لبنان: كيف تدير دولة فاشلة معركة تغيّر المناخ؟

يساهم لبنان في تغيّر المناخ في كلّ ما يفعله. رُفِعَ الدّعم عن الوقود في العام 2022 بسبب انهيار لبنان المالي وشروط الاقتراض من البنك الدولي، ولم يكن المناخ في الحسبان. كما يستهلك لبنان الطاقة الملوِّثة لتوليد الكهرباء، ولا بوادر لاستبدالها بالطاقة الخضراء.. وإنْ تحرّك المسؤولون، فيحصل هذا ضمن سباق محموم بين أطراف السلطة لاستنزاف موارد البلد الطبيعية، بلا هوادة أو خجل.
2022-12-05

جودي الأسمر

كاتبة صحافية وباحثة من لبنان


شارك
| en
غسان غائب - العراق

تم انتاج هذا المقال بدعم من مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المقال أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

يرقى الكلام عن تغيّر المناخ في لبنان إلى مصافّ المثاليّة، فيما الواقع يفتقر إلى أدنى التدابير. في مثال قريب: حين أعلن لبنان تبني مبادرة "مكافحة تغيّر المناخ" خلال القمة المناخية في شرم الشيخ يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2022، كان عدّاد وزارة الصحة يسجل 3160 إصابة بالكوليرا و18 وفاة، بينما ذكرت اليونيسيف أنّها حذّرت (1) مراراً من أنّ "البنية التّحتيّة للمياه في لبنان على حافة الهاوية"، و"لم يتمّ حلّ الأزمة، ويتأثّر ملايين الأشخاص بمحدودية المياه النظيفة والآمنة".

"الكوليرا" ليس سوى عارض من عوارض شبكات إمداد المياه والصرف الصحي المتعثرة في لبنان، والتي تعكس عدم استعداد البلاد للتصدّي لواحدة من نتائج تغيّر المناخ المتمثلة بزيادة شدّة المتساقطات. فالأمطار الشحيحة، والتي تهطل بشدّة في وقت قصير، تُرهق شبكات الصرف الصحي المهترئة أساساً، فتغرق الطرقات بفيضانات الأمطار، وتنقل إلى المياه الجوفية ترسبات محطات المحروقات والشحوم الصناعية، بالاضافة إلى القاذورات العضوية والنفايات الصناعية والطبية التي لا تخضع للمعالجة.

واليوم، تختفي "خطّة النهوض بقطاع المياه" التي استعر النقاش حولها منذ منتصف العام الجاري 2022. والخطّة التي كلّفت 9 مليار دولار، تضمّنت 2 مليار دولار لتغطية الدراسات. يتناولها أحد الخبراء معلّقاً بسخرية: "لو أردنا اكتشاف المياه على كوكب المريخ، لما كلف الأمر هذا المبلغ"!

لا يسود الهدر وقصر النظر وانعدام السياسة الوقائيّة ملفّ تغيّر المناخ دوناً عن سواه. تشكّل هذه السمات نمطاً ملازماً لكافة السياسات العامّة في لبنان، ولو وضِعَتْ الخطط وسُنّت القوانين. حال أسبغت على لبنان وصف "الدولة الفاشلة"، وبلاد تقبع في "شرك الحوكمة". فسياسات لبنان خاضعة لتوافق زعماء الطوائف الذين يجترحون حلولاً غير جديرة سوى بتحاصص المكاسب. وعلى هذا المنوال، يتعاطى لبنان مع أزمة المناخ بنهج التخلي والهروب إلى الأمام وسياسة الاقصاء التي تبتر آليات المحاسبة، وعدم الاجتهاد لتوقّي الأزمات وحتى استيعابها عند الانفجار. وعادة ما تُحفَّز الإصلاحات، إن وُجدَت (وهي شكليّة) بفعل عوامل خارجية، لأنها تهدد لبنان بحرمانه قروض وهبات دوليّة.

لا لبس في الأدلّة حول قصور لبنان في إدارة تغيّرات المناخ، وترتبط تأثيراتها الكبيرة بملفّي النفايات والكهرباء، يضاف إليهما الثروة الحرجية. معلوم أن ثاني أكسيد الكربون هو من أهم الغازات الدفيئة التي تساهم في الاحتباس الحراري وتالياً تغيّر المناخ، هو غاز ينبعث بوفرة من النفايات الصلبة، ومن حرق الوقود الأحفوري لتوليد الكهرباء والذي لم يستبدله لبنان بالطاقة النظيفة، كما ينبعث هذا الغاز من احتراق الغابات. وترجع التحديات إلى غياب الإدارة الكفوءة والفعّالة، بدءاً من سُلطة وزارة البيئة وصولاً إلى انفجار بيروت الذي يفضح اهتراء الدّولة، وسموميّة الهواء الناجم عن الانفجار، وهو الذي لم تتوقَّ منه الدولة عند إهمال تخزين "نيترات الامونيوم" بتلك الشروط السائبة وتلك الكميات الكبيرة - أي قبل وقوع المأساة - ولا تبذل مسعىً صادقاً لاحتواء نتائجه وآثاره بعد المأساة.

سلطة تنفيذية بلا سلطة

يكمن في إدارة تغيّر المناخ عطب بنيويّ تلحظه محدودية صلاحيات وزارة البيئة، وضياع الصلاحيات ضمن عدّة مؤسسات وقطاعات انتاجية، وبيروقراطيّة غير منتجة، وتشريعات فضفاضة، وميزانية هزيلة (لا تتعدى 400 ألف دولار أمريكي). والنتيجة، أمست وزارة البيئة أقرب لهيئة إستشارية، عاجزة عن إدارة أزمات تغيّر المناخ.

في خطوة متأخرة، أصدر لبنان عام 2002 قانون "حماية البيئة" رقم 444، كنوع من تشريع شامل يُعنى بقطاعات مختلفة كالصناعة والنقل والطاقة، وما يتصل بالنشاط البشري كالمياه والتربة والتنوع البيولوجي، ويتناول مبادىء عامة لحماية البيئة، وجميع تلك المجالات تصب في حقل التغيّر المناخي. ولكن، لا يمكن اعتبار القانون مفعّلاً بدون فرض مراسيم تطبيقيّة، وهذا ما يحصل ببطء شديد. فبعد 12 سنة على صدوره، اكتفى مجلس الوزراء بصدور 4 مراسيم تطبيقية من أصل 20 مرسوماً، ما ينحو لوصف هذا التّشريع بـ"قانون رمزي"، تسنّه السلطة لمحاكاة توجّهات بيئية ومناخية دولية، ولا يسلك آليات جدّية تجعله نافذاً.

ويناقش (2) الخبير البيئي حسن دهيني أنّ القانون أناط بوزارة البيئة وضع سياسات عامّة تتعلق بآثار التغير المناخي، لكن الوزارة لا تستطيع ممارسة دورها الرقابي، كمثل "طبيب جرّاح يعمل بدون مبضع"، بحيث تتفرّع الأدوار كالآتي: تتولّى البلديات أو مجلس الانماء والإعمار كنس وجمع النفايات، أمّا معامل الفرز والتسبيخ، فيدار معظمها من وزارة شؤون التنمية الإداريّة، ويتولّى مشاريع المطامر مجلس الانماء والإعمار. وهذا ما ينقلنا إلى أزمة النّفايات.

• بؤر جبال النفايات السامة

تنتشر أكوام القمامة في لبنان، وتشكل "جبال نفايات" ضخمة، هي بطبيعتها مكبات عشوائية، نشأت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) على شواطىء العاصمة بيروت، وطرابلس عاصمة الشمال وثاني أكبر المدن، وصيدا جنوباً، وقياساً على ذلك في كافة المناطق.

ينتج عن تخمّر النفايات غازا ثاني أوكسيد الكربون والميثان، وتفرز الجبال القريبة من الشاطئ او الواقعة عليه عصارات سامّة تُلوّث التربة والمياه الجوفيّة وتقتل التنوّع البيولوجي في البحر المتوسّط. وتشكّل هذه الانبعاثات والعصارات علامات يمكن ترصد تبعاتها في التغيّر المناخي. ينتشر في لبنان 941 مكبّاً أطلقت "هيومن رايتس ووتش" حيالها صافرة إنذار عام 2017، لكن لبنان لم يتقدّم في الحلول قيد أنملة.

إلى ذلك، تمخّضت كوارث المكبّات عن القانون 2018/80 للإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، ومضمونه مجموعة توصيات غير ملزمة: 29 مادّة، "التخفيف" و"قدر الإمكان" و"من الضروري"، و"تسهيل"... عبارات مكرّرة لا تفرض أو تمنع شيئا. ولكنه "أفضل الموجود"، بتعبير نائب أزعجته الانتقادات الموجهة للقانون، فلبنان سيُحرم هبة "سيدر" (3) إن لم يكترث لمعضلة النفايات. ويتعامل المسؤولون السياسيّون مع النفايات في لبنان على أنّها سلاح زبائني، ومورد ماليّ هائل، من خلال عقود بالتّراضي وشبكة مصالح وتربطهم بالشركات المتعهّدة قرابات وشراكات مضمرة وعلنيّة.

• حرائق النفايات

شهد مكبّ طرابلس حرائق منذ 14 أيلول/سبتمبر الماضي تكرّرت على مدى شهر، وفي أعقابها أعلن وزير البيئة فتح مناقصة لإغلاق المكبّ.

ليس الحريق مفاجئاً وليس الأول، إنّما نتيجة تدابير إراديّة اتخذتها السلطة منذ ثلاثة عقود: احترق مكب طرابلس للمرّة الأولى عام 1998، ولكن لم يُطوّر حلّ بديل عنه سوى عام 2018، حين أُقرّ إنشاء "المطمر الصحي المؤقت" الذي يمهّد لمأساة بيئيّة منظورة، و"أدوات" هذه المأساة تنسحب على الإجراءات الخاصّة بالنفايات عموماً، (والتي حذت حذوها صيدا عام 2016): إنشاء المطمر بدون دراسة الأثر البيئي، وإقامة معمل لفرز النفايات والتسبيخ لتحويل النفايات إلى سماد عضوي. وتقع هذه البؤر من القمامات في طرابلس بمحاذاة أماكن سكن وورش أعمال والمرفأ والمنطقة الاقتصادية وسوق جديد للخضر ومسلخ أقفله وزير الصحة لعدم توفيره أدنى الشروط الفنية والبيئية، ليصار اليوم إلى إنشاء مسلخ جديد.

ولم يكد يبرد مكب طرابلس، حتى اشتعلت نفايات صيدا في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2022.
وتتجاهل سرديات الاحتواء الحلول المستدامة، فيجري تأهيل المكبّات من خلال توسعتها إو إقامة جدران دعمّ! ويحدث هذا بعد بلوغ المكبات مراحل الإشباع منذ سنوات، فتنهار أو تحترق.

• التمديد للخراب: مطامر ساحليّة

لا حلّاً فوريّاً للتخلّص من جبال النفايات، وعدّاد الآثار المناخية ينفجر بالعواقب، فيما تكتنز هذه البؤر العشوائية البيوغاز القابل للاشتعال. ذلك أنّه من الممكن فقط سحبها من خلال حفر آبار لاستخراج هذه الغازات وحرقها بطريقة آمنة. وفي مكبّ طرابلس، توقّفت الآبار والمحارق منذ عام 2013، لأنّ أكوام النفايات الفائضة طمرتها وعطلتها. اعترت المخاوف سكان المدينة ومحيطها بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020. وحين أكّدت التقارير العلمية وشوك اشتعالها، عرض مجلس الانماء والإعمار مناقصتين لإغلاق المكبّ، لكنّ أحداً لم يتقدّم لها بسبب الأزمة الماليّة.

"حلّ" الإغلاق المتأخر والّذي كان يفترض أنّ يجري عام 2018، ما هو سوى نتيجة حلول غير مسؤولة: مُدّد للمتعهد في سنوات 2003، و2008 و2013، لأنّ بلدية طرابلس لم تتّفق على بديل للمكب. وفي سنة 2018، أقرّ "المطمر الصحي والمؤقت" الذي يعمل بجانبه معمل الفرز والتسبيخ (وله هو الآخر متعهد). المعمل المغلق اليوم كان يبث الروائح الخانقة المليئة بالملوثات، وكان أغلق ثلاث مرات بسبب أدائه السيء. وفي وقت تسير ببطء شديد المحاسبة القانونيّة عن "نقل" معدات من المعمل بشكل مخالف للأصول، تُطمر في المكان كلّ نفايات طرابلس والبلديات المجاورة (الميناء، البداوي، القلمون). ويقول الخبراء أنّ الأزمة الاقتصاديّة قلّلت من انتاج النفايات بمعدل 100 ألف طن سنويّاً، الأمر الّذي أبطأ إشباع المطمر. ومع ذلك، لم تستفد السلطة من كسب الوقت، فهي لا ترى حلّاً سوى التمديد لمطمر طرابلس، وهو تدمير جديد للهواء.

"طلعت ريحتكن": أوساخ ومركزية وهدر

ما يحصل هو سيناريو ألفته بيروت في أزمة نفايات عام 2015 التي أطلقت إحتجاجات شعبيّة واسعة تحت شعار "طلعت ريحتكن". وقد لفّت الاحتجاجات المدن المركزية، واستخدمت حيالها قوى الأمن القوة الضاربة. لكن السلطة مددت للخراب: توسيع مطمر برج حمود في ضاحية بيروت الشمالية عموديّاً، وإعادة فتح مكب الناعمة (الضاحية الجنوبية لبيروت) لمدة شهرين، وتطوير ثلاثة مطامر ساحلية في بيروت. وفي نيسان/أبريل من عام 2020، وصل مكب برج حمود مجدداً إلى سعته النهائية، فأعيدت توسعته رأسيّاً.

وتترافق أزمة النفايات مع الهدر المالي في علاقة سببيّة طرديّة. حسب برنامج الأمم المتحدة الانمائي، بلغت قيمة كلفة التدهور البيئي من قطاع النفايات الصلبة نحو 200 مليون دولار في عام 2018. في الوقت نفسه، حققت الشركة الخاصة التي لُزمت منذ عالم 1996 جمع ومعالجة النفايات في بيروت وجبل لبنان إيرادات سنويّة تجاوزت 170 مليون دولار، وهو ما يعدّ أعلى عائدات إدارة نفايات في العالم، إذ ينفق لبنان 154.4 دولار لإدارة كل طنّ من النفايات الصلبة، بينما تنفق كل من الجزائر والأردن وسوريا 7.22 دولار و22.8 دولار و21.55 دولار على التوالي. ويتأزّم المشهد مع دولة تصارع للبقاء ومؤسسات منهارة، ناهيك عن أزمة ماليّة أطاحت بمكاسب المتعهّدين. وعليه، غدت التكلفة العالية لنقل النفايات، ما يهيّء الظروف لانتشار أكوام القمامة في كلّ مكان.

الكهرباء: شبكة كربونيّة

عام 2015، تنقّل (4) رئيس مجموعة البنك الدولي جيم يونغ كيم بين جامعات عريقة، محاضراً في وصايا بقاء الكوكب: "يجب أن يواصل الاقتصاد النمو، فلا مناص عن النمو... لكن ما يجب علينا فعله هو فصل النمو عن الانبعاثات الكربونية". اقترح كيم خمسة إجراءات، من بينها "إنهاء دعم الوقود الأحفوري"، و"استخدام كفوء للطاقة واستخدام الطاقة المتجددة"، و"محاربة تغيّر المناخ في كلّ ما نفعله". عمليّاً، يساهم لبنان في تغيّر المناخ في كلّ ما يفعله، ولم يحصل رفع الدّعم عن الوقود سوى عام 2022 بسبب انهيار لبنان المالي وشروط الاقتراض من البنك الدولي، ولم يكن المناخ في الحسبان، كما أنّ لبنان يستهلك الطاقة الملوِّثة لتوليد الكهرباء ـ ولا بوادر لاستبدالها بالطاقة الخضراء:

- يعتمد لبنان منذ السبعينيات من القرن العشرين الفائت على المحطات الحرارية لإنتاج الكهرباء، وهي تستخدم الفيول أويل، والديزل أويل أو الغاز أويل عوضاً عن الغاز الطبيعي، ما يُنتِج تلوثاً أكبر وكلفة أضخم.
- في لبنان 7 معامل حراريّة قديمة، وأداؤها غير كفوء وتحتاج الى الصيانة، وهي الجية عام 1970، الذوق 1984، صور 1996، بعلبك 1996، الحريشة 1996، الزهراني 1998، ودير عمار 1998.
- في أرقام عام 2020، ينتج لبنان نحو 2000 ميغاواط من الكهرباء سنوياً، في حين تتخطى احتياجاته 3600 ميغاواط، والعجز إلى ارتفاع.
- منذ 30 عاماً، تتنامى شبكة موازية غير شرعية لانتاج الكهرباء مكوّنة من المولدات الخاصة. يلقّبهم المواطنون بـ"أمراء الأزمة"، في ظلّ احتكار المولّدات المستفيدة من شبه انعدام التغذية الكهربائية النظامية. ويتجاوز أعداد هذه المولدات ال 7000 مولّد، تتكاثر بسببها الانبعاثات الكربونية. ولا يخضع هذا "البزنس" للضرائب، وتربو أرباحه السنوية على 2 مليار دولار أمريكي.
- وضعت عام 2010 أول خطة كهرباء، وهي اعتمدت على انشاء معامل حرارية لسد العجز، ولكن نظامها لا يراعي التغير المناخي، فالمخطط أيضاً تغذيتها بالمواد الأحفورية. وهذه الخطة "مؤقتة"، لارتهانها باستئجار بواخر الفيول والغاز. وأقرّ مجلس النواب خطّة ثانية في نيسان/أبريل 2019، علماً أن تفاصيلها تتشابه مع الخطة السابقة.

يحتل ملف الكهرباء مقدّم النقاش اللبناني، ولكن طرحه عالق في إطار المزايدات السياسية وتراشق المسؤوليات، ولا هموم أو أي اعتبار لتغيّر المناخ، ولا يُلتفَت لأي فكرة تستحضر مثلاً "الاقتصاد الأخضر".

غابات تتشح بالرماد، ولكن...

تؤكّد الدراسات العلمية أنّ إزالة الغابات، إلى جانب سلوكيات أخرى في استخدام الأراضي، مسؤولة عما يقرب من 25 في المئة من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. هذا الأمر مشهود في لبنان، حيث لا إدارة غابات وأحراج مسؤولة توقف اهتراءها بالحرائق وتآكلها بالكسارات (استخراج التربة البيضاء).

في الحرائق: يتفاعل احتراق الأشجار في لبنان مع تغير المناخ ضمن دائرة جحيميّة. فارتفاع الحرارة، كأحد أهم تمثلات التغير المناخي، يؤجج النيران في المساحات الخضراء، إلى جانب حوادث بشرية متعمّدة يأتي في مقدّمها تأمين التدفئة من احتطاب الاشجار، وقد ازدادت مع الأزمة الاقتصادية المتنامية منذ 2019.

وكرّت سبحة الحرائق وتوسّعت رقعتها في عام 2019، حيث أعلن الدفاع المدني عن نشوب 100 حريق. ويذكر مدير برنامج الأراضي والموارد البيئية في جامعة البلمند، جورج متري، أنّه عام 2019 احترق 3000 هكتار من غابات لبنان، وعام 2020 احترق 7000 هكتار، أي ما يعادل 3 أضعاف و7 أضعاف المعدلات السنوية على التوالي.

ويدوّي وقع هذه النواقيس المناخية، والسلطات متجاهلة، في ضوء أنّ لبنان يحتضن بالأصل خزّاناً إيكولوجيّاً أخضر يحتل 24 في المئة من مجمل مساحته، ويتوزع ما بين 13 في المئة غابات و11 في المئة أحراج! وعوضاً من أن يكون لبنان رئة طبيعيّة تتصدى للتغير المناخي، فإذا بنعمة الغابات تنقلب إلى نقمة تساهم فعلياً بالتغير المناخي.

بالمقابل، لا بدّ من الاستشهاد بنجاح - استثناء، يخرق قصور السلطة اللبنانية وجرميّتها في مسألة الغابات. إنّها تجربة وزير البيئة الذي نجح عام 2022 بخفض حرائق الغابات بنسبة 91,7 في المئة مقارنة بالسنوات الثلاث السابقة، ولم يحتج ميزانيات ولا قوانين ناظمة بل نجح بفعل استنهاض موارد بشرية وعلمية موجودة بالأصل (وخصوصاً وزارتي الداخلية / الدفاع المدني، والزراعة/ حرّاس الغابات)، والجيش، ووحدات إدارة الكوارث في البلديات، ومتطوعين، ولجان المحميات ومراكز بحثية... تصلح هذه النتيجة المثمِرة لاعتمادها نموذجاً في الإدارة الفعالة للغابات، حيث نجحت بأقل كلفة في تفعيل الرصد والوقاية والمحاسبة والتدخل السريع ورفع مستوى الوعي البيئي.

في المقالع والكسارات: عوضاً عن تشجيع التشجير وزيادة الخضرة، تأكل الكسّارات والمقالع طبيعة لبنان الخضراء، مستغلّة "موميائية" القوانين (المرسوم 2002/8803 لتنظيم المقالع والكسارات)، حتى بلغ عددها 1356 مقلعاً وكسّارة. وعلى الرغم من أنّ الموافقة ممنوحة من المجلس الوطني للمقالع والكسارات الذي يرأسه وزير البيئة، فإنّ المسؤولية المباشرة مناطة بالمحافظ الذي يصدر التراخيص. وفي بعض الأحيان يكون القانون غطاء للمخالفة، مثل رخصة "استصلاح الأراضي" التي تشكّل ذريعة للكسارات، وهي اختصاص وزارة الزراعة.

وقد كشف وزير البيئة تقييم الإيرادات الواجبة على المقالع والكسارات، وتبيّن بعد دراسة 20 في المئة من الملفات، وجوب دفعها مبلغ مليار و200 مليون دولار. ويقدر مجموع الإيرادات غير المدفوعة للدولة بأكثر من سبعة مليارات دولار!

وهكذا تدور دوّامة الهرميات والقوانين-المتاهات، في عمقها انتفاع ومزارب ثروات للمتنفّذين.

انفجار المرفأ: متفق عليه

في ذكرى سنة على الانفجار، انتقلت الأمم المتحدة إلى سؤال "بعد انفجار مرفأ بيروت في 2020: كيف يمكن الاستفادة من دروس تخزين ونقل المواد الخطرة؟". ومنذ وقوع الكارثة تسابق الأوروبيون، وخصوصاً شركات فرنسية وألمانية، لتحسين إدارة الكارثة، متيقظة لما ستجنيه من أرباح.

غير أنّ السلطة في لبنان جاهدة في تعطيل التحقيق الجنائي والتستر على تورط مسؤولين لبنانيين كبار في الانفجار. وشهد لبنان منذ تموز/يوليو 2022 انهيار صوامع أهراءات الحبوب على أربع مراحل، والّتي لولا صدها الموجة التفجيرية بحكم حجمها وقوة خرسانتها، لدُمّرت المدينة بأسرها. لكن اللبنانيّين اهتدوا لنهاية الحكمة منذ الأيام الأولى للمأساة، حيث تركوا على حائط المرفأ غرافيتي "دولتي فعلت هذا".

ويذكر أنّه في شباط/فبراير 2021، أنهت شركة "كومبي ليفت" الألمانيّة معالجة 52 حاوية تضم موادا كميائية شديدة الخطورة اكتُشفت في المرفأ، وذلك بمشروع كلّف لبنان 3.6 مليون دولار. وباستثناء استثمار بعض الحديد لغايات ربحيّة، لم تحرّك السّلطات اللّبنانيّة ساكناً لازالة الرّدم، بل أنّ الفرق المحليّة المكلّفة عجزت عن التّعامل معها.

وخلص تقرير دولي بالأدلة (5) إلى السلوك الجرمي في سوء الإدارة المستتب في انفجار المرفأ، وهو الذي سمح بتخزين 2750 طنّاً من نيترات الأمونيوم لست سنوات. ولا تهاب السلطة اللبنانية الأضرار النّاجمة عن إنفجار 4 آب /اغسطس 2020، وهي تحتشد بالملوّثات المتسببة في تدهور المناخ:

- مَن يشاهد فيديو الانفجار يلاحظ اللون البرتقالي للسحابة، والتي يطلق عليها اسم"المشروم" (لشبهها بالفطر). يعزو الأخصائيون الأمر إلى أوكسيدات النيترات السامة NOx، وهي مواد سريعة التفاعل، تحوّلت خلال ساعات إلى مركّب حامض النيتريك، وفي اليوم التالي إلى أمطار. ولحسن الحظ، أنّ الرياح التي رافقت الانفجار خففت من تركيز الغازات. ورافق السحابة انبعاث مواد أخرى سامّة مثل الهيدروكربونات الأروماتية الحلقية، وجزيئات الدخان الأسود الملوث.

ووفق مجلة "للعلم" (6)، اختلط هذا الغبار بالجزيئات الدقيقة من الزجاج المتشظي في الهواء، وتنفّسته بيروت مرةً أخرى.

- خطر بطاريات السيارات والنفايات الالكترونية كالحواسيب المُدمَّرة، ومن بين المواد الأكثر شيوعاً في هذه المخلّفات الكادميوم والرصاص وأكسيد الرصاص والأنتيمون والنيكل والزئبق. وهي عناصر سامّة تلوِّث الأنهار والبحار، وتطلق غازات تلحق ضرراً بالمناخ. كما تحتاج هذه الأنواع من النفايات الى إدارة خاصة غير متبعة في لبنان.

وفيما يتيقّظ الكوكب لأولوية الطوارىء المناخية، يغط لبنان في سبات عميق. وإنْ تحرّك، يحصل هذا ضمن سباق محموم بين أطراف السلطة لاستنزاف موارده الطبيعية، بلا هوادة أو خجل. 

محتوى هذه المقال هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

______________________

1- تقرير يونيسيف "البنية التحتية للمياه في لبنان على حافة الهاوية وآفاق الحلّ قاتمة"، تموز/يوليو 2022، موقع أخبار الأمم المتحدة. https://news.un.org/ar/story/2022/07/1107462
2- "وزارة البيئة: تحديات، صلاحيات، أولويات"، كانون الأول/ديسمبر 2021،
https://www.imlebanon.org/2021/12/08/ministry-of-environment-crisis/   
3- عن هبة "سيدر": https://bit.ly/3EXYpEA        
4- "5 وسائل للحد من أسباب تغيّر المناخ"، آذار/مارس 2015، موقع البنك الدولي.  https://bit.ly/3gVZ15B                       
5- موقع "هيومن رايتس ووتش"، "دبحونا من جوا": تحقيق في انفجار بيروت في 4 أغسطس/ آب، أيلول/سبتمبر 2021
https://www.hrw.org/ar/report/2021/11/12/379416     
6- انفجار بيروت: رحلة الغازات السامة وآثارها الضارة على البيئة، آب/أغسطس 2020، موقع "مجلة للعلم".  https://bit.ly/3gYUgbm   

مقالات من لبنان

للكاتب نفسه

طرابلس/ لبنان "مدينة الأنوار" في رمضان

أنوار رمضان المضاءة اليوم في طرابلس تبدو ذات دلالة ثانية مستجدة. هي وليدة أدوات الحاضر واحتمالاته، فتظهر كفعل تجاوزيّ لكومٍ من الأزمات والعوائق التي تتراكم في ذهنية المواطنين لتخلق وتوطد...