موريتانيا: قصة مدينتين

تحتضن موريتانيا مجموعة من المدن التاريخية بالغة التأثير في وجدان ناسها، مدنٌ تمت أسطرتها فعزفت عبر الزمن ألحان تبجيلها، ولا تزال محل احتفاء. تحكي هذه المدن جزءاً مهماً من قصة الشعب الموريتاني وأنماط اهتمامه القديمة والمتغيرات التي طرأت عليه، وغنى مكوناته وتعدده الثقافي، كما انبثقت منها بعض أساطيره المؤسِّسة.
2016-04-22

أحمد ولد جدو

كاتب ومدون من موريتانيا


شارك
مدينة شنقيط

تحتضن موريتانيا مجموعة من المدن التاريخية بالغة التأثير في وجدان ناسها، مدنٌ تمت أسطرتها فعزفت عبر الزمن ألحان تبجيلها، ولا تزال محل احتفاء. تحكي هذه المدن جزءاً مهماً من قصة الشعب الموريتاني وأنماط اهتمامه القديمة والمتغيرات التي طرأت عليه، وغنى مكوناته وتعدده الثقافي، كما انبثقت منها بعض أساطيره المؤسِّسة. مدن استثنائية في فضاء صحراوي تطبعه البداوة والترحال وغياب الاستقرار والتمدن والسلطة المركزية، لها عمرانها المميز رغم بساطتها مقارنة بنظيراتها في الفضاء المغاربي، وهو ما يجعلها ومضات مدينية في فضاء بدوي. هذه شنقيط وولاته، المدينتان المصنفتان ضمن التراث العالمي لليونسكو.

ولاته

في الشرق الموريتاني، وفي مكان صحراوي تفصله عن العاصمة نواكشوط 1350 كلم، تقع مدينة ولاته، إحدى الحواضر التي كان لها أثر ملحوظ قبل قرون. قال الباحث الموريتاني، الدكتور أحمد مولود أيده الهلال، في كتابه "مدن موريتانيا العتيقة" عن تاريخها " لعل أول ذكر مدوَّن لولاته (ايوالاتن) ورد لدى ابن الخطيب (توفي 1374) أثناء حديث عن النشاط التجاري لأبناء المقري، من خلال الشركة التي أسسوها بتلمسان، فأشار إلى أنه كان لها ممثلون في سجلماسة وبايوالاتن". ويؤكد أيده الهلال في نفس الكتاب أن "مشاهدات ابن بطوطة الذي زار ايولاتن سنة 1354 أهم وثيقة حول تاريخ هذه الحاضرة خلال العصر الوسيط". وقد قال ابن بطوطة "وصلنا إلي مدينة ايولاتن في غرة شهر ربيع الأول بعد شهرين كاملين من سجلماسة، وهي أول عمالة السودان ونائب السلطان بها فوَبَا حسين، ومعناه النائب. ولما وصلنا، جعل التجار أمتعتهم في رحبة وتكفل السودان بحفظها". وأضاف: "بلدة ايولاتن شديدة الحر أهلها حسان مصرية (...) وأكثر السكان بها مسوفة، ولنسائها الجمال الفائق، وهن أعظم شأنا من الرجال (...) وشأن هؤلاء القوم عجيب وأمرهم غريب، فأما الرجال فلا غيرة لديهم، ولا ينتسب أحدهم إلى أبيه بل ينتسب لخاله، ولا يرث الرجل إلا أبناء أخته دون بينه، وذلك شيء ما رأيته إلا عند كفار بلاد المليبار من الهنود، أما هؤلاء فهم مسلمون، محافظون على الصلوات وتعلّم الفقه وحفظ القرآن (...) وأما نساؤهم فلا يحتشمن من الرجال ولا يتحجبن مع مواظبتهن على الصلوات (...). والنساء هنالك يكون لهن الأصدقاء والأصحاب من الرجال الأجانب، وكذلك الرجال لهم صواحب من النساء الأجنبيات، ويدخل أحدهم على داره فيجد امرأته ومعها صاحبها فلا ينكر ذلك...".

يلاحَظ من مشاهدات ابن بطوطة التي ترصد نمط عيش سكان المدينة انفتاحا شديداً في التعامل يطبع حياة الناس آنذاك، وحضوراً قوياً للمرأة عكس المأثور عن بعض المجتمعات العربية المسلمة.
لكل قبيلة من سكان المدينة أسطورة مؤسِّسة للطريقة التي نشأت بها المدينة، لكن هناك اتفاق على أن قرية "بيرو" هي النواة. وبيرو هي قرية صغيرة كانت ضمن سيطرة مملكة غانا، أغلب سكانها من "السوننكيين الماركا". عرفت المدينة في القرن السادس الميلادي وثبة فكرية مهمة، حيث تحولت إلى مركز لبث الحضارة العربية والإسلامية، وقد استقطبت عدداً كبيراً من علماء مدينة "تومبوكتو" المالية بعد أزمات تعرضوا لها، بالإضافة لنجاحها في أن تكون مكاناً مهماً لتجارة القوافل، وتميزت المدينة بنمط بديع من العمران والزخارف التي تزين المباني والمشغولات الخزفية، مثل الأواني، لا يزال هناك من يحافظ عليه، وتتميز باكتنازها للكثير من المخطوطات القيمة.
لكن كل ذلك الإرث والتاريخ لم يمنعاها من التقهقر، فهي اليوم مكان للمعاناة كأغلب مدن موريتانيا. عن واقع المدينة الحالي، قال مدير مدرستها أبهن ولد أن "وجود ولاته في منطقة صحراوية شديدة الحرارة في الصيف وشديدة البرودة في الشتاء، ومنطقة معزولة، أمر يصعِّب العيش فيها، لبعدها من العاصمة ولصعوبة الوصول لها. تعاني ولاته أيضاً من ضعف الخدمات الأساسية مثل التعليم، فمدرستها لا تتعدى مرحلة التعليم الأساسي، أي الأقسام الابتدائية. ويلاحظ أيضا ضعف تمدرس البنات فيها، بالإضافة لضعف الخدمات الطبية، فيوجد فيها مستوصف تنقصه الأسرّة والكثير من اللوازم الطبية وبه طبيب عام. يعاني السكان أيضا كغيرهم من ارتفاع الأسعار، وكذلك من العطش الشديد بسبب ندرة المياه الصالحة للشرب". يعتمد السكان اليوم في ولاته على التنمية الحيوانية والتجارة البسيطة ويبلغ عدد ساكنتها بضعة آلاف فقط، ويوجد في المدينة مركز سياحي يحاول تقديم ملامح الثقافة التقليدية للمجتمع المحلي بالإضافة لمتحف للأدوات النادرة.. قد يقصدها المختصون والدارسون.

مدينة ولاته

مدينة شنقيط

يحدث أن يسمّى الكل بالجزء، وهذا حال مدينة شنقيط التي أطلق المشارقة اسمها على رقعة جغرافية كبيرة هي موريتانيا الآن وأجزاء من جوارها. تقع المدينة شمال البلاد في هضبة أدرار على بعد حوالي 533 كلم من العاصمة، وقد تحدث الباحث الموريتاني الدكتور عبد الودود ولد عبد الله عن تأسيسها في كتابه "الحركة الفكرية في بلاد شنقيط"، حيث قال "اسم شنقيط، الذي ركّب بإضافة مصطلح "بلاد" إليه، كان يطلق حصرا على مدينة تختلف الروايات حول تاريخ تأسيسها. والشائع عند سكانها أنها أسست في موقعها الحالي سنة 1372 وأنها تعتبر امتدادا حضاريا وبشريا لمدينة قديمة تسمى "آبير" كانت أسست سنة 777، إذ أن المجموعة السكانية التي كانت تعمر "ابير" هي نفسها التي أسست المدينة الجديدة / القديمة".
لا تختلف قصة شنقيط عن ولاته، فلكل قبيلة من القبيلتين اللتين يقال أن أجدادها أسسوها، سردية للتأسيس تدعم أسبقية إحداهما على الأخرى، وهما قبيلتان تنسبان أصلهما للعرب. ويتشكل سكان المدينة منهما وتملكان الأرض وتتقاسمان تفاصيل الإشراف على المدينة. ويصل عدد سكان المدينة إلى أربعة آلاف نسمة.
استطاعت شنقيط أن تفرص نفسها كمدينة ثقافية وعلمية وتجارية تمر بها القوافل، حيث كانت مكان تجمع حجاج المنطقة من أجل الانطلاق في قافلة واحدة لأداء فريضة الحج. وكانت تستفيد من تجارة القوافل، وقد خرج منها العديد من العلماء، وأصبح لقب "الشنقيطي" مرتبطاً بالعلم في بعض الأقطار العربية. ويعتبر مسجدها أبرز معالمها لتميز نمطه المعماري. لكن شنقيط اليوم تعاني ويقاوم سكانها من أجل البقاء. عن تلك المقاومة قال الصحافي سيدي محمد بلعمش، وهو أحد أبناء المدينة "تقاوم حاضرة الصحراء الموريتانية - شنقيط - لكي تصمد أمام عاتيات الزمن، ويحاول أهلها أن تستمر في الحياة بعد 1000 سنة من العطاء، ويواجهون تحديات طبيعية مثل التصحر والكثبان الزاحفة، ولا يهتم أهلها بما يجدون من نسيان أو إهمال من أبناء وطنهم فهم يعضون بالنواجد على مئات آلاف المخطوطات المرفوفة في مكتباتها و التي تحكي قصة الإسلام والعربية من جميع جوانبها. وفي شنقيط لا تزال الطقوس والتقاليد تسيطر على المشهد، فحتى وقت الآذان في المسجد الذي يزيد عمره على 800 سنة يُضبط عندهم بالضوء وظل الحجر والقامة ولا يقبل الشناقطة فراشاً في مسجدهم، فالحصى الذهبي الناعم يزين المكان والصلاة عليه يُعدّون أجرها بعدد الحصى العالق في الجبهة و اليدين. مع ذلك لا تزال أحياء كاملة في المدينة القديمة بحاجة إلى ترميم، أزقة وأبنية وبوابات".
شنقيط كَوَلاته وغيرهما من المدن التاريخية في موريتانيا، تأثرت بتغير نمط الحياة الاقتصادية والإنتاجية التي كانت تعتمد عليه ويناسبها، مثل القوافل وتجارتها، بالإضافة للجفاف والتصحر والهجرات منها، وهي اليوم مهددة بزحف الرمال عليها والاندثار. فالمدن الموريتانية المزدهرة اليوم حديثة التأسيس في أغلبها، وتعتمد على أنماط أخرى من النشاط الاقتصادي، فبالإضافة للعاصمة نواكشوط، نجد مدينة نواذيبو المعتمدة على الصيد البحري والتجارة، ويعتبر ميناء المدينة هو منصة إطلاق معادن موريتانيا إلي العالم، ومدينة الزويرات المنجمية والتي يستخرج منها الحديد الموريتاني الذي صبغها بطابع عملي تطورت بفضله..

مقالات من شنقيط

للكاتب نفسه