السودان: كيف خلخلتْ الأغنية الريفية النموذج "الأمدرماني" الحديث

سطوع الغناء الريفي في السودان ليس مجرد "موضة" جديدة التفَّ حولها الناس، بل هو في قلب السياسة الغارقة خلال السنوات الأخيرة في جدلية "المركز" و"الهامش". هو أقرب إلى أن يكون تعبيراً سياسياً لصوت الريف، يتمظهر في الفن والثقافة، ومقروءٌ بالضرورة بالتلازم مع التغيرات الكبيرة التي حدثت في السودان بعد ثورة 2018، حيث صعدت إلى سدة الحكم من قلب الهامش قوى جديدة.
2022-12-08

شمائل النور

كاتبة صحافية من السودان


شارك
عبد الله ود دار الزين

على غير السائد منذ سنوات طويلة في مسيرة الأغنية السودانية، المحكومة بصرامة النموذج الحديث "الأمدرماني" (نسبة إلى أم درمان، وهي جزء من العاصمة المثلثة للسودان)، برز تغيّر في المشهد الفني والثقافي، وهو ليس إلا تمظهراً للتحولات الكبيرة، السياسية والاجتماعية، التي يشهدها السودان.

تشهد الأغنية السودانية انزياحات ظاهرة، استطاعت اختراق الثوابت وكسرتْ كل المعايير التي ظلت حاكمة لها لسنوات طويلة، بل منذ ميلاد الأغنية السودانية بشكلها الحديث. لم يعد نموذج الغناء يخرج من بوابة واحدة شديدة التمسك بمعايير النص، واللحن والموسيقى وشروط الإجازة والرفض، عبر لجان فنية ذات باع طويل في الشعر والموسيقى.

وحينما نقول "النموذج الأمدرماني" فنعني به نموذج الأغنية في شكلها الحداثي مع اشتراطات نصها، لحنها وبكامل فرقتها الموسيقية المعروفة بـ "الأوركسترا"، حيث ظلت إذاعة "هُنا أم درمان" هي البوابة الوحيدة التي تصدِّر الأغنية السودانية للجمهور.

تكونت أول فرقة موسيقية تابعة لإذاعة أم درمان عام 1947، ومنذ ذاك الحين أصبحت الإذاعة هي التي تحدد للجمهور معياراً واحداً منضبطاً لا يقبل الزحزحة وفقاً لمنظورها، وهي بذا تلعب الدور الرئيسي في تحديد وحراسة الذائقة العامة للناس بتحكمها في المحتوى ومقدِّم المحتوى.

تضعضَع دور الإذاعة لكن...

صحيح أن الدور التقليدي لإذاعة "هُنا أم درمان" تضعضع مع الانفتاح الإعلامي الذي اجتاح العالم وأنتج بوابات عديدة، لكن على الرغم من ذلك ظل "النموذج الأم درماني" حاكماً ومتحكماً في الأغنية، إن كان عبر البرامج الفنية، والمنوعات، والسهرة التي تُقدّم عبر الإعلام، أو البرامج التلفزيونية التنافسية التي ترعى ميلاد مطربين ومطربات جدد. في كل الأحوال كان "النموذج الأم درماني" حاكماً ومتحكماً، حتى أن القادمين من الريف لا خيار أمامهم - كي يصعدوا - إلا التقيّد بهذا النموذج. فالأغنية التي تحمل طابعاً ريفياً موجودة في مسيرة الأغنية السودانية الحديثة، لتتبع اشتراطات النموذج الحديث، إن كان من حيث مظهر المطرب أو المطربة، مؤدّي الأغنية، أو من حيث الاشتراطات الموسيقية المحكومة بفرقة أوركسترا كاملة.

وعلى سبيل المثال، قدمت بعض المطربات السودانيات أغنيات ريفية لكن في القالب الحداثي ذاته، فأدّت "نانسي عجاج" و"إنصاف فتحي" و"هدى عربي" أغاني ريفية مع احتفاظهنّ بثوبهنّ الحداثي بصرامة شديدة، علاوة على أنهنّ محسوبات على المدينة في كل الأحوال.

هل تكلّست "الأغنية الأمدرمانية"؟

غزت الأغنية الريفية المدينة وكسرت كل "التابوهات"، وأصبحت عابرة لتلك البوابات التقليدية مستفيدة بشكل رئيسي من مواقع التواصل الاجتماعي التي لولاها ربما لن تجد الأغنية الريفية هذا الحظ العظيم. وتمكنت أغنية الريف، عبر آلة موسيقية واحدة هي "الربابة"، أن تستقر في آذان الجميع، حيث لم يعد بالإمكان أن تفلت الأذن من سماعها في أي مكان، ويكاد لا يخلو مكان عام من أجواء هذه الأغاني.

تشهد الأغنية السودانية انزياحات ظاهرة استطاعت اختراق الثوابت وكسرتْ كل المعايير التي ظلت حاكمة لها لسنوات طويلة، بل منذ ميلاد الأغنية السودانية بشكلها الحديث. لم يعد نموذج الغناء يخرج من بوابة واحدة شديدة التمسك بمعايير النص واللحن والموسيقى وشروط الإجازة والرفض، عبر لجان فنية ذات باع طويل في الشعر والموسيقى.

تضعضع الدور التقليدي لإذاعة "هُنا أم درمان" مع الانفتاح الإعلامي الذي اجتاح العالم وأنتج بوابات عديدة. لكن على الرغم من ذلك، ظل "النموذج الأمدرماني" حاكماً ومتحكماً في الأغنية، إن كان عبر البرامج الفنية، والمنوعات، والسهرة التي تُقدَّم عبر الإعلام، أو البرامج التلفزيونية التنافسية التي ترعى ميلاد مطربين ومطربات جدد. 

اللافت أن المغنيات الريفيات اللآتي انطلقن من الريف، سرعان ما حاولن الدخول في النموذج الحداثي، أو حاولن الخلط بين الريف والمدينة...

أزاح المطربون من الريف، أمثال "عبد الله ود دار الزين" أو "أبو القاسم ود دوبا" أو "بله ود الأشبه"، الذين أغرقت أغانيهم الساحة وشهدت حفلاتهم تفاعلاً هائلاً، عتاة الأغنية الحديثة من المشهد. هؤلاء ليسوا بحاجة لأن يشدوا الرحال من بواديهم البعيدة إلى أم درمان" ويخضعوا لمعايير أغنية العاصمة كي يتم قبولهم، إذ أن الأمر لا يحتاج إلا إلى الموهبة حتى وإن كانت محدودة، وآلة "ربابة" ومنصة تواصل اجتماعي. ويجري تسجيل هذه الأغاني في أي استديو بإمكانه أن يقدم خدمات تسجيل عالي النقاء.

المغنيين السودانيين "بله ود الأشبه" و"ابو القاسم ود دوبا"

لم تخطط أغنية الريف لغزو المدينة. يظهر هذا بشكل جلي في خطاب بعض نجوم الأغنية الريفية الذي يخلو تماماً من أي وعي بعالم النجومية أو لهدف صعود سلم الوطن، وكأنما الأمر أتى صدفة دون أدنى درجات الترتيب. والواضح أن الجمهور هو الذي انجذب لها ولم "تُفرَض" عليه - إن جاز التعبير- عبر بوابة رسمية كما كان الحال في السابق. فهي مبذولة في الفضاء العام مثل كل ما هو مبذول، لكنها - الأغنية الريفية - حققت صعوداً طاغياً لا ينكره أحد. ويطرح هذا الطغيان سؤالاً ملحاً: "هل تكلّست الأغنية الأمدرمانية"، ما جعل طريق هذا التسيّد سالكاً أمام الريف؟

جدلية المركز والهامش حاضرة

هناك من يرى أن سيطرة أغنية الريف مجرد ظاهرة ستندثر بسرعة، مثل ظاهرة "أغاني الزنق" التي سيطرت على الساحة لفترة طويلة. و"الزنق" يُمكن تعريفه بأنه صوت قاع المدينة. وعلى الرغم من أن البعض يرى تسيّد أغنية الريف على المشهد - وهي بهذه "السطحية" - ليس إلّا تراجعاً مريعاً للذائقة العامة، يصل حد الانحطاط، إلّا أن قراءة ما وراء سيطرة أغنية الريف يختلف عن ظاهرة بروز أغاني "قاع المدينة". فآلة "الربابة" الوترية موجودة في كثير من الثقافات السودانية المتنوعة، وإن بمسميات مختلفة، والمفرَدة الريفية نفسها موجودة في نصوص الأغنية الأمدرمانية وإن كانت ملتزمة بصرامة النموذج الحداثي.

أغرقت أغاني المطربين من الريف الساحة وشهدت حفلاتهم تفاعلاً هائلاً، فأزاحوا عتاة الأغنية الحديثة من المشهد. هؤلاء ليسوا بحاجة لأن يشدوا الرحال إلى "أم درمان" ليخضعوا لمعايير أغنية العاصمة ليتم قبولهم. الأمر لا يحتاج إلّا إلى الموهبة حتى وإنْ كانت محدودة، وآلة "ربابة" ومنصة تواصل اجتماعي. وتسجَّل هذه الأغاني في أي استديو يقدم خدمات تسجيل عالي النقاء.

واحدة من إشكالات الصراع السياسي في السودان بين الريف والمدينة هي المسألة الإعلامية، أي أن الريف لا يرى ثقافته وفلسفته وهمومه في الإعلام الذي تسيطر عليه المدينة. وواحدة من الاتهامات الكبيرة الموجهة للإعلام هي أنه يعبّر فقط عن ثقافة واحدة من مجموع ثقافات متعددة يضج بها المجتمع السوداني. 

ما نراه اليوم يبدو أكبر من مجرد "موضة" جديدة التفّ الناس حولها، بل هو في قلب السياسة الغارقة في جدلية "المركز" و"الهامش"، وهي جدلية طاغية في قاموس وأدبيات السياسة السودانية خلال السنوات الأخيرة. ما نراه اليوم هو أقرب إلى أن يكون تعبيراً سياسياً لصوت الريف، يتمظهر في الفن والثقافة. الريف ظل مظلوماً على حساب المدينة في التنمية وانعكس هذا الاختلال الكبير في هجرة لا تنقطع من الريف إلى المدينة، وهي تتصاعد يوماً بعد يوم.

وواحدة من إشكالات الصراع السياسي في السودان بين الريف والمدينة هي المسألة الإعلامية، أي أن الريف لا يرى ثقافته وفلسفته وهمومه في الإعلام الذي تسيطر عليه المدينة. وواحدة من الاتهامات الكبيرة الموجهة للإعلام أنه يعبِّر فقط عن ثقافة واحدة من مجموع ثقافات متعددة يضج بها المجتمع السوداني.

وإن كانت هذه الفلسفة عبّرت عنها الحركات المسلحة في صراعها السياسي مع المركز، والتي تأطرت داخل دائرة "العربي والأفريقي"، إلّا أنها تصلح للتعميم على كافة أرياف السودان من زاوية النظر الثقافية هذه.

وحتى "اعتصام القصر" الشهير الذي كان تمهيداً لانقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، كان من زاوية نظر بعيدة عن التحشيد السياسي (ضد/مع) صوت الريف السوداني، حتى وإن كان هذا الحشد مصنوعاً أو مفبركاً، إلا أنّ الريف وجد فيه إمكانية قول كلمة.

ولأجل هذا، فإنّ الصوت العالي لغناء الريف مقروءٌ بالضرورة بالتزامن مع التغيرات الكبيرة التي حدثت في السودان بعد ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018، حيث صعدت إلى سدة الحكم قوى جديدة هي من قلب الهامش. وهذا مشهد لم يكن معتاداً لسنوات طويلة. نحن الآن لسنا بصدد الحكم على جودة نص أو تجويد أداء أو لحن، ولا حاجة لنا كذلك للتنبؤ بإمكانية أن تعيش أغنية الريف فترة طويلة في حضن المدينة أو تندثر... بل حاجتنا هي للإنصات لهذا الصوت العالي بنظرة مغايرة... 

مقالات من السودان