي الجافة موطناً لما يقرب من ثلثي السكان، ويعيش أكثر من 60 في المئة من السودانيين في الريف. 

يقول عادل محمد علي (6)  مسؤول التقييم والمتابعة بالمشروع، أن المنجَز في قطاع الزراعة بلغ 70 في المئة، وأنه أدخل بذوراً محسنة مقاوِمة للجفاف وسريعة النضج في عدد من الولايات. ووفقاً للمسئول، حقق ذلك إنتاجاً مضاعفاً، مع اتباع أنظمة تخزين آمنة. وفي مجال المراعي، تمت إعادة تأهيل 6500 هكتار من الأراضي وإنشاء عدد من الغابات المجتمعية ومزارع ومشاتل نسوية.

لكن في مجال المياه، فإن المنجَز لا يتجاوز 40 في المئة. ويعزي مسؤول المشروع ذلك لطبيعة مورد المياه والمشكلات الفنية المتعلقة به، علاوة على زيادة التكاليف. ويشير إلى بعض المشكلات المتعلقة برفض بعض المجتمعات المحلية إقامة آبار جديدة بحجة أنها ستحوِّل المنطقة لمراعي.

ويعدد المسؤول بعض التحديات التي تواجه المشروع منها: عدم التزام حكومة السودان بواجباتها المالية، فهي ملتزمة بدفع مبلغ 15 مليون دولار لهذا المشروع لكنها لم تدفع حتى اليوم سوى 30 ألف دولار. ويقول إن هناك مشكلات إدارية ولائحية تتعلق بالإجراءات المالية وإجراءات الشراء والتعاقد في وزارة العدل، وهي الجهة الرسمية المسؤولة عن العقود الحكومية، ومشكلات داخلية تتعلق ب"مجلس البيئة".

التحديات التي تواجه هذا المشروع هي صورة مصغّرة عن التحديات التي تواجه السودان بخصوص التغيّر المناخي، وهي انعكاس لضعف الإرادة السياسية عموماً الذي يمثل التحدي الأكبر، حيث يحتاج قطاع الأراضي الى عمل تشريعي كبير لإصلاح القوانين المتصلة بالأراضي. وتمثّل الأرض في السودان قضية مجتمعية محورية.

ومع غياب تشكيل حكومة منذ انقلاب قائد الجيش في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، لم يتمكن السودان حتى اليوم من الايفاء بالالتزام المتعلق ب"تقرير الاتصال الثالث"، وهو التزام دوري يتعين إعداده ورفعه لسكرتارية المناخ التابعة للأمم المتحدة. فالتقرير لم تتم إجازته بعد.

وبجانب مشروع "بناء المرونة"، يموِّل "الصندوق الأخضر للمناخ" منذ العام 2019 مشروعاً خاصاً بالصمغ العربي الذي يستهدف تعزيز القدرة التكيفية للمجتمعات المحلية، واستعادة إمكانات "بالوعة الكربون" في حزام الصمغ العربي في ولايات "كردفان" حيث يٌقام. ويُزرع الصمغ عادة مع المحاصيل الغذائية السنوية لزيادة غلتها من خلال تعزيز خصوبة التربة وتحسين تسرب المياه وتقليل التبخر عن طريق تقليل سرعة الرياح. يؤثر تغيّر المناخ على محصول الصمغ العربي في السودان بسبب إجهاد الرطوبة بنسبة تصل إلى 50 في المئة سنوياً، وفقاً ل"الصندوق الأخضر".

التحديات التي تواجه مشروع "بناء المرونة لمواجهة التغيرات المناخية في القطاع الزراعي والرعوي"، أكبر مشروعات التكيّف التي يجري تنفيذها حالياً بتمويل من "صندوق المناخ الأخضر"، هي صورة مصغّرة عن التحديات التي تواجه السودان بخصوص التغيّر المناخي، والمتمثلة بضعف الإرادة السياسية عموماً.  

ويعمل المشروع على تعزيز المرونة المناخية لسبل العيش وخدمات النظم الإيكولوجية الزراعية والرعوية في ولايات كردفان مع تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من استخدام الأراضي، بمقدار 9.23 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون. ويستثمر المشروع في تنقّل الماشية واستعادة المراعي لمساحة 275 ألف هكتار من الأراضي.

ويموّل الصندوق كذلك مشروع أفريقي مشترك ل 13 دولة من الأكثر تأثراً بالتغيّر المناخي في أفريقيا، يهدف لتنفيذ مبادرة "الجدار الأخضر العظيم" لعكس اتجاه تدهور الأراضي. يُغطّي هذا البرنامج 11 دولة في "السور الأخضر العظيم" بالإضافة إلى ساحل العاج وغانا. يتمثل الهدف الرئيسي للمبادرة في بناء قدر أكبر من الاتساق والتكامل في العمل المناخي بين تلك الدول. وتبلغ قيمة المشروعات الممولة من "الصندوق الأخضر" لصالح السودان (7)  43 مليون دولار.

وعلى الرغم من هذا الكم من المشروعات، فالسودان، بحسب الدكتور عمر العجيمي، أستاذ الايكولوجيا السياسية بجامعة الخرطوم، غير مؤهل للتعامل مع قضية تغيّر المناخ (8). وقد عزا العجيمي الأمر لعوائق بنيوية تتمثل ابتداءً في قضية الفقر المزمن الذي تعيشه غالبية سكان السودان. وبنظره، فإن قضية الفقر المزمن أعمق من قضية تغيّر المناخ نفسها، لأنه تاريخياً استطاع السودانيون التكيّف مع موجات جفاف عنيفة. ويشير الى اختلال علاقة المجلس الأعلى للبيئة ببقية مؤسسات الدولة ذات الصلة بالتغير المناخي، وغياب التنسيق وتداخل الاختصاصات، علاوة على التنافس. وتساءل عن سبب قيام المجلس بتنفيذ المشروعات بينما هو مؤسسة مختصة بوضع السياسات. وقد أدى هذا الوضع إلى أن تعمل هذه المؤسسات في جزر معزولة. وانتقد تمركز المجلس في العاصمة فقط مقابل وجود ضعيف في الولايات. كما أن عدم وجود كوادر مؤهلة في مؤسسات الدولة لتولي هذه القضية يؤثر مباشرة في الاداء. وبنظر العجيمي، فإن هذه المشروعات القائمة في ظل وضعية هشة لن تحقق إلا نتائج محدودة للغاية. وأنّ أول خطوة لإظهار الجدية والالتزام الأخلاقي تجاه قضية التغيّر المناخي هي أن يكون للدولة استراتيجية أصلاً. ويربط العجيمي غياب الاستراتيجية بانعدام الإرادة السياسية.

خصوصية للمناطق الأكثر هشاشة

أشارت "الخطة الوطنية للتكيف 2016" إلى أن ولاية النيل الأبيض تُعد من أكثر المناطق ضعفاً وبالتالي هي الأكثر تأثراً بالتغيّرات المناخية، ويعتمد ثلثي سكانها على الزراعة وتربية الماشية، وبها ما يقرب من 8 ملايين رأس ماشية. وتحتاج الولاية الهشة الى عدد من الإجراءات كي تجابه أزمة الجفاف المحتمَلة بسبب التغيّر المناخي. ففي مجال الزراعة أوصت الخطة بإدخال البذور المحسّنة المقاوِمة للجفاف، وتشجيع إنتاج الخضراوات وإدخال مهارات معالجة الألبان. وشملت توصيات مجال المياه إدخال تقنيات حصاد المياه، وبناء السدود الصغيرة في بعض الوديان لتحسين إمدادات المياه في المناطق المعرضة للخطر، وإعادة تأهيل المراعي...

"من أكبر المشكلات اختلال علاقة المجلس الأعلى للبيئة ببقية مؤسسات الدولة ذات الصلة بالتغيّر المناخي، وغياب التنسيق، وتداخل الاختصاصات، علاوة على التنافس. وتعمل هذه المؤسسات في جزر معزولة، ويتمركز المجلس في العاصمة فقط. كما يؤثر مباشرة في الاداء عدم وجود كوادر مؤهلة في مؤسسات الدولة. وهذه المشروعات القائمة في ظل وضعية هشة لن تحقق إلا نتائج محدودة للغاية". 

هذا الوضع شديد الهشاشة أوجد خصوصية لولاية النيل الأبيض في مشروعات التكيّف، حيث يجري تنفيذ مشروع خاص بالمنطقة منذ العام 2017 على أن ينتهي في العام 2023. ويستهدف المشروع تأهيل 6600 هكتار من المراعي بأنواع مقاوِمة لآثار تغير المناخ، ومن المتوقع أن تستفيد من المشروع 6800 أسرة، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة. ويستهدف المشروع تدريب 1600 إمرأة على البستنة لتنويع مصادر دخلهن. وفي مجال المياه يستهدف المشروع إنشاء 200 من الحفائر - وهي آبار لتجميع مياه الأمطار – وبناء أو ترميم 10 خزانات مياه، الأمر الذي يمكّن 3200 شخص من الوصول إلى المياه بشكل أفضل. وفي مجال الغابات يستهدف المشروع زراعة 1500 هكتار بأشجار مقاوِمة للمناخ.

الاستمرارية…التحدي الأبرز

يُجمِع المختصون والمهتمون بقضايا المناخ، بما فيهم العاملون في المؤسسات والمشروعات التي يجري تنفيذها، على وجود تحدي رئيسي بجانب التحديات العديدة، وهو توفير استمرارية هذه المشاريع ورعايتها والعمل على تنميتها مستقبلاً بعد إنجازها. وهو ما يتطلب وجود التزام أخلاقي كبير تجاه قضايا المناخ. ويضج السودان بتحديات عديدة ليست ذات صلة بالمناخ لكنها تؤثر بالمشاريع التي تخصه بشكل مباشر: اتساع رقعة الفقر المدقع مع غياب السياسات الاقتصادية المستهدِفة لقطاعات الإنتاج، حيث تعتمد الدولة على الجبايات والضرائب والجمارك بشكل رئيسي، وغياب سلطة الدولة على الموارد الرئيسية، مثل الذهب، وانعدام كامل للشفافية ومكافحة الفساد.

ولا تجد قضايا المناخ والبيئة عموماً اهتماماً يُعادل حجم الكوارث المتوقَعة. وتغيب بشكل ظاهر السياسات والإستراتيجيات الخاصة بالاستغلال البيئي الأمثل للموارد الطبيعية. ولا وجود كذلك لاستراتيجيات تتعلق بالأمن الغذائي. ومع تنامي الصراع السياسي على السلطة وتراخي الأمن واتساع رقعة النزاعات الإثنية والقبلية، يُصبح من العسير للغاية تحقيق تنمية تُحدِث نقلة نوعية تَظهر نتائجها في الاقتصاد الكلي. 

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1  -بحسب ما نشرته جريدة "الفجر" المصرية https://www.elfagr.org/4552933     
2  - وفقاً لتقرير من "اسكوا"، إحدى لجان الأمم المتحدة: -عُملتان-عربيّتان-تفقدان-أكثر-من-80-من-قوّتهما-الشرائية-بين-عاميْ-2019-و2021
3 - انظر بهذا الصدد التقييم في "تقرير السودان الاول عن حالة البيئة والتوقعات البيئية" (2020) - file:///C:/Users/33675/Downloads/UNAR.pdf     
4 - صفحة المشروعات في موقع المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية: https://hcenr.gov.sd/?page_id=212
5 -بحسب التعريف الرسمي له: "يعتبر الصندوق الأخضر للمناخ أكبر صندوق مخصص للمناخ في العالم. وتتمثل مهمته في دعم تحقيق نقلة نوعية نحو المسارات الإنمائية منخفضة الانبعاثات، والقادرة على الصمود في وجه تغيّر المناخ في البلدان النامية. وهو ينفذ إجراءات مناخية تحويلية في أكثر من 100 دولة. والصندوق الأخضر للمناخ كيان تشغيلي تابع للآلية المالية لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ، ويخدم اتفاقية باريس لعام 2015". https://bit.ly/3P1lL0r   
6  - في مقابلة خاصة مع الباحثة.
7  - بالانجليزية: https://www.greenclimate.fund/countries/sudan    
8  - في مقابلة خاصة أجرتها الباحثة مع أستاذ الايكولوجيا السياسية بجامعة الخرطوم، د.عمر العجيمي. 

للكاتب نفسه