سوريا: عندما ترفض "النيوليبرالية" وتطبّق تعاليمها

هل تستقيم فرضية أن التوجهات الاقتصادية النيوليبرالية لا بد أن تترافق مع إجراءات سياسية؟ الشركات والمؤسسات التي قد تساهم لاحقاً في إعادة اﻹعمار أو الاستثمار في سوريا لن يعنيها أي تغيير سياسي، بقدر ما تعنيها التغيرات الاقتصادية التي تساهم في زيادة أرباحها. والدليل قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991 الذي شكل بداية مرحلة "الانفتاح" الاقتصادي من دون أي أثر سياسي.
2022-11-21

كمال شاهين

كاتب وصحافي من سوريا


شارك
أحمد السوداني - العراق

دعمت الدولة في سوريا، عبر تاريخها الحديث (القصير نسبياً منذ الاستقلال)، وموّلت قطاعات "الميزانية الاجتماعية" في التعليم ونظام التقاعد والضمان الاجتماعي والتأمين ضد البطالة وقروض السكن وغيرها. وقد جرى ذلك وفق حسابات لدى الدولة والنظم الحاكمة، وعلى رأسها ضآلة ثروة غالبية السوريين وكذلك اعتبار توظيف هذا الدعم في الصراعات السياسية والاقتصادية.

ولكن خفض تلك النفقات بدأ من سنوات ولم يقتصر على قطاعات مستهلِكة، مثل الصحة والتعليم، بل وصل إلى التوقف عن دعم القطاعات اﻹنتاجية الاستراتيجية مثل الزراعة والصناعة (وليس التجارة)، في ما يبدو أنه توجه رسمي للتخلص من نظام "دولة الرعاية"، ولكن لم تتضح بعد ملامح الشكل الجديد للدولة نظراً للظروف الحاكمة للمشهد السوري ككل.

فهم دولة الرعاية السورية باختصار

حضرت في سوريا سلطة الجيش والعسكر بوضوح منذ الاستقلال، وتبعاً لمتغيرات عالمية ومحلية، تحوّل نمط الدولة السياسي من نمط كولونيالي بناه الاستعمار إلى نمط الدولة المتدخلة بكثافة اعتباراً من انقلاب البعث العسكري العام 1963. أي تحوّلت سوريا إلى دولة لها حكومة شديدة المركزية تمتلك سلطة توجيه وتخطيط السياسات الإقتصادية والاجتماعية وتغيِّب هامش الحرية الفردية لصالح المصلحة الجماعية للمجتمع كما تراها السلطة.

في العقود التالية لاستلام البعث السلطة في العام 1963، وصولاً الى بداية عهد الرئيس بشار اﻷسد، عززت الدولة الطابع الرعائي واﻹشرافي والتحكمي على كافة قطاعات المجتمع السوري، اﻹنتاجية وغير اﻹنتاجية، من الصحة إلى الزراعة إلى الثقافة. وتثبت ذلك في مختلف الدساتير السابقة، وصولاً حتى آخر دستور (العام 2012) الذي نصّ في المادة 13 فقرة 2، والمادة 25، على أنّ "التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية أركان أساسية لبناء المجتمع، وتعمل الدولة على تحقيق التنمية المتوازنة بين جميع مناطق الجمهورية العربية السورية"، كما "تكفل الدولة كل مواطن وأسرته في حالة الطوارئ والمرض والعجز واليتم".

لعقود طويلة، أدت سياسة دعم القطاعات اﻹنتاجية، والزراعة على رأسها، إلى تحقيق اكتفاء ذاتي في العديد من المنتجات الاستراتيجية مثل القمح والشمندر والقطن، وهو ما ساهم بالحفاظ على حدٍ من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. وقد ربط النظام الحاكم بين تقديم هذه الخدمات وإقصاء الناس من المجال السياسي، وهندسة المجال العام، بحيث يبقى متحكَماً به من قبل منظومات الدولة الأمنية وأجهزتها.

في دولة الرعاية السورية، وعبر خمسة عقود، كان هناك استشفاء مجاني وضمان صحي ونظام تقاعد للموظفين والعسكريين والعموم، وتعليم مجاني حتى المرحلة الجامعية، وقدمت الدولة دعماً واسع الطيف للقطاعات الخدمية واﻹنتاجية بدرجة واحدة تقريباً، حيث دعمت الوقود والبذار واﻵلات للمزارعين والصناعيين، وقدّمت كهرباء ومياهاً شبه مجانية.

لعقود طويلة، أدت سياسة دعم القطاعات اﻹنتاجية، والزراعة على رأسها، إلى تحقيق اكتفاء ذاتي في العديد من المنتجات الاستراتيجية مثل القمح والشمندر والقطن، وهو ما ساهم في انخفاض أسعار المنتجات المشتقة من هذه المحاصيل بما في ذلك المصنّعة منها، مثل الخبز والسكر والأقمشة. وساهم ذلك في الحفاظ على حدٍ من الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. وهذا مع ملاحظة وجود تباين في جودة الخدمات المقدّمة في القطاعات غير اﻹنتاجية، لا سيما في الصحة والتعليم والإسكان، على الرغم من أنها القطاعات الحيوية اﻷكثر أهمية وتماساً مع الناس، وكذلك وجود قضايا فساد كبيرة في هذه القطاعات. إلا أنها على العموم بقيت سنداً كبيراً لملايين السوريين في الحصول على الاستشفاء والتعليم والضمان التقاعدي وحتى تأمين السكن، خاصةً أته لا وجود لربط بين الحد اﻷدنى الحقيقي لمستوى المعيشة وسلّم اﻷجور.

مقالات ذات صلة

كثيراً ما كان اﻹعلام الرسمي يشيد برؤية الدولة السورية لهذا الدعم معتبراً إياها إنجازات تُحسب للدولة وللحزب الحاكم وللقيادة السياسية. ولم يسجل يوماً أنّ هذا الدعم هو، بشكل ما، تعويض للسوريين عن هزال اﻷجور التي يتلقونها حيث كان متوسط دخل الفرد السوري أقل من نظيره في الجوار.

لم تجرِ محاولات لاصلاح اعطاب "نظام الرعاية الاجتماعية" بل جنوح لتصفية برامج الدولة وواجباتها الاجتماعية لصالح فئات محددة من اﻷثرياء، الفاسدين قبل أي شيء، والذين هم نتاج نظام الفساد في الدولة. 

إلى ما سبق، يصح القول إنّ النظام الحاكم ربط بين تقديم هذه الخدمات وإقصاء الناس من المجال السياسي، وهندسة المجال العام، بحيث يبقى متحكَماً به من قبل منظومات الدولة الأمنية وأجهزتها. وكثيراً ما تكررت تصريحات حكومية بأن تكلفة الدعم الحكومي للخبز أو الكهرباء فوق القدرة الحكومية على الدفع واﻹنتاج، الى أن تحولت هذه التصريحات إلى واقع عملي خلال سنوات الأزمة السورية الراهنة.

دولة الرعاية قبل سنوات الحرب: فرصة ثراء جديدة!

لا شك أنّ منظومات دولة الرعاية الاجتماعية هي من أهم مؤسسات القرن العشرين، الحامية لكرامة وإنسانية الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ولكنها وفي الوقت نفسه حملت في طرق تنفيذها أسباباً محتملة لتحولها إلى منظومات فاسدة بالنظر إلى طبيعة اﻷنظمة الحاكمة عموماً، وغياب الشفافية فيها. وهذا ما دفع الى بروز مطالبات بالخصخصة والتخفيف من واجبات الدولة بل وانسحابها من هذا الدور.

لم تجرِ محاولات لاصلاح اعطاب "نظام الرعاية الاجتماعية" بل جنوح لتصفية برامج الدولة وواجباتها الاجتماعية لصالح فئات محددة من اﻷثرياء، الفاسدين قبل أي شيء، والذين هم نتاج نظام الفساد في الدولة. الدافع الحقيقي لطرح أفكار "فشل نظام الرعاية الاجتماعية" هو خلق مطارح جديدة لاستثمار الطبقة الثرية التي وجدت في القطاعات المذكورة منجماً للأموال وتحقيق مزيد من الثروات، ومنها قطاعات التأمين والصحة والتعليم في سوريا، وكذلك إيقاف العديد من الزراعات لصالح الاستيراد من قبل أشخاص مرتبطين بالسلطة، مثل استيراد السكر واﻷرز والقطن والطحين.

بدأت عمليات تخفيض الدعم بالتسارع مع الخطة الخمسية العاشرة، أي منذ التبني الرسمي لما سمي "اقتصاد السوق الاجتماعي" العام 2005، وقد كان شبه واضح من وقتها أنّ هذا السوق الذي هلل لفكرته "الرفاق" لا يعدو أن يكون تشويهاً للمفهوم، وهو لا يبتعد كثيراً عن وصفات البنك الدولي وشريكه صندوق النقد الدولي، وإن كان اﻹعلان الرسمي عن ذلك لم يحصل حتى اﻵن.

خلال سنوات ولاية الرئيس بشار اﻷسد اﻷولى، ظهرت بوادر عمليات الخصخصة بدءاً بقطاع الصحة، ثم التعليم، فبدأت الخصخصة الصحية ضمن المشافي الحكومية حيث ظهرت عمليات الاستشفاء المدفوعة اﻷجر، بهدف تخفيف تكاليف القطاع الصحي ودعمها بمزيد من الموارد وفق تصريحات الحكومة، وتم طرح الاستشفاء المدفوع في المشافي الحكومية إلى جوار المجاني، على أنّ تكاليفه كانت أقل من تكاليف الاستشفاء في القطاع الصحي الخاص، وفي مراحل لاحقة تم تحويل أقسام كاملة في مشافي حكومية إلى نظام الاستشفاء المدفوع. واليوم، غالبية مشافي وزارة الصحة والتعليم العالي لديها هذا النظام.

في التعليم ظهرت جامعات خاصة قاد إنشاءها غالباً شخصيات من الصف الحكومي اﻷول، مثل رؤساء مجلس الوزراء السابقين (خمس جامعات من أصل ثمان)، في ظاهرة مفهومة ومرتبطة بالنظام السياسي، قبل أن يمتدّ انتشار التعليم الخاص إلى المدارس الثانوية ثم الابتدائية ورياض اﻷطفال بكثافة خلال السنوات التالية لبدء الحراك في البلاد، ويقاس هذا في عموم سوريا وليس فقط في المناطق الخاضعة لسيطرة دمشق.

كان الدافع الحقيقي لطرح أفكار "فشل نظام الرعاية الاجتماعية" هو خلق مطارح جديدة لاستثمار الطبقة الثرية التي وجدت في القطاعات المذكورة منجماً للأموال وتحقيق مزيد من الثروات، ومنها قطاعات التأمين والصحة والتعليم في سوريا، وكذلك إيقاف العديد من الزراعات لصالح الاستيراد من قبل أشخاص مرتبطين بالسلطة، مثل استيراد السكر واﻷرز والقطن والطحين.

ظهرت بوادر عمليات الخصخصة بدءاً بقطاع الصحة، ثم التعليم. فبدأت الخصخصة الصحية ضمن المشافي الحكومية حيث ظهرت عمليات الاستشفاء مدفوعة اﻷجر، بهدف تخفيف تكاليف القطاع الصحي، وفي مراحل لاحقة تمّ تحويل أقسام كاملة في مشافي حكومية إلى نظام الاستشفاء المدفوع. واليوم، غالبية مشافي وزارة الصحة والتعليم العالي لديها هذا النظام. 

المثال اﻷوضح لتوجهات تقليل حضور دولة الرعاية ظهر في قطاع التأمين، فبعد أن كانت شركة التأمين السورية ـ وهي شركة قطاع عام تأسست العام 1952 باسم الضمان السورية وتغير اسمها إلى المؤسسة العامة السورية للتأمين عام 1977 ـ تدير هذا القطاع بجدارة واكتفاء وتغطي مختلف القطاعات الإنتاجية وغير اﻹنتاجية، وكانت إيراداتها العام 2005 أكثر من 6.742 مليار ليرة (أي ما يعادل 134.8 مليون دولار بأسعار العام 2005)، أصدرت الحكومة المرسوم التشريعي رقم 41 العام 2005 الذي يسمح بإنشاء شركات تأمين خاصة، حيث ظهرت لاحقاً عشرات الشركات المملوكة ﻷشخاص مرتبطين بالنظام السياسي واﻷمني تعمل في هذا القطاع وتنافس في سحب البساط من إدارة شركة التأمين السورية، وصولاً إلى فرض التأمين الصحي عبر شركات خاصة محددة على موظفي القطاع العام وبنسب تغطية مالية وتأمين متفاوتة ولكنها غير كافية على العموم، وبالمقابل، تقوم الشركات على اقتطاع مبالغ مالية من رواتب الموظفين وتحويلها لهذه الشركات، بدلاً من أن يتم تحويلها لخزينة الدولة.

سنوات الحرب: مزيد من التراجع وفرص الثراء!

منذ اندلاع الأزمة في سوريا بدأت إيرادات الدولة في التراجع، في قطاعات إنتاجية (الصناعة أولاً بحكم حساسيتها العالية للمتغيرات المحيطة) حيث دمرت مئات المعامل الكبرى (معامل النسيج في حلب والأغذية في ريف دمشق) والورش الصغيرة والمتوسطة، وتوقفت مؤسسات إنتاجية كبرى مثل محطات توليد الكهرباء، ثم لحق الدمار البنية التحتية للدولة، عبر تقطيع أوصال البلاد وقطع الطرقات الاستراتيجية. ونتيجة للعمليات العسكرية المتسعة في بقاع البلاد، توقفت الزراعة، واتسع ترك اﻷراضي بوراً لسنوات طويلة.

اختل توازن نظام الحماية الاجتماعي السوري مع زيادة فقدان رأس المال الاجتماعي عبر الهجرة والنزوح وفقدان البلاد خبراتها. وحسب اﻷمم المتحدة، فإنّ الحرب تسببت بتآكل إنجازات التنمية البشرية. وسيكون إعادة بناء رأس المال البشري تحدياً أكبر من إعادة بناء البنية التحتية المادية بالنظر إلى الانقسام الكبير الذي ضرب عمق المجتمع السوري، واليوم، تحتاج سوريا إلى أكثر من ربع قرن للعودة إلى وضع العام 2011.

أدت الحرب بالتدريج إلى استنزاف مواز لقطاعات الحماية الاجتماعية غير الإنتاجية وأولها القطاع الصحي حيث خرجت عشرات المشافي والمراكز الصحية من الخدمة بعد دمارها أو نزوح العاملين فيها، وبالمثل، فقد عاش قطاع التعليم وضعاً مشابهاً، وفقدت كثير من المؤسسات قدرتها على العمل وسط ظروف البلاد العسكرية، لاحقاً اتجهت سلطات اﻷمر الواقع المختلفة في البلاد باختلاف مشاريعها وداعميها إلى تبني سياسات مختلفة في شأن مسائل الرعاية الاجتماعية لمناطقها مع استمرار عمل بعض المؤسسات الحكومية المركزية في تلك المناطق، مثل دفع رواتب المعلمين والموظفين من مالية دمشق.

خلال سنوات الحرب وحتى اليوم، عملت الحكومات السورية على محاولة التوازن بين العجز المتصاعد في الميزانية وضعف اﻹيرادات من جهة، وبين توقف الدورات اﻹنتاجية في كثير من القطاعات الاقتصادية من جهة ثانية، باتباع سياسات "التخلي" قدر اﻹمكان، أي اتّباع السياسات الليبرالية الاقتصادية، التي باتت نهجاً واضحاً لدى الحكومات السورية المختلفة لكنه مخفي حتى اﻵن بأقنعة مختلفة، وهذه اﻷفعال تجد صدى لها عند حكومات اﻷمر الواقع السورية وليس فقط لدى حكومة دمشق.

كان التبرير اﻷبرز لسياسات التخلي لدى دمشق ادّعاء أنّ هناك ضرورة ملحة لتوجيه الدعم إلى مستحقيه الفعليين من الشرائح اﻷكثر فقراً وفق تصريحات حكومية متكررة كثيراً في السنوات اﻷخيرة، إلى الحد الذي بات معه خبر رفع الدعم أو تخفيضه في هذا القطاع أو ذاك، خبراً شبه يومي عند السوريين.

في التعليم ظهرت جامعات خاصة قاد إنشاؤها غالباً شخصيات من الصف الحكومي اﻷول، مثل رؤساء مجلس الوزراء السابقين (خمسة جامعات من أصل ثمانية)، في ظاهرة مفهومة ومرتبطة بالنظام السياسي، قبل أن يمتدّ انتشار التعليم الخاص إلى المدارس الثانوية ثم الابتدائية ورياض اﻷطفال.

تم رفع الدعم الحكومي ليس فقط عن القطاعات الخدمية عبر تخصيص جزء كبير منها، بل عن قطاعات استراتيجية رئيسية، وعلى مدار السنوات السابقة ظهرت سلسلة طويلة من رفع الدعم الحكومي بدأت مع المحروقات اللازمة لعمل أي قطاع اقتصادي ـ التخلي عن دعم الوقود للمزارعين والصناعيين - ووصلت إلى الكهرباء التي صدر بشأنها مطلع تشرين الثاني / نوفمبر الجاري مرسوم رئاسي حمل الرقم 41 يسمح للشركات الخاصة بإنتاج الكهرباء بالطرق التقليدية (الفيول والغاز) والمتجددة (الطاقة الشمسية والرياح والمياه). ويمثل المرسوم اﻷخير نقطة فاصلة في توجهات الحكومة، إذ أنه قضى على أي أمل لدى السوريين بعودة الكهرباء إلى أي درجة من وضعها السابق في وقت تشهد فيه ساعات التقنين ارتفاعاً كبيراً من جديد وصل إلى مرحلة التعتيم الكامل عن اﻷحياء الشعبية.

تبرر الحكومة الحالية ـ مثل سابقاتها ـ رفع الدعم أو تخفيضه في مسائل كبرى مثل الطاقة والوقود ـ بعجز الموازنة ومحاولة تخفيف العجز. ولكن من الجليّ وفق حسابات الحكومة نفسها أنّ الوفر المفترض ليس له قيمة مالية واقتصادية كبيرة، والاحتمال الذي يجري تداوله والهمس به هو وجود "أجندة" وراء هذه السياسات، خاصة وأن رفع الدعم يشمل كل شيء.

وقد يكون التفسير هو ارتباط سياسة رفع الدعم بالحل السياسي القادم للأزمة السورية في وقت لاحق، تبعاً لتغيرات المنطقة والعالم الجيوسياسية والاقتصادية، أي تهيئة الظروف لاستقطاب الشركات العالمية إلى السوق السورية مباشرة أو عبر وكلائها المحليين الذين هم على اﻷرجح قادة حملة رفع الدعم نفسها من أعضاء الحكومة أو النظام وأتباعهم، يساعدهم في ذلك غلبة التوجهات العالمية نحو الليبرالية الاقتصادية وحالة الإنهاك التي يعيشها السوريون بمجملهم. ومؤخراً أشار تقرير للأمم المتحدة إلى أن أكثر من اثني عشر مليون سوري يعيشون دون أي ضمان لقدرتهم على تأمين وجبة غذائية واحدة في اليوم.

انتقائية في مواجهة «النيوليبرالية»

في نهاية العام 2020 حذّر الرئيس السوري في كلمة له أمام رجال الدين اﻹسلامي "من الخطر الذي باتت تمثّله النيوليبرالية على المجتمع السوري"، عبر "استهدافها المباشر للأسرة والقيم والعادات والحقوق الوطنية"، ولم تمض على كلام الرئيس أيام حتى انطلقت حملة إعلامية عبر المؤسّسات الحكومية والدينية والأهلية "ضد النيوليبرالية".

وعلى الرغم من أنّ كثيراً من السوريين لم يكونوا قد سمعوا بهذا المصطلح قبلاً، إلا أنّه بات حديثهم ﻷشهر متتالية وسط استغراب عن سبب تناول هذا الموضوع في ظل وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي سيء، وفي وقت تقوم فيه الحكومة السورية بكافة اﻹجراءات التي لا يمكن وصفها بغير إجراءات تنفيذية لتوجهات ليبرالية عالمية، وبضمنها الوصفات الشهيرة للبنك الدولي بإنهاء الدعم الحكومي لكل شيء في البلاد، وفي ظل حضور واسع اليوم لأثرياء الحرب وتجارها.

على الرغم من الايرادات العالية للضمان الصحي، أصدرت الحكومة المرسوم التشريعي رقم 41 العام 2005 الذي يسمح بإنشاء شركات تأمين خاصة، فظهرت عشرات الشركات المملوكة ﻷشخاص مرتبطين بالنظام السياسي واﻷمني تعمل في هذا القطاع وتنافس في سحب البساط من إدارة شركة التأمين السورية، وصولاً إلى فرض التأمين الصحي عبر شركات خاصة محددة على موظفي القطاع العام.

هل تستقيم فرضية أن التوجهات الاقتصادية الجديدة لا بد أن تترافق مع إجراءات سياسية؟ الشركات والمؤسسات التي قد تساهم لاحقاً في إعادة اﻹعمار أو الاستثمار في الكعكة السورية لن يعنيها أي تغيير سياسي، بقدر ما تعنيها التغيرات الاقتصادية التي تساهم في زيادة أرباحها على حساب السوريين، في ظل وجود انقسام مجتمعي وطبقي هائل في المجتمع السوري. ويمكن قياس ذلك باﻷثر الذي تركه قانون الاستثمار رقم 10 العام 1991 الذي شكل بداية مرحلة "الانفتاح" الاقتصادي من دون أي أثر سياسي.

التوقعات المستقبلية القريبة

حتى اﻵن لم تعلن دمشق أنها بصدد التخلي عن الدعم الاجتماعي، ولا يعود ذلك على الارجح إلى مشروع متكامل تقوم به يهدف إلى المحافظة على الدولة السورية، بقدر ما تسعى إلى اﻹبقاء على حالة الاستقرار الهش التي يعيشها السوريون وتجنب انفجار مجتمعي محتمل لا يمكن التنبؤ بنتائجه، وهذه المرة بدون أي تدخل خارجي. 

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه